المفكر الراحل فؤاد زكريا يرد على تصريحات الوزير السعودي الجبير - مقالات
أحدث المقالات

المفكر الراحل فؤاد زكريا يرد على تصريحات الوزير السعودي الجبير

المفكر الراحل فؤاد زكريا يرد على تصريحات الوزير السعودي الجبير

بقلم بابكر فيصل

مرَّت في شهر آذار/مارس الماضي الذكرى الثامنة لوفاة المفكر والفيلسوف الكبير الدكتور فؤاد زكريا الذي يعتبر من أهم المفكرين العرب الذين تناولوا في كتاباتهم أزمة "العقل العربي" من النواحي الفلسفية والسياسية. كما أولى زكريا جهدا كبيرا في النظر والتحليل المتعمق لمشكلة الاستبداد وغياب الديموقراطية في العالم العربي وقد كان من أوائل المفكرين الذين بحثوا في ظاهرة الحركات الإسلامية المعاصرة.

كتب الدكتور فؤاد زكريا في مجلة العربي الكويتية عام 1983 مقالا بعنوان "أسطورتان عن الحاكم والأعوان". الأسطورة الأولى هي أسطورة "الحاكم الذي لا يعرف" التي تقول إن الحاكم نفسه رجل رحيم، تجيش نفسه بالإنسانية والوطنية وحُب العدل، ولا يفكر إلا في مصلحة شعبه، ولكن العيب كله في المحيطين به، حيث يتم تصوير هؤلاء الأخيرين بأنهم، في غالبيتهم، مجموعة من الأشرار الذين لا يكتفون بارتكاب جرائمهم، بل يخفونها عن الحاكم، ويُصوّرون له الأحوال دائما بصورة وردية.

أما الأسطورة الثانية فهي أسطورة "الحاكم الذي لا يتنازل"، وهذه تسير في الاتجاه المُضاد للأسطورة الأولى؛ فهي لا تهدف للدفاع عن الحاكم المُستبد عن طريق نسبة كل أخطائه للأعوان، ولكنها تهدف للدفاع عن هؤلاء الأعوان عن طريق تأكيد أن الحاكم لم يترك لهم شيئا، فالحاكم وفقا لهذه الأسطورة، هو وحده صاحب القرار وصاحب القدرة، وأقوى أعوانه لا يملك إلى جانبه شيئا، ولا يستطيع أن يغير من الأمر كثيرا أو قليلا، حتى في التفاصيل والجزئيات.

يقول زكريا إن الأسطورة الأولى "تنتشر عندما يضطر أنصار الحاكم الفرد إلى الاعتراف بوجود تناقض صارخ في تصرفاته ويعجزون عن تفسير هذا التناقض، فهو من جهة يبدو حاكما وطنيا صامدا في وجه أعداء الوطن يتبع سياسة تستهدف مصالح الشعب، ولكنه من جهة أخرى يتغاضى عن الفساد ويسجن بلا حساب ويعتقل بلا دليل ويقمع كل معارض ولا يسمح لصوت بأن يرتفع إلا صوته وصوت أتباعه".

فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟ يقول زكريا إن معاوني الحاكم الفرد لا يجدون وسيلة لحل التناقض سوى اللجوء إلى أسطورة الحاكم الذي لا يعرف، فيؤكدون أن الإيجابيات من صنع الحاكم، أما السلبيات فهي من صنع المحيطين به، وهو لا يعلم عنها شيئا ولو كان يعلم لما سمح بها.

تذكرت كلام المفكر الراحل أعلاه وأنا أستمع للإفادات التي أدلى بها وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، لشبكة "فوكس نيوز" خلال عطلة الأسبوع الماضي حول حادثة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. لجأ الجبير لاستخدام أسطورة "الحاكم الذي لا يعرف" حتى يبعد الاتهامات المتكاثرة بضلوع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في عملية الاغتيال وإشرافه عليها.

قال الجبير في إفادته إن لا أحد في القيادة بمن فيهم محمد بن سلمان كان على علم بهذه القضية، وأضاف أن مقتل خاشقجي خطأ جسيم وولي العهد لم يكن على علم به. وعندما قيل له إن الصحافة نشرت صورا لمقربين من ولي العهد ضالعين في العملية، قال: "وجود هؤلاء بالقرب من ولي العهد لا يعني أنه كان يدري. ولي العهد لم يعرف بهذا ولم يكن مطلعا وحتى قيادة الاستخبارات العامة لم تكن على إطلاع!".

يرد زكريا على إفادات الجبير أعلاه بالقول: "لقد أطلقنا اسم "الأسطورة" على هذه التفسيرات التي تشيع في نظم الحكم الفردية التسلطية لأنها لا تعدو بالفعل إلا أن تكون وهما كبيرا تسلط على العقول وتشوَّه نظرتها إلى عملية الحكم وعلاقة الحاكم بأعوانه وبالمجتمع الذي يحكمه. فنحن نخدع أنفسنا ونكشف عن قصور تفكيرنا في كل مرة نبرر فيها أخطاء الحاكم بأنها وقعت لأنه لم يكن يعرف، ونحصر مسؤولية الأخطاء في التابعين والمعاونين".

ويؤكد زكريا أن تصوير الحاكم في صورة الإنسان الوطني الرحيم الذي تحيط به مجموعة من الأشرار هو "خرافة لا مكان لها إلا في عقول السذج" ذلك لأن الحاكم الفرد هو الذي يختار معاونيه، وهو الذي يملك قدرة تغييرهم في أية وقت إذا أراد ذلك.

ويرى زكريا أن طبيعة هؤلاء المعاونين لا يمكن إلا أن تكون على شاكلة الحاكم أو أن تكون مكملة له في عملية توزيع للأدوار يوكل فيها إليهم نوعا من الأعمال التي يرى أنها لا تتناسب مع مكانته.

النظرة الواقعية إلى الأمور تثبت أن الحاكم المتسلط يعرف كل شيء عن معاونيه المحيطين به، وعن جرائمهم التي تسمى في لغتنا، التي اعتادت على التهذيب المنافق، انحرافات أو حتى تجاوزات.

وأخيرا يختم المفكر الراحل رده بتفسير أسباب شيوع الأساطير التي تضمنها كلام الوزير الجبير في أوساط الشعوب المضطهدة بقوله إن: "ذيوع هذه الأساطير، بين جموع شعبية هائلة إنما يعكس قصور الوعي السياسي، الذي هو حصيلة عقود غير قليلة من الحكم الفردي التسلطي. وهو يكشف عن نسيان الإنسان العادي، في أحيان كثيرة، لأبسط مبادئ الديموقراطية ومعنى مسؤولية الحكم، وهو نسيان لا يمكن أن يعد هذا الإنسان ذاته مسؤولا عنه. وإنما هو نتيجة تربية سياسية تراكمت أخطاؤها على مدى عشرات السنين".

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث