ميرفت عياد
لا أكاد أصدق أني كنت أعيش في العالم, فقد كان صعبا علي إدراك أن عمل السنين الطوال قد اكتمل. إن قلبي ينبض كطرقات المطرقة, ووجدت عواطفي متنفـسا بالسقوط علي ركبتي وتقديم الشكر لله من أجل نعمته وصلاحه إذ منحني القوة على إنجاز عملي حتي النهاية.. هكذ قال الدكتور كرنيليوس فان دايك بعد أن أتم ترجمة الكتاب المقدس إلي اللغة العربية عام 1865م.
والحقيقة أن الترجمات السابقة للكتاب المقدس لم تكن وافية بالغرض وبخاصة أنها لم تترجم عن اللغات الأصلية للأسفار المقدسة, بل ترجمت عن السبعينية أو اللاتينية أو السريانية أو القبطية. كما كانت نسخها نادرة الوجود, لا ترى النور إلا في الكنائس والأديرة, وكان بعضها في شكل مخطوطات, أو مطبوعة طبعا رديئا, وقلما وصلت إلي أيدي الشعب, حتي دعا الله أناسا هيأهم لهذه الخدمة.
شكل مجلس الإرسالية الأمريكية الإنجيلية في سوريا في سنة 1844م لجنة لدراسة مدى الحاجة لترجمة عربية حديثة للأسفار المقدسة, فدرست اللجنة الأمر, ورفعت تقريرا لمجلس الإرسالية في 6 مارس مـن نفس العام, حيث قدم دكتور إيلي سميث (عالي سميث) التقرير لسبعة من أعضاء الإرسالية الأمريكية في بيروت, ومنهم: دكتور روفس أندرسون, ودكتور جويل هاوس, وأطلعهم علي ما تم من أعمال تحضيرية للترجمة منذ سنة 1837م, فتم تشكيل لجنة تضــم السيـد وايتبنغ, ودكتور عالي سميث, ودكتور كرنيليوس فان دايك, وبعد نحو ثلاث سنوات في يناير 1847م قررت الإرسالية الأمريكية ببيروت ترجمة الكتاب المقدس للغة العربية, وأوكلت للدكتور عالي سميث إدارة هذا العمل, فكرس حياته لترجمة الكتاب المقدس بلغة عربية حديثة من اللغات الأصلية العبرية واليونانية.
ثمر الجهد
عندما بدأ عالي سميث ترجمة الكتاب المقدس استعان بالمعلم بطرس البستاني الضليع في اللغتين العبرية والعربية, وأيضا بالشيخ ناصيف اليازجي الضليع في علم النحو والصرف, والمعلم بطرس البستاني ولد في لبنان سنة 1819م وكان يجيد اللغات العربية والسريانية واللاتينية والإيطالية, كما درس الإنجليزية والعبرية, وأيضا درس الفلسفة واللاهوت والشرع الكنسي, وفي سنة 1840م قام بتعليم المرسلين الأمريكيين اللغة العربية, ونشأت بينه وبينهم صداقة قوية امتدت طوال العمر. كان المعلم بطرس يعد المسودة الأولي للترجمة العربية, ويقوم دكتور عالي سميث بضبطها مع اللغة الأصلية ويتأكد من سلامة العبارة لاهوتيا, ثم يقوم الشيخ ناصيف اليازجي بتنقيح أسلوبها وضبطها نحويا, وتم الانتهاء من ترجمة أسفار موسي الخمسة, وأجزاء متفرقة من أسفار الأنبياء, وستة عشر أصحاحا من إنجيل متي, وفي 11 يناير 1854م فارق الدكتور عالي سميث الحياة قبل أن يرى ثمرة جهده.
وبعد وفاة الدكتور عالي سميث توقف العمل حتي سنة 1857م حيث أسندت الإرسالية الأمريكية استكمال الترجمة إلى دكتور فان دايك فقام بمراجعة كل ما ترجمه الدكتور عالي سميث مراجعة دقيقة, مستعينا بالشيخ يوسف بن عقل الأسير الحسيني الأزهري, لضبط الترجمة لغويا, وكانت وجهة نظر فان دايك من اختيار هذا الشيخ المسلم الأزهري أن يستفيد من شخص يجيد اللغة العربية, دون أن يكون متأثرا بمفردات مسيحية إنجيلية من قبل, ولم يكتف فان دايك بهذا, بل كلما انتهي من جزء كان يرسل نسخا منه إلي نحو ثلاثين من علماء اللغة مسيحيين ومسلمين, عربا وأجانب, في مصر وسوريا ولبنان وأحيانا في ألمانيا, وكان يستقبل تعليقاتهم وينظر إليها بعين الاعتبار.
الأولى في الدقة
وانتهيى فان دايك من ترجمة العهد الجديد, مـن الأصل اليوناني الذي حققه أراسموس, في مارس 1860م, وانتهي من ترجمة العهد القديم, من النص الماسوري (الترجمة العبرية للعهد القديم ), في أغسطس 1864م, وتم طباعة هذه الترجمة التي تشمل الكتاب المقدس بعهديه في 29 مارس 1865م, وتميزت هذه الترجمة بالدقة العالية والالتزام بحرفية النص, ومما يذكر أن فان دايك ظل ينقح في ترجمته هذه لمدة عشر سنوات, حتي وفاته في يوم 13 نوفمبر 1895م.
قام الدكتور القس طوسون والدكتور القس بطرس عبدالملك أيضا بتنقيح ترجمة فان دايك للعهد الجديد, فنشرت علي أجزاء من 1959 إلي 1968م, ثم نشر العهد الجديد بالكامل سنة 1973م, غير أن هذه الترجمة المنقحة لم تجد رواجا مثلما وجدت ترجمة فان دايك رواجا كبيرا في الشرق الأوسط, بالرغم من حرصها الشديد علي الحرفية, حتي أن بعض التركيبات اللغوية تبدو صعبة, وطبعت هذه الترجمة مرارا وتكرارا بأحجام وأشكال مختلفة, وأدخلت في بعض الطبعات العناوين الجانبية, وصدر بعضها بشواهد وأخري بدون شواهد, وتظل ترجمة فان دايك الأولي في الدقة وفي الاستخدام, تكاد تتطابق مع ترجمة الملك جيمس الإنجليزية.
مستشرق وأديب وعالم
يعرف أن الدكتور كرنيليوس فان دايك مستشرق وأديب وعالم ومدرس أمريكي ساهم بشكل فعال في النهضة العربية وأسس المدارس العربية والمستشفيات في لبنان وصاغ كتبا أكاديمية بالعربية كما كان من المساهمين في تأسيس الجامعة الأمريكية في بيروت. لقب بـأستاذ سوريا الكبير وفيلسوف الشرق.
ولد كرنيليوس فان دايك في مدينة كيندرهوك في ولاية نيويورك بأمريكا في 13 أغسطس عام 1818, وهو الابن السابع والأخير, لأبوين يرجع أصلهما إلي إحدي العائلات الهولندية, التي هاجرت إلي أمريكا في القرن السادس عشر. وقد تميز كرنيليوس بالذكاء الحاد والعمل الجاد, فأتقن منذ صغره عدة لغات كاليونانية واللاتينية, بالإضافة إلي لغتيه الأصليتين الإنجليزية والهولندية, وكان والده طبيبا ولديه في نيويورك صيدلية, فكان كرنيليوس يعاونه في أعماله, ويبتكر في أدواتها, لدرجة أنه جمع أغلب النباتات التي تنمو في ضواحي ولايته, وقام بتجفيفها وحفظها وترتيبها ترتيبا علميا حسب فصائلها وعائلاتها النباتية.
عندما أعلن والده إفلاسه لم يستسلم كرنيليوس وكان يستعير الكتب المتنوعة من معارفه ويحضر حلقات العلم والدرس, وكان أحد جيرانه طبيبا دعاه للاستفادة من مكتبته الطبية, فأخذ كرنيليوس ينهل من مكتبته العلوم علي اختلاف صنوفها, وبالأخص كتب علم الحيوان والكيمياء. وقبل أن يتم عقده الثاني, وصل كرنيليوس من العلم مكانة جيدة, أهلته إلي أن يلقي الخطب العلمية في الكيمياء, فلقب بالخطيب الكيميائي.
بمرور الوقت, علمه والده أصول الطب بعد أن تأكد من امتلاكه لناصية علم الصيدلة نظريا وعمليا. بدأ اسم كرنيليوس ينتشر بين أهل بلدته كطبيب بدون شهادة, فخشي بعض ذوي الفضل عليه فجمعوا له المال اللازم ليدخلوه مدرسة سبرنكفياد ثم مدرسة جفرسن في فيلادلفيا التي نال منها شهادة الطب مع لقب دكتور, فعمل كرنيليوس جاهدا لرد الجميل لكل من عاونه علي إتمام دراسته, فسخر جهده ووقته لتطبيب المرضي من أهل قريته والقرى المجاورة, وأصبح اسمه لامعا وفي مقدمة أمهر الأطباء, فتم اختياره من قبل مجمع المرسلين الأمريكيين ليكون مرسلا وطبيبا لبلاد الشام, وكان عمره في ذلك الوقت لم يتجاوز 21 سنة.
سافر كرنيليوس من بوسطن بأمريكا على ظهر سفينة مع مجموعة من المرسلين الأمريكيين, ووصل إلي بيروت عام 1840, ثم انتقل إلي القدس ومارس الطب هناك, حيث عالج العديد من أفراد عائلات المرسلين, وتعلم اللغة العربية علي يد علمائها أمثال: (إلياس فواز البيروتي, وأبي بشارة طنوس الحداد الكفرشيمي, والعلامة بطرس البستاني), وأخيرا أتقن علوم العربية وآدابها علي يد ناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير, فأصبح كرنيليوس من علماء العربية وآدابها, حافظا للأشعار والمفردات والمعاني والأمثال الفصيحة, ففاق كل أقرانه من الأجانب ممن تعلموا العربية من قبله, هذا بالإضافة إلي تعلمه اللغتين العبرية والسريانية.
فان دايك والجامعة الأمريكية
تعد الجامعة الأمريكية في بيروت صرحا علميا كبيرا منذ نشأتها عام 1866, وخرجت فكرة هذه الجامعة من بيت فان دايك ببيروت عام 1863, عندما اجتمع صاحب البيت بأعضاء الإرسالية الأمريكية وبحضور قنصل أمريكا في بيروت, وخرج المجتمعون بفكرة إنشاء الكلية السورية البروتستانتينية في بيروت, وهو اسمها قبل أن تسمي بالجامعة الأمريكية عام 1920. وفي عام 1866 أصبحت الفكرة حقيقة عندما افتتحت الجامعة في أول عهدها في منزل بطرس البستاني تحت إدارة دانيال بلس, وبدأت عامها الدراسي الأول بستة عشر تلميذا, وفي عام 1868 تأسست كلية الطب بالجامعة, فانضم إلي أساتذتها فان دايك الذي بدأ في تأسيس كلية الطب, فوضع لها نظامها الإداري والدراسي, وقام بالتدريس فيها. فكر القائمون علي الجامعة الأمريكية ببيروت في بناء مرصد فلكي خاص بها, فاستشاروا فان دايك في الأمر, باعتباره أحد أعلام الفلك, فحدد لهم رابية مرتفعة في الحرم الجامعي مكانا مناسبا لبنائه, ولكن المشروع توقف بسبب عجز الجامعة عن شراء الأدوات اللازمة لهذا المرصد, فقام فان دايك بشرائها من ماله الخاص, خصوصا منظار المرصد الرئيسي وساعته الفلكية, بالإضافة إلي تأثيثه وفرشه, ومن هنا اشتهر هذا المرصد باسم مرصد فان دايك لسنوات طويلة, رغم أن اسمه الرسمي كان المرصد السوري, وظل فان دايك يدير هذا المرصد ويحرر نشرته الأسبوعية, منذ نشأته وحتي عام 1893, وكان المرصد مخصصا برصد وتسجيل الطقس والزمن وحركة الكواكب وهزات الزلازل وإرشاد السفن, وتبادل المعلومات مع المراصد العالمية في أوروبا وأمريكا.
موقفه من اللغة العربية
ذكر جرجي زيدان في مذكراته, أنه تتلمذ علي يد فان دايك عندما كان يدرس الطب في الجامعة الأمريكية ببيروت عام 1881, وأن فان دايك كان أشهر الأساتذة وأحبهم إلي قلوب الطلبة والأهالي, وذلك لبراعته في التدريس, وأنه بلغ من الشهرة والمكانة درجة, جعلت عامة المواطنين يعتقدون أنه صاحب الجامعة, فأطلقوا عليها جامعة فان دايك, ولكن في عام 1882 قررت إدارة الجامعة في أمريكا جعل اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس, بدلا من اللغة العربية في الجامعة الأمريكية ببيروت, فاعترض فان دايك ودافع عن اللغة العربية-باعتبارها اللغة الأنسب في التعليم- دفاعا مستميتا دون جدوي, فقدم استقالته قائلا: إنني ما نزلت أرض الشام إلا لأخدم العرب بتدريس العلوم بلغتهم, وهكذا خرج فان دايك من الجامعة الأمريكية التي شارك في تأسيسها دفاعا عن اللغة العربية
مؤلفاته وعطاؤه للإنسانية
ترك فان دايك نحو خمسة وعشرين مصنفا عربيا ومنها: كتاب محيط الدائرة في العروض والقوافي 1857, أصول الكيمياء 1869, الأنساب ومساحة المثلثات 1873, أصول التشخيص الطبيعي 1874, أصول الهيئة في علم الفلك 1874, الأصول الهندسية 1875, الروضة الزهرية في الأصول الجبرية 1877, أصول الباثولوجية الداخلية 1878, ترجمة كتاب تاريخ الإصلاح في القرن السادس عشر 1878, السهم الطيار والفخ القرار لترقية الكروم من الثعالب الصغار 1882, في أصول المنطق 1886, إرواء الظماء في محاسن القبة الزرقاء 1888, رواية بزوغ النور علي ابن حور 1896, المرآة الوضية في الكرة الأرضية, النقش في الحجر, وهو ثمانية أجزاء في مباديء العلوم المدرسية. كان فان دايك محركا أساسيا لعدد من التحركات النهضوية المشرقية دون الأخذ بعين الاعتبار الدين أو الثقافة, منها: إنشاء مستشفي القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس (مع أنه ينتمي للطائفة البروتستانتية), الجمعية السورية وهي أول جمعية تنظم في بلاد الشام, جمعية شمس البر والمجمع العلمي الشرقي, المجامع الدينية الإنجيلية, تأسيس الكلية السورية, تأسيس المرصد الفلكي. ظل فان دايك يمارس عمله وعلمه دون انقطاع عن عمل الخير, حتي أصيب بحمي التيفوئيد التي لازمته أياما معدودة, فشعر بدنو أجله وامتنع عن الطعام, فزاره صديق له ونصحه بتناول الطعام لتقويته علي المرض, فقال له: شبعت من الحياة, فلا حاجة لي بعد إلي غذاء, فإذا كانت بقيت علي خدمة لسوريا فتممها أنت عني, كما أوصاه وأوصى أهل بيته, بأن يدفن في صمت تام بأرض الشام, دون أن يؤبنه أحد ولا يرثيه شاعر ولا يخطب علي قبره خطيب, وأن تتلي على جثمانه الصلوات في الكنيسة باللغة العربية. فارق فان دايك الحياة يوم 13 نوفمبر عام 1895 عن سبعة وسبعين عاما, فدفن حسب وصيته في صمت مطبق بالمقبرة الأمريكية ببيروت, بعد أن تليت الصلاة علي جثمانه باللغة العربية في الكنيسة الإنجيلية.
قام أهل الشام بتخليد ذكراه بطريقة أخري, فصنعوا له تمثالا نصفيا, نصبوه في احتفال ضخم عام 1899, في قاعة مستشفي مارجرجس لطائفة الروم الأرثوذكس ببيروت التي بناها فان دايك علي نفقته الخاصة, أما الجامعة الأمريكية فخلدت ذكراه بعد وفاته بست وثلاثين سنة, عام 1931, عندما أطلقت اسم فان دايك على أحد مبانيها والتي مازالت تحمل اسمه حتي اليوم.