قراءة نقدية لواقع السود في المجتمعات العربية (3) - مقالات
أحدث المقالات

قراءة نقدية لواقع السود في المجتمعات العربية (3)

قراءة نقدية لواقع السود في المجتمعات العربية (3)

بقلم منصور الحاج

في هذا الجزء، سأتطرق إلى جانب مهم لم يحظ بكثير من التحليل والنقاش وهو موضوع التمييز الذي يمارسه السود على بعضهم بعضا. وهو تمييز قائم على الاعتقاد بوجود أفضلية مردها الانتماء العرقي أو القبلي أو درجة اللون أو المهنة أو الديانة أو الجنسية أو الطبقة الاجتماعية والمعايير المحددة للجمال والقبح وغيرها من العوامل.

الهدف من مناقشة هذه الظاهرة، هو رفع الوعي في أوساط السود وخاصة أولئك الذين يشتكون من العنصرية ولكنهم يمارسونها على غيرهم في الوقت نفسه. وقد وقفت شخصيا على عديد من هذه الحالات التي يمارس فيها أشخاص سود العنصرية على غيرهم ويتعالون عليهم.

في تشاد مثلا، يتعالى أبناء من ينسبون أنفسهم إلى القبائل العربية على السود ويصفونهم بـ"النوبة" احتقارا لهم وتقليلا من شأنهم

ففي السودان، على سبيل المثال، يتعالى كثير ممن ينتمون إلى قبائل تدعي أنها ذات أصول عربية، أو أصحاب البشرة الأقل سوادا، على السود من أبناء القبائل النيلية أو على رعايا دول غرب وجنوب إفريقيا ويطلقون عليهم أوصافا مسيئة.

ويعتبر التمييز الذي واجهه أبناء جنوب السودان بسبب اللون أو الديانة من أكثر الأسباب التي دفعت الجنوبيين إلى تفضيل الانفصال على الوحدة في الاستفتاء الذي أجري في عام 2011. والأمر نفسه بالنسبة لأبناء مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق وأبناء إقليم غرب السودان، الذين يتعرضون للتمييز بسبب لون البشرة ممن يعتبرون أنفسهم أرفع قدرا وأعلى مكانة بسبب الانتماء القبلي.

ولأن داء العنصرية لا يقتصر على جماعة معينة، فإن القبائل المكونة لدولة جنوب السودان الوليدة يمارس بعضها التمييز ضد الآخرين. فأبناء قبيلة الدينكا، مثلا، يرون أنهم الأحق بتولي المناصب الحكومية دون غيرهم من أبناء القبائل الأخرى، نسبة لأنهم كانوا يمثلون النسبة الأكبر في الجيش الشعبي لتحرير السودان، الجناح العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان. ويرون أن التضحيات التي قدمها أبناؤهم خلال سنين الحرب تعطيهم الحق في الاستئثار بنصيب الأسد من المناصب الحكومية.

يتكرر المشهد نفسه تقريبا في دول كالصومال وجيبوتي وكينيا، حيث يمارس من ينتمون إلى القبائل ذات النفوذ والقوة العنصرية البغيضة على الأقليات مثل البانتو، ويعتقدون أنهم أعلى منهم شأنا وأرفع قدرا فلا يختلطون بهم ولا يتزاوجون معهم.

وفي تشاد مثلا، يتعالى أبناء من ينسبون أنفسهم إلى القبائل العربية على السود ويصفونهم بـ"النوبة" احتقارا لهم وتقليلا من شأنهم. بل حتى أبناء القبيلة الواحدة يمارسون العنصرية على بعضهم بعضا فيحتقرون مثلا أبناء عمومتهم الذين اشتهر أجدادهم بالعمل في مهنة الحدادة مثلا. كما يتجلى التمييز بشكل واضح في التعامل مع أبناء الجنوب بسبب شدة السواد أو الديانة.

