بقلم محمد المحمود
يمكن اعتبار مشروع النهضة العربي، الذي بدأ منذ أكثر من قرن، ردا ذا طابع خاص على تحدي مشروع التنوير الغربي الذي ارتسمت ملامحه بوضوح في قرن التنوير/ القرن الثامن عشر؛ حتى وإن لم يكن المشروع العربي تنويريا بالأساس، على الرغم من انطباعه ببعض ملامح التنوير. ذلك أن الهم الذي سيطر على الرواد الأوائل لمشروع النهضة العربي لم يكن تحرير العلم من هيمنة المرجعيات الكهنوتية، ولا التصدي للاستبداد ولواحقه، ولا تحرير الإنسان الفرد وتثبيته كقيمة عليا ذات مرجعية مكتفية بذاتها؛ بقدر ما كان الهم المسيطر على تفاصيل المشروع يسير في صوب مقصد شرفي/ فخري يتمثل في محاولة استعادة أمجاد الأمة (الحقيقية أو المتوهمة!) التي طواها الخمول، وأصبحت الأمة بعدها في موقف صَغار، اكتملت مأساويته في وقائع الاستعمار الذي زاد من حجم جرحه النرجسي أنه تم على يد خصم تاريخي كان يشكل ـ ولا يزال ـ "الآخر" للذات.
إذن، كان الإنسان بحقوقه (وتحديدا؛ كما هو في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) غائبا عن خطاب النهضة، كما هو ـ في الوقت نفسه ـ غائب عن خطاب الإصلاح الديني الذي سبقه أو تساوق معه. وما الخلط بين خطاب الإصلاح الديني وخطاب النهضة إلا نتيجة كونهما ردود أفعال تتسم بالعموم على تحد واحد/ التحدي الغربي؛ وإلا فالإصلاح الديني في العالم العربي ـ كما يؤكد هشام جعيط ـ لم يكن هو النهضة، لكنه كان يحمل نبرتها (أزمة الثقافة الإسلامية، ص71).
النهضة للأسف، لم تكن تسعى لتضاهي زمن النهضة الأوروبي الذي تخلّقت بداياته الأولى في إيطاليا؛ إلا بمقدار ما تظن أنه كفيل باستعادة المجد الأممي التليد الذي تمثل استعادته رد اعتبار للذات. والإصلاح الديني لم يكن يتكئ على دوافع ذاتية تصنعها تحديات الواقع الذي استحال إليه الخطاب الديني؛ بقدر ما كان يتكئ على دوافع سجالية ضد اتهامات الآخرين/ الغرب للإسلام، والذي هو جزء لا يتجزأ من الذات التي باتت تتعرض للعدوان المادي، ومن ورائه العدوان المعنوي المُتَضَمَّن في تفسير القابلية للعدوان.
يشير الباحث المصري/ نصر حامد أبو زيد إلى أن أهم عناصر التحدي التي فرضها المد الاستعماري في عنصر "الدين" هو اتهام الإسلام بأنه سبب التخلف. وأن هذا التفسير الذي فرضه الوعي الأوروبي لإشكالية "التخلف" في العالم الإسلامي كان عنصرا حاسما في تشكيل اتجاه الاستجابة الإسلامية لهذا التحدي. وأن دور الظروف الموضوعية انحصر في تحديد طبيعة الحركة (الخطاب والتأويل، ص188). ومن هنا انطبعت محاولات الدفاع بطابع ذي ملامح إصلاحية، تنويرية أحيانا؛ بينما دافعها الأساس: دفاعي، يتخذ من مشروع الإصلاح وسيلة لتقديم "إسلام حديث" لا يصطدم بمسلمات خطاب التنوير التي أصبحت لها قوة القانون الطبيعي الذي يصعب الاعتراض عليه أو نقضه، بعد أن تعولمت نتيجة النفوذ الغربي الاستثنائي الذي اكتسح معظم المعمورة بدايات القرن العشرين.
لم يكن ورادا أن يكون "الإنسان الفرد" من مرتكزات الخطاب النهضوي ولا الإصلاحي؛ لأنه وإن كان يقع في صلب مسار التعقل لخطاب التنوير الغربي الذي تأثر به المشروع العربي؛ إلا أنه لم يكن من مفردات الصراع على النفوذ/ صراع الغزاة المستعمرين من جهة، والمدافعين المناضلين ضد هذا الغزو/ الاستعمار. لم تكن المواجهة التي تتمفصل الرؤى والمقولات على وحي إيقاعها مواجهة فردانية، بين فرد وفرد، ولا بين أفراد متمايزين من هنا وأفراد متمايزين من هناك، وإنما كانت جمعانية، أي بين أمم وأوطان وشعوب يتلاشى الفرد ويخفت صوته؛ ليعلو صوت الشعب/ الأمة/ الوطن.
ومع كل هذا، لا تكمن المشكلة هنا، وإنما في كون خطاب التنوير العربي اللاحق لخطاب النهضة/ الإصلاح، والذي اشتبك مع التراث التنويري الغربي على أكثر من مستوى: مستوى الفكر/ الفلسفة، ومستوى الآداب والفنون، ومستوى التنظيم الإداري والسياسي، لم يضع "الإنسان الفرد" وحقوقه في صلب اهتمامه إلا قليلا. ذلك أن هذا الخطاب التنويري خضع لأمرين حاسمين أضرا به كثيرا، فهو من ناحية اتخذ من الخطاب الإصلاحي/ النهضوي السابق مرجعية يتشرعن بها على مستوى الداخل العربي/ الإسلامي، ومن جهة ثانية كان يخضع لذات الظروف الموضوعية التي تموضع فيه النهضوي/ الإصلاحي العربي؛ خاصة بعد أن دخلت الجمهوريات العربية المتعسكرة في معارك مفتعلة مع الآخر الغربي؛ كيما تصنع لها مشروعية في الواقع الذي كان يشكو من غياب المشروعيات، الدينية على وجه الخصوص.
ولقد زاد من قوة الحصار المضروب على الخطاب التنويري أن هذه الجمهوريات الناشئة لم تكتف بصخب المعارك العسكرية الخاسرة، بل أممت الثقافة، واعتمدت المثقف جنديا في كفاحها ضد الآخر؛ إلى درجة أصبحت معظم أدبيات الخطاب التنويري العربي مقولات نضالية ضد الآخر، بدل أن تكون مقولات نضالية ضد عيوب الذات.
وإذ اشتبك المثقف التنويري مع الأطروحات النضالية التي كانت تتحدث بلسان العموم القومي/ الوطني؛ فلم يكن لـ"الإنسان الفرد" مكان في خطابه إلا فيما ندر وأتى على سبيل الاستثناء. ما يعني أن الثقافة العامة التي يعيش المثقف العربي أجواءها، ويتشرب عالمه اللاواعي مبادئها وقيمها، الثقافة العامة التي تترسخ في الأعماق وتتحكم في الطارئ الثقافي، كانت ثقافة جماعية تستريب بـ"الفرد الحر/ المستقل"، وترى أن قيمته كفرد غير ذات معنى؛ ما لم تكن هذه القيمة تُشكّل نضالا عن المجموع/ الكلي للإنسان الذي تحوّل إلى دالٍّ لا يرى تحقق مدلوله في الواقع.
ثم إذا أضفنا إلى كل هذا أن "الموقف من الإنسان" في التراث لم يوضع على محك النقد والمساءلة، ولم تتعرض كثير من مفاصل التاريخ للمراجعة على ضوء مقولات الخطاب الإنساني المعاصر، وإذا عرفنا أن هذا التراث/ التاريخ هو الكامن في قاع الوعي الكلي، بحيث لا يستطع الخطاب السطحي ذي الملامح التنويرية إجراء متغيرات جوهرية عليه؛ استطعنا تفسير تلك الهشاشة التي تسم موقف التنويري العربي من الإنسان.
جوهر التنوير هو الإنسان، الإنسان في تحققه العيني كفرد، فإذا غاب "الإنسان كفرد = الإنسان في كل فرد" غاب التنوير؛ حتى وإن تعالى الصخب التنويري. ومن يراقب الواقع العربي على امتداد السبعين أو الثمانين سنة الماضية التي شهدت ظهور كثير من مثقفي التنوير، وإلى اليوم، يتملكه العجب من واقع الحال. فكم من مثقف عربي ردد مقولات التنوير، واشتبك مع أرقى مفاهيمها، وزعم أن الإنسان محور اهتمامه، وأن جوهر الإنسان حريته، وأن لا فرق عنده بين إنسان وإنسان... إلخ، ولكن سرعان ما تجده عند أول منعطف وقد أصبح متحدثا بلسان نقائض/ هجائيات جرير والفرزدق! والمؤسف والمقلق أن هذا لا يحدث فقط على مستوى الأفراد المتمسّكين بمقولات التنوير في عالم العرب، بل أيضا ويحدث على مستوى المؤسسات التي من المفترض أنها تتجاوز النزوات الفردية: منابر الإعلام من صحف وفضائيات تزعم أنها تمارس دورا تنويريا ما.
أخيرا، لا بد من التنويه على أن نقدي هنا إنما هو نقد للتنويريين الذين اشتغلوا على التنوير سنوات وسنوات بحثا ودراسة، وسوّدوا آلاف الصفحات، وانخرطوا في جدلية المقولات؛ ثم لم يفوا بالشرط الإنساني للتنوير، وليس نقدا لأولئك الذين سمعوا بالتنوير، أو قرأوا عنه صفحة هنا وصفحة هناك، ثم أخذوا بعناوينه، ورددوا بعض شعاراته، وكتبوا عنه بضعة أسطر في تغريدات عابثة، أو شِبه مقالات فارغة. فهؤلاء خارج سياق التنوير أصلا، خارجه جملة وتفصيلا، متنا وهوامش.