بقلم بابكر فيصل بابكر
أورد موقع "وورلد ووتش مونيتور" الأسبوع الماضي خبرا يقول إن الحكومة السودانية أفرجت عن شحنة من "الأناجيل" يعتقد أنها احتجزت في ميناء بورتسودان منذ ست سنوات. أطلق سراح الكتاب المقدس (النسخ باللغة العربية (منذ أسبوعين، وتم شحنها للعاصمة الخرطوم بعد سنوات من النداءات من جانب قادة الكنيسة.
ونقل الموقع عن مصدر محلي قوله إنه "منذ عام 2011، قام مسؤولو الجمارك الحكوميون بتأجيل عملية الإفراج عن عدة شحنات من الكتب المقدسة باللغة العربية عبر بورتسودان، دون أي تفسير". وأكد أن الأناجيل "تركت تتحلل في حاويات الشحن في الميناء، في حين يقدر عدد المسيحيين بمليوني شخص، في بلد يعاني من نقص خطير في الكتاب المقدس والمواد التعليمية."
وفي تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، أخبر أحد كبار قادة الكنيسة، الذي أشرف على استيراد مئات الآلاف من الكتب المقدسة وغيرها من الأدب المسيحي إلى السودان، أخبر منظمة "وورلد ووتش مونيتور" أن "جمعية الكتاب المقدس لم تتلق أي أناجيل جديدة لتوزيعها في السودان منذ عام 2013".
لا يمثل منع السلطات السودانية دخول نسخ الكتاب المقدس مسلكا جديدا لحكومة الإخوان المسلمين التي ظلت تتخذ إجراءات تعسفية واضحة ومستمرة ضد المسيحيين منذ أن استولت على الحكم عبر الانقلاب العسكري قبل ثلاثة عقود. وقد كتبت في السابق مقالين يتناولان سياسة هدم دور عبادة المسيحيين والتضييق على المدارس الكنسية.
ينص دستور السودان في باب "الحقوق الدينية" على أن تحترم الدولة "العبادة والتجمع وفقا لشعائر أي دين أو معتقد، وإنشاء أماكن لتلك الأغراض والمحافظة عليها". وينص أيضا على "إنشاء وصون المؤسسات الخيرية والإنسانية المناسبة" بالإضافة إلى "تملك وحيازة الأموال الثابتة والمنقولة وصنع وحيازة واستعمال الأدوات والمواد اللازمة المتعلقة بطقوس أو عادات أي دين أو معتقد"، وعلى "كتابة وإصدار وتوزيع المطبوعات الدينية".
مع ذلك، فإن الحكومة ظلت تخالف الدستور وتواصل في التضييق المتعمد على المسيحيين باعتبار أن السودان، كما قال الرئيس عمر البشير في خطبة شهيرة له بمدينة القضارف في عام 2013، قد صار دولة إسلامية "مئة بالمئة" بعد انفصال جنوب السودان. وبالتالي، فإن وجود أكثر من مليوني مسيحي وغيرهم من أتباع العقائد الإحيائية لا يعتد له. وقد تبع ذلك التصريح طرد عدد كبير من المبشرين الأجانب وتعرض بعض القساوسة للمضايقة والاعتقال تحت ذريعة التجسس والتخابر.
ويحتل السودان المرتبة الرابعة في قائمة "أوبن دوور وورلد ووتش" لعام 2018 الخاصة بالبلدان التي يصعب فيها العيش كمسيحي من بين 50 دولة. كما أنه صُنف "كبلد مثير للقلق بشكل خاص" وفق اللجنة الأميركية للحرية الدينية الدولية، وهي هيئة استشارية مستقلة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
من المعلوم أن جماعة الإخوان المسلمين لديها موقف فكري ثابت تجاه المسيحيين باعتبارهم كفارا لا يؤيدون قيام الدولة الإسلامية، بل يطالبون بدولة المواطنة المدنية. من هذا المنطلق رفض المرشد المؤسس حسن البنا توليهم القضاء والولاية الكبرى "الرئاسة"، كما أفتى الشيخ عبد الله الخطيب مفتي الجماعة بحرمة بناء الكنائس في المدن التي أنشأها المسلمون. وسبق أن قال المرشد الخامس للجماعة مصطفي مشهور بوجوب دفع المسيحيين للجزية باعتبارهم ذميين.
ولكن الجماعة تلجأ في بعض الأحيان لإخفاء موقفها الثابت تجاه المسيحيين أو أصحاب الديانات الأخرى إعمالا لمبدأ "التقية" الذي يسمح لها بتقديم تنازلات مرحلية لا تؤثر في موقفها المبدئي وذلك حتى تحرز مكاسب أو تتفادى ضغوطا قد تسبب لها مشاكل تحول دون تحقيق أهدافها وأحلامها السياسية.
وكما هو معلوم فإن الحكومة السودانية ظلت منذ سنوات تعاني من مشاكل معقدة أبرزها؛ الحرب الأهلية والأزمة الاقتصادية إضافة للعزلة الخارجية، حيث فرضت عليها عقوبات اقتصادية من قبل الولايات المتحدة وضم اسمها إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو الأمر الذي أدى إلى تفاقم المشكلة الاقتصادية بصورة غير مسبوقة منذ أن نال السودان استقلاله من بريطانيا في عام 1956.
في سبيل إيجاد حلول لأزماتها المركبة سعت حكومة الإخوان المسلمين لتطبيع علاقتها مع واشنطن، حيث دخلت معها في حوار ثنائي أفضى إلى تعاون مشترك في ملف الإرهاب الدولي وملفات أخرى، مما أدى إلى رفع العقوبات الاقتصادية في تشرين الأول/أكتوبر 2017. مع ذلك أبقت الولايات المتحدة على عقوبات أخرى متعلقة بالحرب في إقليم دارفور، ولم ترفع اسم السودان من قائمة الإرهاب رغم إشادتها بالتعاون السوداني في هذا الخصوص.
ظلت واشنطن تتمسك بحزمة من المتطلبات من أجل التطبيع الكامل لعلاقاتها مع الحكومة السودانية؛ في مقدمة هذه المتطلبات ضرورة وقف الحرب الأهلية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتحسين سجل حقوق الإنسان، وإتاحة الحريات من أجل إحداث التحول الديموقراطي، بالإضافة لتحسين الأوضاع المتعلقة بالحريات الدينية.
وفي زيارته للسودان العام الماضي من أجل إطلاق المرحلة الثانية من الحوار الهادف لتطبيع العلاقات بين البلدين عبر جون سوليفان نائب وزير الخارجية الأميركي عن انزعاج بلاده من وضع الحريات الدينية في البلاد، خاصة "من هدم الكنائس واعتقال القساوسة"، واقترح عقد طاولة مستديرة لإدارة حوار بين رجال الدين الإسلامي والمسيحي بالسودان حول الحريات الدينية والتعايش الديني.
لا يساور كاتب هذه السطور شك في أن قرار الحكومة السودانية بالإفراج عن شحنة الأناجيل كان نتيجة للضغوط الأميركية الأخيرة الخاصة بتطبيع العلاقات، وهو ليس قرارا مبدئيا ينبني على نصوص دستور البلاد الذي طالما تلاعب به النظام الإخواني. وفي هذا الإطار يمكننا أن نرى في الفترة القادمة مزيدا من التنازلات حتى يكتمل التطبيع ويتم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومن ثم سيعود النظام إلى ممارسة سلوكه المعهود.