المتدينون والاستبداد... الطريق إلى الإلحاد - مقالات
أحدث المقالات

المتدينون والاستبداد... الطريق إلى الإلحاد

المتدينون والاستبداد... الطريق إلى الإلحاد

عبد الحفيظ شرف:

 

تابعت أحد الأفلام الوثائقية العربية الجريئة تحت عنوان "في سبع سنين" والذي تحدث بوضوح عن تفاقم ظاهرة الإلحاد في العالم العربي. وظهور هذا الفيلم الوثائقي بحد ذاته يعتبر تغييرا في نمطية التعاطي مع مثل هذه القضايا التي غالبا ما يكون التعاطي معها بالتستر أو عدم الحديث عن المشكلة بالأساس وكأنها أمرا غير موجود أو ظاهرة لا تستحق حتى الحديث عنها.

عوّدنا كثير من رجال الدين على هذا الأمر. فهؤلاء، يشغلون أنفسهم وأوقاتهم بعظائم الأمور، كالحيض والنفاس والاختلاف الفقهي بين جواز سماع الموسيقى من تحريمها والجورب الذي يجوز المسح عليه وصفاته وطوله وعرضه وسماكته وهل هو شفاف أم لا؟ وما إذا كان فيه ثقب؟ وحجم الثقب المسموح؟ وغير ذلك من القضايا التي ستغير تاريخ ومسار الأمة كما يعتقدون.

يشير الوثائقي إلى دراسات تتحدث عن زيادة مضطردة في أعداد الملحدين الذين كان لديهم الجرأة ليعلنوا عن معتقداتهم وأفكارهم في عالمنا العربي؛ في مصر تحديدا وصلت النسبة إلى حدود 6 في المئة، وما يلفت الانتباه أن نحو 4 في المئة لديهم تساؤلات وجودية كبرى تصل إلى الذات الإلهية وكيفية الخلق وهل هناك خالق أم لا؟ ولكن ليس لديهم الجرأة الكافية للاعتراف بوساوسهم وتساؤلاتهم خوفا من ردة فعل المجتمع القريب الذي يعيشون فيه.

كما أظهرت الدراسة أن نسبة 24 في المئة من الشباب ما بين 24 ـ 38 سنة لا يعتبرون أن الحجاب فريضة دينية وهذه نسبة كبيرة للغاية.

تطل ظاهرة الإلحاد برأسها في وسط التغيرات الجذرية في عالمنا العربي وتحركات الشباب المحبط والذي يشعر بخيبات أمل متتالية، كما يشعر بإرباك وتخبط في ظل ضعف المشاريع القائمة والموجودة والتي تتسم بالهشاشة واللامنطقية في أغلبها.

تناولت هذه الظاهرة بشكل مستفيض مع عدد من المثقفين وأرباب الرأي في عدة دول عربية قبل خمس سنوات، وكانت ردة فعلهم الضحك أو وصفي بأني أبالغ كثيرا في الطرح، أما المنصف بينهم فاستمع بحذر شديد ولكن من دون قناعة حقيقة بوجود هذه الظاهرة. السبب الرئيسي لعدم التنبه لهذه الظاهرة وتزايدها، هو عدم الاختلاط بالشباب والجلوس في برج عاجي، والأهم قلة وجود (إذا لم نقل انعدام) مراكز رصد وأبحاث مجتمعية يستطيع الباحث من خلالها التأكد والتعرف على وجود مثل هكذا ظاهرة.

لا شك أن هذه الأرقام التي ذكرتها الدراسة صادمة لكثيرين، إلا انني أستطيع التأكيد أن هناك نسبة أكبر بكثير من المتسائلين وممن لديهم أسئلة تتعلق بقضايا دينية كبرى وبوجود الإله وأساس الخلق والجنة والنار، وكثير من الأسئلة الأخرى المتعلقة بالموت وما بعد الموت، وأسئلة أخرى تتعلق بالمبادئ الرئيسية الإسلامية المتعلقة بنظام الحكم والحاكم والتعامل مع الآخر غير المسلم وقضايا الحريات وغيرها الكثير والكثير.

فهناك من بدأوا التشكيك في كثير مما يعده المجتمع مسلّمات دينية موروثة من العصر السابق، وأصبح هناك جدل قائم حول صحة نسبة مثل هذه المسلّمات إلى الدين.

وأعتقد جازما أن الإسلاميين ورموزهم، من المشايخ والمفكرين والمثقفين والأحزاب والجماعات الإسلامية، هي أحد أهم أسباب هذه الظاهرة. فكثير من الخطاب الإسلامي الدارج هو خطاب عفا عليه الزمن وأكل عليه الدهر وشرب. فالخطاب المشايخي غير موجه للعقل وإنما ـ في معظمه ـ خطاب يطلب منك أن تترك عقلك خارج المسجد ثم تدخل لتسمع كلاما ليس له علاقة بالواقع ولا بالحلول، خطاب مكرر هزيل ضعيف المنطق والأداء ويتميز بالصراخ الدائم وفيه كثير من الحقد والكراهية.

لم يستطع رجال الدين الإجابة على أسئلة العصر وكانوا دوما متأخرين بسنوات كثيرة عن التسارع التكنولوجي الذي غير الحياة والعالم، فهم ما زالوا يعيشون في عالم ما قبل الثورة التكنولوجية، وحتى ما قبل الثورة الصناعية.

هذا الخطاب الديني كان إما خطابا مثاليا ينقلك إلى العيش في المدينة الفاضلة وليس له أدنى علاقة بالواقع المعاش، أو خطابا صوفيا خارقا للطبيعة وليس مرتبطا بالأسباب الدنيوية وإنما يدعوك لانتظار الكرامات والخوارق، أو خطابا رسميا سلطويا وهو أسوأ أشكال الخطاب الديني، فهذا الخطاب برر للقتل والدماء والظلم والاعتقال والتعذيب وجعل كل هذه الجرائم تحت مظلة الشرع الحنيف ودعا الناس إلى تمجيد الحاكم الظالم وتحريم الخروج عليه.

فكانت النتيجة هي فصل الدين عن الواقع المعاش وربطه بكل ما هو شائن وتحويله إلى خيال علمي ـ أو غير علمي ـ غير ملموس أو محسوس، وعليه ابتعد الشباب أكثر وأكثر وبدأوا يتساءلون ويبحثون عن طرق بديلة.

لن أخوض كثيرا في تحليل ظاهرة رجال الدين والمشايخ والخطاب الديني الذي شوّه الإسلام والدين الجميل وكان سببا حقيقيا يضع الشباب على بداية طريق الإلحاد، ولكني سأنتقل بكم إلى النتائج مباشرة:

كان الشباب يحلم بالعدل والحرية والنجاح ويطمح بمستقبل أفضل، ولكن فشل المشروع الإسلامي في تحقيق شيء من هذا بعد أن كان بارقة أمل لكثير من الشباب، زاد من الإحباط والخيبة وحول البوصلة إلى الغرب.

رأى الشباب أمثلة كثيرة من الجماعات الإسلامية التي تدعي أنها الحل لكل مشاكل الأمة، من الإخوان المسلمين الذين فشلوا في مصر لسبب أو لآخر ولا شك أنهم فشلوا في سوريا وليبيا والعراق وكانوا مثالا قبيحا للحل المنتظر، إلى داعش والنصرة والجماعات الإسلامية الذين ملأ إرهابها واستبدادها أرض البلاد والعباد وشاشات مواقع التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى نفور كبير جدا من قبل الشباب، فأدى ذلك إلى مزيد من التساؤلات التي أصبحت أكثر نضوجا. وتحضر هنا مقولة الغزالي الشهيرة "إن انتشار الكفر في العالم يحمل نصف أوزاره متدينون بغضوا الله إلى خلقه بسوء صنيعهم وسوء كلامهم".

لم يترك الاستبداد السياسي في عالمنا العربي مجالا للحركة الشبابية، إذ يراها خطرا محدقا يتربص بالأنظمة، وكعادة الاستبداد دائما ما يبحث له عن ارتباط ديني وثيق عبر هيئات إفتاء ورجال دين ليلبس عباءة الدين التي تعطي له الشرعية الدينية والأخلاقية.

الاستبداد السياسي كان سببا في توجه الشباب إلى الحركات الدينية في بداية هذا القرن بحثا عن مخرج وعن حرية ولكن الشباب وجدوا استبدادا أكبر داخل هذه الحركات الإسلامية؛ والاستبداد داخل هذه الجماعات يكون باسم الدين وتحت مظلة الشريعة. فقد رأى الشباب الازدراء لآرائهم وعدم تقبل لتساؤلاتهم ضمن القضايا الدينية وضعف في المضمون والمحتوى إذا ما أجاب البعض عن تساؤلاتهم.

كما رأى الشباب أن الاستبداد موجود وبشكل صارخ ولكن بمسميات مختلفة كالتراتبية الحزبية أو البيعة أو اليمين أو مخالفة الرأي الديني أو المذهبية أو مخالفة السلف الصالح.

كل هذه الأسباب مجتمعة مع عدة أسباب أخرى بالتأكيد ليس هناك مجال لذكرها هنا أدت إلى تحولات فكرية كبرى، نتج عنها أفعال لم تكن متوقعة من قبل كثيرين وخصوصا من قبل منظومات الاستبداد والأنظمة الحاكمة والحركات الدينية والأحزاب والمشايخ والمفكرين؛ وهذا لفشل عظيم في قراءة تحولات المجتمع.

انطلق الشباب التائه وحمل بوصلة جديدة مختلفة تماما وجهتها الغرب ليبحث عن طريقه بعيدا عن الطرق والمشاريع القائمة حاليا. لا شك أن البعض أضاع الطريق والبعض الآخر ما زال يبحث عن الطريق الصحيح ولكني لا أشعر بالقلق مطلقا فلدي قناعة راسخة أن كل من يفكر ويستخدم عقله سيصل، ولو بعد حين، حتى لو أخطا مرة أو مرتين أو أكثر إلا أنه في النهاية سيصل. وأعتقد أن الباحث عن الحقيقة، حتى لو أخطأ، أفضل من الذي يرث تدينه ولا يعرف شيئا عن دينه أو معتقده وإنما يسير تحت مظلة "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون".

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث