كان لي زميل ثري في المدرسة يحلم بأن يكون طبيبا لكنه لم يحصل في الثانوية العامة على مجموع يؤهله لكلية الطب فالتحق بكلية التجارة. حزن صديقي جدا على ضياع حلمه ثم زرته في مزرعة أبيه يوما فوجدته، للغرابة، قد اشترى معطفا أبيض وسماعة طبية وخصص حجرة في بيتهم الواسع ليكشف فيها على الخدم والفلاحين.
كان يمنحهم نقودا حتى يكشف عليهم ويكتب لهم مضادات حيوية ومسكنات على ورقة تحمل اسمه. لا أستطيع أن أصف سعادة صديقي وهو يكشف بالسماعة على الفلاحين ويسألهم عن الاعراض ثم يجلس على مكتبه - كالطبيب تماما - ويكتب الدواء.
لم يكن صديقي مجنونا لكنه ببساطة صنع عالما افتراضيا يحقق فيه ما لم يستطع تحقيقه في الواقع. لو تأملنا حالة مصر الآن سنجد كثيرين يفعلون مثل صديقي. انهم يعيشون في عالم افتراضى مريح بعيدا عن الواقع. في مصر الآن ثلاثة عوالم افتراضية:
أولا: أمجاد الزعيم
لا شيء يعادل حب السيسي لتنفيذ المشروعات العملاقة. ما مدى أهمية هذه المشروعات وهل لها أولوية وهل خضعت لدراسات جدوى كافية وهل نجحت أم فشلت في تحقيق أهدافها؟ لن نعرف ذلك أبدا لأن الاعلام الخاضع للمخابرات لا يخبرنا بالحقيقة، اذ أن مهمته الوحيدة الدعاية للسيسي كما أن من يفتح فمه بالاعتراض على عبقرية السيسي يتم القاؤه في السجن سنوات.
ما نعرفه أن مشروعات السيسي يتم تنفيذها بديون ثقيلة تزداد كل يوم حتى وصل حجم ديون الدولة المصرية إلى مستوى غير مسبوق في تاريخها. الواضح ان السيسي يعيش في عالم افتراضي. كم تبدو عليه السعادة لحظة افتتاح المشروع عندما يقص الشريط ثم ينحني ليقبل الأطفال الذين ينتظرونه بباقات الورود، بينما يحلق الحمام الزاجل في السماء، ولابد أثناء تفقد المشروع أن يطرح أسئلة ويعبر عن ملاحظات يتلقاها المسؤولون وكأنها أوامر إلهية.
يبدو السيسي سعيدا للغاية في مؤتمرات الشباب التي تنظمها المخابرات وتجمع فيها آلاف الشباب ليستمعوا إلى خطب السيسي الحكيمة فيبدو حينئذ في صورة الزعيم الذي يتحدث إلى أبنائه. خارج العالم الافتراضي للسيسي يعانى ملايين المصريين من الغلاء والفقر والبطالة وتدهور التعليم والخدمات الصحية والمرافق ( 70 في المائة من قرى مصر بدون صرف صحي) لكن السيسي يستمتع بأمجاده في عالمه الافتراضي بغض النظر عن أحوال مصر التي تدهورت الى الحضيض.
ثانيا: المجاهدون من أجل الخلافة:
هؤلاء مئات الآلاف من أتباع الاسلام السياسي كلهم يؤمنون بأن الاسلام دين ودولة وأن الخلافة الاسلامية ركن من أركان الاسلام وأن الغرب عدو الاسلام أسقط الخلافة العثمانية عام 1924وواجب المسلم استعادة الخلافة.
كل هذه الآراء من الناحية التاريخية محض أوهام فالدول الغربية لا يعنيها الاسلام ولا أي دين آخر وانما كل ما يعنيها تحقيق مصالحها الاقتصادية وكثيرا ما دعمت الدول الغربية أنظمة وحركات اسلامية مثل حركة طالبان والجنرال ضياء الحق حاكم باكستان والنظام السعودي أكبر حليف لامريكا على مدى خمسين عاما. كما ان الخلافة الاسلامية لم توجد أساسا في التاريخ حتى يستعيدها أحد. كانت الحضارة الاسلامية عظيمة لكنها استندت إلى امبراطورية قامت - مثل كل الامبراطوريات - بعد صراعات رهيبة على السلطة ومذابح بشعة راح ضحيتها آلاف الأبرياء كما ان الخلافة العثمانية لم تكن في الواقع الا احتلالا تركيا ارتكب في حق المصريين جرائم أبشع بكثير من الاحتلال البريطاني.
كل هذه الحقائق سيكتشفها أي شخص خلال ساعات قليلة من القراءة في مصادر تاريخية متاحة للجميع لكن أنصار الاسلام السياسي يعيشون في عالمهم الافتراضي ويرفضون رؤية الحقيقة. أذكر اننى القيت محاضرة - موثقة - عن جرائم الاحتلال العثماني في مصر فوقف شاب من الاخوان وراح يصيح معترضا بطريقة هيستيرية اذ انه لم يتحمل انتزاعه من عالمه الافتراضى الى الحقيقة.
ثالثا: المواطن المستقر
انه المواطن الذي يفضل الاستقرار على النضال من أجل العدل. لقد عاش حياته مهانا مطحونا بلا حقوق في ظل الاستبداد فتأقلم مع الظلم وصنع لنفسه عالما افتراضيا مريحا يتكون من ثلاثة عناصر: الدين والأسرة وكرة القدم.
انه يمارس نوعا بسيطا من التدين عبارة عن صلاة وحج وزكاة وحجاب لكن تدينه لا يحضه أبدا على مقاومة الظلم، على أنه بين الحين والآخر يخوض معارك دينية غيرمكلفة فسوف ينتفض غضبا دفاعا عن النقاب أو ضد مشهد جنسي في فيلم، لكنه لن يفتح فمه أبدا عندما يتم اعتقال آلاف المعارضين. كل ما يهمه في الحياة أسرته وأولاده وهو لا يعبأ اطلاقا بما يحدث في المجال العام. أما كرة القدم فهى متعته العظمى ليس فقط لأنه يحبها كرياضة، ولكن لأنه يجد فيها ما يفتقده في حياته اليومية فالمنافسة شريفة متكافئة والقواعد واضحة تطبق على الجميع والمخطئ يحاسب فورا، وكل هذه أشياء لا يعرفها لأنه تعود على الظلم وازدواج المعايير.
متى يخرج السيسي من عالمه الافتراضى؟ عندما نخرج نحن المصريين من عالمنا الافتراضي لنواجه الحقيقة. بلادنا تتمتع بامكانات عظيمة أهدرت كلها بسبب الديكتاتورية. لا أفهم كيف لازلنا نتوقع خيرا من الديكتاتور؟ اننا نكرر نفس التجربة في نفس الظروف وننتظر نتائج مختلفة. ان كل ما نفعله في ظل الديكتاتورية جهد ضائع لأن التاريخ يعلمنا ان حكم الديكتاتور - مهما أنجز - سينتهى حتما بكوارث.
الديمقراطية هي الحل
دى دبليو