حسن منيمنة
تحتفل الولايات المتحدة يوم الاثنين المقبل بذكرى مارتن لوثر كينغ، الزعيم الأفريقي الأميركي صاحب الدور الطليعي في إيجاد المنهجية التي أتاحت الابتداء بالخروج من منطق التفرقة والتمييز والعنصرية، هذا المنطق الذي كان سائدا في عموم بلاده بصيغ صريحة وضمنية، وفي الجنوب منها خاصة بأشكال فجّة ومهينة.
مات مارتن لوثر كينغ شهيدا عام 1968، في التاسعة والثلاثين من عمره، بعد أن أرسى خيار المقاومة السلمية إزاء الإساءات المادية والمعنوية التي يتعرض لها الأفارقة الأميركيين. شهادة مارتن لوثر كينغ واستشهاده يبقيان إلى اليوم دعوة موجهة إلى الإنسانية جمعاء للارتقاء إلى القيم التي تريدها لنفسها، الحرية والكرامة والعدالة.
لم يأتِ الأفارقة إلى العالم الجديد بملء إرادتهم، بل جرى تصيدهم في ديارهم وأسرهم وبيعهم إلى الأوروبيين المستوطنين في شمالي القارة الأميركية وجنوبيها، لحاجة هؤلاء إلى اليد العاملة في المزارع، وإلى الخدم في المنازل.
والجريمة المرتكبة هنا بحقّ الإنسان الأفريقي المسترقّ والمجتمعات الأفريقية التي حرمت من أبنائها من الصعب تقدير مآلاتها. ففيما التقديرات تشير إلى وفاة عشرات الملايين خلال العبور إلى أرض الاستعباد، فإن سلب المجتمعات الناشئة في أفريقيا، والتي كانت على الغالب حديثة التشكل، خلافا للصورة النمطية والتي تفترض "بدائيتها" الطويلة الأمد، وتجريدها من هذه الطاقة البشرية، وتشويه نظمها الاقتصادية باتجاه الاستجابة لحاجة غيرها إلى العبيد، قد دفع بها حكما إلى التراجع، ليعاد تصوير أحوالها المتردية على أنها نتيجة لعنة إلهية أو قصور في طبيعتها.
أما الإنسان المستعبد في العالم الجديد، فكان عليه أن يشهد على مدى الأجيال التعذيب لإرغامه على السخرة، والتفريق عمّن يمكن أن يتآلف معهم لتجنب تمرّده، والتبخيس المستمر لتبرير استعباده. ولكن بفضل هؤلاء العبيد دون منّة من أحد، تمكن المجتمع الأفريقي الأميركي من النهوض بفصول لم تكتمل، وبدَين متوجب له من الولايات المتحدة كدولة وكمجتمع، كمقابل لقيمة عمل أجداده، وإن تأخّر الإقرار بهذا الحق.
لا، ليس "العمل الإيجابي"، هذه البرامج الهادفة إلى التعويض عن بعض الغبن التاريخي اللاحق بالأفارقة الأميركيين، بالمنحة الخيرية، بل هي غيض وحسب من فيض المستحقات التي لا بد للمجتمع الخلف من تحصيلها للمساهمات التي قدمها أسلافه لرخاء الولايات المتحدة وازدهارها وتفوقها. فالولايات المتحدة، هذه الدولة الرأسمالية الغنية، بل الأكثر ثراء وقوة على مدى المكان والزمان، هي أيضا "شركة مساهمة". غير أن توزيع الأسهم على المستحقين لها مسألة لم يكتمل انتظامها.
والحاجة إلى هذا الانتظام، بل الحاجة ابتداء إلى الإقرار بالمساواة وصريح الحرية للإنسان الأسود في الولايات المتحدة، كانت الهمّ الأول للتيارات الفكرية في الوسط الأفريقي الأميركي. وبعد اختبار عابر لاحتمال العودة إلى أفريقيا، تقاسم تياران الوسط الثقافي الأسود.
الأول يدعو إلى القوة والعنف في السعي إلى تحقيق الحق، شاء من شاء وأبى من أبى، انطلاقا من القناعة بأن من استولى على الحق غصبا لن يتنازل عنه إلا عنوة. كثيرة هي التوجهات التي شهدها المجتمع الأميركي الأسود في هذا السياق، وصولا إلى التعبير الأوضح، والذي تقدم به مالكوم أكس في أبرز مراحل حياته، بناء على الأساس العقائدي الذي طرحه إلايجا محمد، والداعي إلى الانفصال الكامل عن المجتمع الأميركي، لتأصل العنصرية فيه واستحالة دعوته إلى الخروج عنها ومنها.
وفي مقابل هذا التوجه المتشائم في تقييمه للمجتمع والثقافة في الولايات المتحدة، جاء مارتن لوثر كينغ، مستلهما تجربة عالمية أخرى، هي ما أقدم عليه مهاتما غاندي في الهند إزاء الاحتلال البريطاني، ليدعو إلى نبذ العنف والصبر على الأذى وليقف في الصف الأول، متحملا من العدوان ما طاله من السلطات المحلية كما من الجمهور الرافض للمساواة.
إذ بعد الانتهاء من العبودية القانونية، في أعقاب الحرب الأهلية الأميركية قبل قرن ونصف، استعاضت مجتمعات الجنوب الأميركي جهارا، وغيرها في سائر الولايات بمقادير مختلفة من التورية، عن العنصرية المباشرة بأشكال متفاوتة من التفرقة المهينة. فكان لكل من العرقين، الأبيض والأسود، مسابحه، ومطاعمه، ومراحضه، ومقاعده في الحافلات العمومية، وصولا إلى مدارسه وجامعاته. بل إلى أمد قريب، كان المتهمون من السود بالاعتداء على البيض، دون اعتبار لوهن الاتهام أو سقمه، تلاحقهم الحشود كالطرائد ليقبض عليهم ويشنقوا في أجواء احتفالية مصوّرة، دون خجل أو حرج.
الأصل الأول للالتزام بالامتناع عن العنف في أي فعل مقاومة هو التعويل على الرصيد الأخلاقي في الجهة المقابلة، أو لدى الرأي العام الأكبر القادر أن يؤثر عليها. لم ينفع مثلا أن يعمد المتظاهرون في سوريا، عند انطلاق الانتفاضة على النظام الاستبدادي عام 2011، أن يمتنعوا عن العنف، إذ لا وازع أخلاقي لدى هذا النظام يردعه ذاتيا، فيما، كما تبين، تلكأت المنظومة الدولية، وتلكأ الرئيس السابق للولايات المتحدة، صاحب خطاب الاستثنائية الأخلاقية، عن التماشي مع المبادئ المعلنة، ما أتاح لهذا النظام أن يمعن ويتفنن بالقتل والطغيان.
هي جرأة وشجاعة بالتالي من جانب مارتن لوثر كينغ، فيما هو يدرك أن السلطات وجلّ الجمهور المحلي الأبيض في الولايات الجنوبية حيث التمييز بحق السود عند أقصاه لن تتجاوب مع مساعيه السلمية الرصينة، أن يعمد إلى تحمّل الأذى مطالبا عموم المجتمع في الولايات المتحدة أن ينظر إلى نفسه بالمرآة وأن يقرر ما الذي يريد أن تراه؛ بلادا تنسجم أفعالها وسياساتها مع المبادئ المعلنة في دستورها ووثائقها الأولى، أم دولة قائمة على التناقض والنفاق، كما كانت في أوجه عدة إزاء السود حتى يومها.
مارتن لوثر كينغ هو رجل واحد أرغم أمة كاملة على أن ترتقي إلى ما تزعمه لنفسها، ودفع بها إلى ذلك فردا فردا. فجيل شباب الستينيات في عموم الولايات المتحدة، إذ رأى هذا الرجل الوقور يصبر على الأذى الناتج عن وقاحة العنصرية، تراكض إلى نصرته، ليطالهم ما يطاله، وليضطر كامل المجتمع ثم الدولة في بلادهم إلى أن يختاروا بين أن يكونوا من الذين ينصرون الحق أو يعادونه.
نتاج حملة الحقوق المدنية، والتي قرّبت الولايات المتحدة من المساواة ومن معالجة فصولا قاتمة في تاريخها، يعود فضله إلى هذا الرجل، الذي واجه الشر بكلمته ومات واقفا بوجه التفرقة والتمييز. غير أن الفضل يعود أيضا إلى هذا المجتمع الأفريقي الأميركي، والذي رغم إدراكه لفداحة الجريمة التاريخية المرتكبة بحقه، رأى في دعوة مارتن لوثر كينغ إلى السلمية والصفح والصلح والتآخي، سبيلا صالحا يصون الكرامة وصولا في نهاية المطاف إلى إحقاق الحق.
وكذلك الحال، دون شك، فإن الفضل يعود أيضا إلى المجتمع الأميركي الواسع، والذي رغم أنه لا يخلو، كما غيره، من آفات القناعات والممارسات العنصرية، فإنه ارتقى بالفعل، حين دعاه الرجل الفاضل، إلى مقام تقديم الحق والسعي إلى تحقيقه، وإن بقيت الخطوات، كما كل خطوات الخير التي يخطوها الإنسان، ناقصة بحاجة إلى تتمات.
باستثناء كولومبوس، مكتشف العالم الجديد، جميع من يحتفل بهم في الولايات المتحدة بالعطل الرسمية من الرؤساء. ذكرى مارتن لوثر كينغ تشكل بالتالي خروجا عن هذه القاعدة، ولكنها، بعد بعض التردد، أصبحت عطلة رسمية في عموم الولايات المتحدة. هو تكريم للرجل لما أنجزه، ولكنه كذلك شهادة للمجتمع الأميركي بأنه، دون زعم كمال، لا يزال حيا في سعيه إلى الارتقاء، وإن اعترى هذا السعي الانتكاس بين الحين والآخر.