حسين عبد الحسين
أعلن كل من وزير عدل لبنان، المسيحي سليم جريصاتي، ودار فتوى الطائفة السنية، ومجموعة من المحامين، نيتهم الادعاء على اللبناني المقيم في الولايات المتحدة، مارك عيسى، بتهمة الإساءة لرسول المسلمين، والعمالة لمصلحة "العدو الصهيوني".
وتنص المادة 317 من قانون العقوبات اللبناني أن "كل عمل، وكل كتابة، وكل خطاب، يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية، أو الحض على النزاع بين الطوائف وعناصر الأمة، يعاقب عليها بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات".
أما الكتابة موضوع الشكوى، فتغريدة لعيسى ـ في معرض شجار كلامي ـ أورد فيها التالي: "المسيح قال من يأخذ بالسيف، بالسيف يهلك، وهذا هو السبب خلف 1400 سنة من الحروب الأهلية التي يعيشها المسلمون بين بعضهم البعض، لأنهم أخذوا كل شيء بالسيف"، واصفا النبي وصحبه بعبارات يعدها المسلمون مسيئة.
وتحميل الدين الاسلامي كل العنف الذي شهده العالم، عبر التاريخ، يعاكس المنطق، فالعنف سبق الإسلام، وتلاه، ونبوخذ نصر سبى القدس قبل ألفية من الإسلام، واجتاح بعده اسكندر المقدوني العالم قبل الإسلام، واجتاح أباطرة روما وفارس بعضهم البعض قبل الإسلام، وعاشت أوروبا عصورها الظلامية بعد الإسلام، وبدونه، وذهب العالم إلى حربين كونيتين مدمرتين لم يكن فيهما للإسلام حصة تذكر.
على أن رأي عيسى في سبب العنف الذي يعيشه العالم، و"الحروب الاهلية التي يعيشها المسلمون" لا يعنينا. ما يعنينا هو ما يعتبره المسلمون إساءة لهم في وصفه رسولهم بالكذاب، وادعاء حكومة لبنان ضده بتهمة "إثارة النعرات المذهبية"، ومحاولة بعض المسلمين التحريض ضده، ومطالبة أشقائهم المسلمين حول العالم بإيذائه، إن أمكن، وفي أي مكان يصادفونه.
ما يقوله عيسى، أو غيره، عن رسول المسلمين أو أي رسول آخر أو عن الذات الإلهية، شأنه، وأقواله هذه تندرج في خانة حرية الرأي، المطلقة بطبيعتها، باستثناء التحريض على العنف.
وهذه المشكلة متكررة مع المسلمين، إذ هم يتوقعون أن يبدي كل البشر، من المؤمنين برسالة محمد ومن غير المؤمنين، احتراما له، وهو أمر يتعارض مع حرية المعتقد وحرية الرأي. ففي العالم خمسة مليارات بشري لا يؤمنون بمحمد ونبوته، بل إن هناك بعض المليارات ـ مثل المسيحيين ـ ممن يعتقدونه نبيا مزيفا، ويؤمنون أن العقيدة التي نشرها بين أتباعه هي انحراف عن العقيدة الصحيحة، أي المسيحية، والقائلة بتجلي الذات الإلهية بشخص المسيح، الذي مات على الصليب، وقام، وصعد إلى السماء، وسيعود.
وبنفس الطريقة التي يرى المسيحيون فيها المسلمين على ضلالة، يبادل المسلمون المسيحيين الرأي، إذ يعتقد المسلمون أن المسيح كان إنسانا، حمل رسالة توحيد كرسالة محمد، وأنه لم يمت على الصليب. كما يعتقد المسلمون أن اعترافهم بتاريخية المسيح، وحدها، هي بمثابة احترام للمسيحيين وعقيدتهم، فيمضون في معايدة المسيحيين بميلاد "النبي عيسى المسيح"، وهي معايدة، على لياقتها، بمثابة الإساءة إلى المسيحيين لتشكيكها بألوهية ابن الرب، يسوع المسيح، حسب العقيدة المسيحية.
هكذا، يصبح التعبير عن عقيدة أي من الطرفين، المسيحيين والمسلمين، إساءة بذاته لمعتقدات الآخر، فلا المسيحيون يستسيغون وصف مسيحهم برسول، ولا المسلمون يعجبهم إنكار نبوة محمدهم واعتبار تعاليمه ضلالة.
لا بأس في اختلاف العقيدة والرأي، فالمسيح ومحمد وجها دعوتيهما إلى كل الناس ـ لا إلى المؤمنين بهما فحسب ـ وقبول أي من هاتين الدعوتين وتبجيل صاحبيهما، أو رفض أي منهما وتقذيع الداعي، هو في صميم حرية المعتقد، وعلى المسلمين أن يفهموا ـ للمرة المليون ـ أن ما هو مقدس عندهم لا يلزم غيرهم بإبداء أي احترام أو حساسية تجاهه، وهي نفس الحرية التي تسمح للمسلمين بتوجيه شتائمهم يمينا ويسارا، إن في إصرار كتابهم أن اليهود شعب ملعون جاحد بمكرمات الخالق، أو في سخريتهم من شعوب يظنون أنها تتعبد للأبقار أو للأصنام أو لغيرها.
حرية الرأي مطلقة، لا بداية لها ولا نهاية، وباستثناء التحريض الذي يؤدي إلى موت ـ مثلا أن يحضر شخص في مسرح مكتظ ويصرخ "حريق"، ما قد يتسبب بهلع وضحايا ـ لا قيود على الحرية.
أما من تثيره كلمة، وتدفعه لارتكاب أعمال عنف أو قتل، فالمشكلة تكمن في تدني مستوى ذكائه، وفي قلّة نضجه، وفي عدم مقدرته على العيش في كوكب بشري يتنوع فيه الأفراد، ولا يتراصفون متطابقين في آرائهم وطباعهم وعاداتهم.
وهو ما يقودنا إلى استنتاج مفاده أن سبب العنف عبر التاريخ و"الحروب الأهلية بين المسلمين" ليس تعاليم الاسلام، ولا مبادئ المسيحية، ولا أي دين آخر، بل السبب هو فشل بعض المجتمعات في فهم أهمية الحرية الفردية، منها حرية الرأي، وتصور هذه المجتمعات نفسها كمجموعة متجانسة مؤلفة من بشر متطابقين في آرائهم وممارساتهم وفي رسم الحيز العام على صورتهم الفاضلة المتخيلة، ما يجعلهم "أمة واحدة".
هذه الأمة المتخيلة، ورسالتها المفترضة، هي أساس العنف والحروب، لا مارك عيسى وما يغرده.