وفي موريتانيا، أيضا، تتجلى هذه الظاهرة بشكل صارخ. فيمارس من يوصفون بـ"البيضان" العنصرية على أبناء المكونات الأخرى للمجتمع الموريتاني كطبقة "المعلمين" أو أبناء أصحاب المهن الحرفية كالحدادة. وما استمرار العبودية في موريتانيا إلا مظهر من مظاهر ترسخ عنصرية أصحاب البشرة السوداء على من يرون أنهم أقل منهم شأنا.

وكما أوضحت في الأجزاء السابقة، فإن فكرة هذه المقالات هي قراءة واقع السود قراءة نقدية وتعريف السود، الذين يتعرضون للاضطهاد بسبب لون البشرة، بأهمية الدور الذي لعبوه في التاريخ الإنساني وإبراز أوجه الجمال والإبداع والتميز للسود على مدار التاريخ، من أجل تنشئة أجيال واعية لا ترى في سواد البشرة منقصة بل على العكس محل فخر واعتزاز.

الجمهور الذي أستهدف الوصول إليه، هم السود الذين يعانون من العنصرية بسبب لون البشرة، ولم يفكروا يوميا في مزايا اللون الأسود ولم يتأملوا في الأوجه الجمالية للسود والأدب الذي كتبه السود والتاريخ النضالي لأجدادهم والمستقبل الذي ينشده السود. أما السود الذين وجدوا ضالتهم في هويات أخرى وانصهروا فيها وتكيفوا معها ولم يعد لون بشرتهم يشكل عائقا لهم أو عاملا مؤثرا في كل تفاصيل حياتهم اليومية، فهم غير معنيين بما أطرحه هنا. ففي نهاية المطاف، لكل شخص الحق في اختيار الهوية التي تناسبه والمكون الاجتماعي الذي يوفر له التقدير المناسب والمناخ الملائم للإبداع والتطور.

ولتوضيح ما سبق، أود أن أشير إلى المقطع الفكاهي المنشور على موقع "يوتيوب"والذي يحكي فيه شاب سعودي أسود عن سبب عدم تهنئته بسيارته الجديدة من نوع "لكزس" قائلا: "إذا كشخت قالوا خوي وإذا شلت الشماغ قالوا سواق"، في إشارة إلى اعتقاد الناس أنه ليس مالكا للسيارة، وأن سبب قيادته لها يعود إما لكونه "خوي"، أي أحد مرافقي الأمراء في حال ارتدائه الزي الرسمي، أو لأنه يعمل سائقا لصاحب السيارة في حال عدم ارتدائه له. والشاب، وإن اعترف في مقدمة فقرته الكوميدية بأنه أسود البشرة ويفتخر بذلك، إلا أنه يرى بأنه أعلى قدرا من غيره من السود نسبة لانتمائه القبلي ربما أو الوضع الاجتماعي لأسرته من "الأخوياء" وممن يعملون في مهنة قيادة السيارات.

هذا المقطع، وإن كان كوميديا، إلا أنه يلخص واقع عنصرية السود ضد أبناء جلدتهم لاعتبارات تختلف باختلاف المكان والزمان والثقافة والموروث الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من المهم أن ينظر السود الذين يطالبون الغير باحترامهم ومنحهم حقوقهم الأساسية إلى أنفسهم أولا والتخلص من عنصريتهم ضد الآخرين إن أرادوا فعلا تغيير نظرة المجتمع إليهم. وفي هذا الباب يصدق قول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

عود على بدء، فإن تغيير واقع السود في الدول العربية يتطلب قدرا كبيرا من الوعي، لفضح كل الممارسات العنصرية والأسس التي تستند عليها، من أجل بناء مجتمعات تحظى جميع الشرائح المكونة لها بالتقدير والاحترام بعيدا عن التعالي والنرجسية، وخالية من كل مظاهر العنصرية الظاهرة منها والباطنة.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*