بقلم د. عماد بوظو
"السلطة الرابعة"؛ مصطلح تم استخدامه في الماضي للإشارة لوسائل الإعلام في محاولة لتضخيم دورها عبر وضعها كسلطة حقيقية بعد السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. لكن ما نشاهده منذ بضع سنوات، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركية، حول الدور المتزايد لوسائل الإعلام في الحياة السياسية تجاوز كل ما كان معروفا سابقا. لم تعد تقتصر مهمتها على نقل الأخبار والآراء، بل وصلت إلى لعب دور المحقق وجامع الأدلة والمدّعي العام، مثل ما تقوم به في التحقيقات حول التدخل الروسي في انتخابات 2016، أو حول أسباب ومضاعفات بعض قرارات الإدارة الأميركية أو للتشكيك في كفاءة بعض الشخصيات المرشحة لمناصب حكومية.
استخدم الإعلاميون أساليب جديدة في مهمتهم تلك، منها نشر معلومات أو وثائق خاصة أو حساسة أو محرجة تم الحصول عليها من متعاونين من أجهزة الدولة أو من طرف الخصم السياسي؛ وبمجرد إيصال هذه المعلومات لملايين المشاهدين أو القراء تصبح قضية رأي عام ووسيلة للضغط على السلطة التنفيذية أو التشريعية لمنعها من اتخاذ أحد القرارات أو المضي في سياسات معينة.
نجح هذا الأسلوب في بعض الحالات وفشل في بعضها الآخر؛ لذلك فقد تميزت تغطية الإعلام الأميركي خلال السنوات الأخيرة بالإثارة والتشويق حتى استطاعت في بعض التحقيقات الصحفية منافسة هوليوود، عاصمة السينما العالمية، وأصبح كثير من الأميركيين يضعون برنامجهم اليومي مع ضمان التفرغ في ساعات محددة لمتابعة برنامجهم السياسي المفضل.
نتيجة لذلك، من الطبيعي أن تكون الشخصيات الإعلامية التي يشاهد برامجها أو يقرأ مقالاتها ملايين الأميركيين أكثر شهرة من أغلب السياسيين، وأن يسعى الرؤساء والقادة السياسيون للتقرب من الإعلاميين والعمل على اكتساب ودهم والاستماع لنصائحهم والاستفادة من خبرتهم الطويلة.
بينما يرى بعض الأميركيين في ما يحدث مؤشرا سلبيا على زيادة حدة الصراع السياسي داخل الولايات المتحدة، كان كثير من شعوب العالم يغبطون الأميركيين على الحرية التي ينعمون بها وعلى قدرتهم على التعبير عن آرائهم ومواقفهم مهما كانت، وعلى متانة نظامهم الديموقراطي وخاصة لجهة فصل السلطات فيه حيث يجهد كل قسم للقيام بدوره كاملا، بانتظار أن يذهب الأميركيون الذين يتابعون هذه البرامج المختلفة والمتناقضة في رؤيتها السياسية، إلى صناديق الاقتراع، التي ستحدد من سيتولى السلطة التنفيذية والتشريعية للسنوات القليلة المقبلة ومن كان الأكثر نجاحا من الإعلاميين والسياسيين في التأثير على الرأي العام.
في الوقت الذي يعيش فيه الإعلام الأميركي قمة مجده، يشهد الإعلام العربي انحدارا غير مسبوق. ففي لبنان الذي كان الواحة الوحيدة للصحافة والإعلام الحر خلال النصف الثاني من القرن الماضي نتيجة سيطرة ديكتاتوريات عسكرية على الحواضر الثقافية في الشرق الأوسط كالقاهرة وبغداد ودمشق، تم إغلاق معظم الصحف والمجلات العريقة، وبقيت صحف محدودة لا يمت معظمها لمهنة الصحافة بصلة. وكانت تلك النهاية الطبيعية لسلسلة طويلة من عمليات اغتيال منظمة طالت الكثير من الأقلام الحرة والمفكرين الاستقلاليين من سليم اللوزي حتى سمير قصير وجبران تويني والشهيدة الحية مي شدياق، إلى جانب الملاحقة القضائية لآخرين.
واقتصر ما يمكن مشاهدته من البرامج التلفزيونية في المحطات اللبنانية حاليا على بعض البرامج الكوميدية الخفيفة أو برامج المنوعات التي يتابعها البعض بسبب جرأتها مقارنة مع بقية الإعلام العربي من ناحية محتواها أو الأزياء التي يتم ارتداؤها. أما من الناحية السياسية، فالإعلام اللبناني اليوم لا يختلف كثيرا عن الإعلام الموجه في أي نظام ديكتاتوري بعد نجاح "حزب الله" في زرع الخوف عند كثير من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين اللبنانيين.
وتشهد مصر تراجعا كبيرا أيضا. فهذا البلد الذي ولدت فيه كبريات الصحف والمجلات العربية التي سيطرت إعلاميا وثقافيا وفنيا طوال القرن الماضي على الساحة الثقافية العربية، يخسر دوره تدريجيا. وقد برزت في القرن الماضي أسماء لامعة في الصحافة والإعلام مثل علي أمين ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل، رغم أن الأنظمة التي تعاقبت على مصر خلال ذلك الوقت، كانت بعيدة عن الديموقراطية لكن هذه الشخصيات نجحت في ترك مسافة بينها وبين الحكام.
أما خلال السنوات الأخيرة فقد غابت الأسماء الكبيرة عن الإعلام المصري المرئي والمقروء، وأصبحت البرامج السياسية دعاية مباشرة فجّة للسلطة. وتحولت البرامج الحوارية في معظمها إلى ساحة للمناقشات الحادة والمهاترات يتم في بعضها استخدام ألفاظ غير لائقة بحق بعض الأشخاص وحتى بحق شعوب كاملة بطريقة لا تتماشى مع الماضي الرصين للإعلام المصري. ولم ينعكس تحسن الاقتصاد المصري على الإعلام، إذ في كل فترة يحال بعض الإعلاميين للقضاء بتهم مختلفة أو يغادر بعضهم خارج مصر نتيجة ما يشعرون به من قيود على حرية التعبير.
أما من ناحية الإعلام الخليجي، فإن الفضائيات الخليجية، التي سيطرت على المشهد الإعلامي العربي في العقدين الأخيرين مستفيدة من القدرات المالية والخبرات التي استقطبتها من مختلف البلدان العربية، بدأت تخسر بريقها تدريجيا.
فقد شهدت السنوات الأخيرة، خصوصا بعد "الربيع العربي"، ازديادا كبيرة في حدة الخلاف السياسي والإعلامي، وأثار التزام المنابر الإعلامية الخليجية بالتوجهات السياسية لدولها الشكوك حول مقدار موضوعيتها ومصداقيتها. وتحوّلت بعض الفضائيات الخليجية إلى ساحات حرب إعلامية شرسة استخدمت خلال مختلف الأدوات الممكنة.
وبدا أن بعض هذه الفضائيات تستنسخ في أوقات سياسية خطابها من خطابات الإعلام القومي القديم، الحماسية المليئة بالتهديدات غير الواقعية على طريقة أحمد سعيد في صوت العرب في ستينيات القرن الماضي، أو الصحاف العراقي مطلع القرن الحالي.
يُضاف إلى هذا، ظاهرة ارتهان عدد كبير من الصحافيين العرب بشكل مفضوح لبعض الأنظمة العربية، وتحولهم إلى أبواق لدى هذه الأنظمة للدفاع عن سياساتها.
نتيجة لذلك لم يعد بإمكان أي أداة إعلامية في الوطن العربي ادعاء الموضوعية، وإذا أراد المواطن في هذه البلدان الحصول على معلومات على درجة من المصداقية فلم يبق أمامه سوى البحث عنها خارج الحدود، كما كان الحال في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عندما كان المواطن العربي يستمع لصوت أميركا أو هيئة الإذاعة البريطانية أو صوت إسرائيل ليعرف حقيقة ما يجري داخل بلده.
الحرة