اللاهوت السياسيّ ولاهوت التحرير (الجزء الأوّل) - مقالات
أحدث المقالات

اللاهوت السياسيّ ولاهوت التحرير (الجزء الأوّل)

اللاهوت السياسيّ ولاهوت التحرير (الجزء الأوّل)

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ

مقدّمة

عندما أتحدّث هنا عن اللاهوت السياسيّ فإنّما أقصد اللاهوت السياسيّ كما صاغه اللاهوتيّ الألمانيّ يوهان بابتست متس. وحينما أستخدم تعبير لاهوت التحرير فإنّما أقصد لاهوت جوستاڤو جوتيّيرّث الدومنيكانيّ وجون سوبرينو اليسوعيّ.

ما العلاقة بين اللاهوت السياسيّ ولاهوت التحرير في سياق الواقع الدينيّ المصريّ؟ أقول “الواقع الدينيّ” وليس الواقع اللاهوتيّ لأنّه في نظرنا ليس هناك أي تيّار لاهوتيّ يمكن تصنيفه تحت أيّ نوع من أنواع اللاهوت المذكورين أعلاه. ما أحاول تنظيره هنا هو نوع من التوصيف أو استنباط عوامل أنواع اللاهوت هذه في الواقع العربيّ والمصريّ.

اللاهوت السياسيّ

اللاهوت السياسيّ انطلاقة لاهوتيّة نشأت في مجتمع ألمانيّ مُعلمَن، حصل على حرّيته من النازيّة. وُلِد هذا اللاهوت على أرضٍ تجرّع شعبها كؤوس العنف والعنصريّة والتطهير العرقيّ لليهود وضعفاء المجتمع. جاء هذا اللاهوت من خلال لاهوتيّين سعوا لأن يصبح اللاهوت حائط صدٍّ ضد تكرار هذه المآسي في المستقبل.

نشأ اللاهوت السياسيّ عند متس بشكل خاصّ عندما عرف أن آماله وثقته لا يمكن أن يضعها في أيّ نظام سياسيّ قائم، وأنّ اللاهوت لا بدّ أن يكون نقدًا تصحيحيًّا لكل النظم السياسيّة التي تسعى لاستغلال أي شيء بما في ذلك الدين لتحقيق أغراضه.

اللاهوت السياسيّ إذًا لاهوت ينشأ في السياق العلمانيّ والقناعة بالتمييز بين الدين والدولة. دور الدين في هذا السياق المتعلمن هو أن يصبح مجرّد صوت صارخٍ أما سطوة أي نظم سياسيّة تسوّل لها نفسها التلاعب بالدين واستخدامه مطيّة لتمرير أغراضها.

لاهوت تصحيحيّ

اللاهوت السياسيّ لاهوت تصحيحيّ، يشبه ذلك إلى حد معيّن ما حدث في العقد الأخير في مصر وأصبح المصطلح يتردد بكثرة «تجديد الفكر الدينيّ». في رأيي، تجديد الفكر الدينيّ في العالم العربيّ هو صورة قشريّة هشّة لما قام به اللاهوت السياسيّ من نقد للغة اللاهوتيّة التي كانت سائدة. هشاشة تجديد الفكر الدينيّ تنبع من أنّها فكرة وليدة مكاتب أصحاب القرار السياسيّ وليس مكاتب الفقهاء.

أضف إلى ذلك استفادة العالم الغربي كثيرًا، على عكس العالم العربيّ، من المجمع الڤاتيكانيّ الثاني. والذي لم يُستثمر بشكل جيّد بعد في العالم العربيّ وبشكل أخصّ في مصر. 

لاهوت تصحيحيّ. يعني ذلك الوعي أوّلًا ثم الاعتراف بأننا على خطأ في بعض الأمور خطأ. الوعي، ثم الاعتراف. فالمشكلة في العالم العربيّ تكمن في أنّنا لا نسعى إلى تحديد المشكلة والوعي بها، ولا الاعتراف بأنّ هناك شيئًا خطأً. لقد وعى أغلب الألمان، وإن متأخّرًا، ببؤس النازيّة وضلالها ولا إنسانيّتها. لقد بدأ جيل ما بعد الحرب في الشعور بالعار من تاريخ آبائه، وأنّه آن الآوان للسلم والبناء والعمل والفكر. لقد آن الآوان لتحقيق مستقبل أفضل ليس لألمانيا وحدها بل لكلّ البشريّة.

الذكرى الخطرة

افترض هذا التجديد والتصحيح والبناء والاعتراف بالماضي المخجِل المليء بالعار، وتسمية الأمور بأسمائها. فما حدث لليهود مذبحة وتطهير عرقيّ، وقُدِّم العديد من القادة النازيّين والمنظّرين وأتباع الحزب للمحاكمة ومنهم من فضّل الهرب والانتحار.

الذكرى الخطرة، ذكرى الضحايا التي تذكّر الشعب في كل خطوة بمآسي الضعفاء والمهزومين الذين قُتلو بدمٍ بارد. لن تجد في ألمانيا شوارع وميادين تخلّد أسماء القتلة والمحتلّين، على عكس العالم العربيّ مثلًا. ولن تجد طمسًا للتاريخ في المدارس، فماذا يتعلّم الأطفال في الابتدائيّة؟ يتعلمون أنّ أجدادهم انتخبوا سفّاحًا قتل اليهود والضعفاء في ألمانيا وتسبب في خرابها. تصبح ذكرى الآلام ذكرى خطرة (يورجن مولتمان) لأنّها ذكرى تعطي للضحايا الفرضة لأن يتكلّموا الآن وهنا بصوت عالٍ لئلّا تتكرّر مآسيهم مع آخرين، ولتتحقّق العدالة ضدّ القتلة دائمًا.

الواقع العربيّ

 في السياق العربيّ وبشكل خاصّ السياق المصريّ، يحين الآن بشكل خاصّ الوقت ليفعِّل المسيحيّون لاهوتًا سياسيًّا يكون من شأنه أن يلهم المسلمين. فخوف أغلب المسلمين هو من علمانيّة تقصي الدين وتناضل ضدّه لتستأصله من المجتمع. في هذا السياق عندما يكون أمامهم المثل من مسيحيّيين ممارسين لإيمانهم مدعّمين النظام العلمانيّ سيكون ذلك شهادة حيّة لعدم وجرد خطرٍ على الدين في ظلّ النظام العلمانيّ.

ما يمكن أن يقوم به اللاهوت السياسيّ المسيحيّ العربيّ هو أيضًا إجراء مصالحة مع الماضي، بفضح كل تجاوزاته والسعي لإيجاد اعتراف بمذابحه ومآسيه ليس من أجل القصاص ولكن من إجل إحقاق العدالة والإنصاف. إنصاف الضحايا، وإنصاف التاريخ. والأهم ليس لكراهية الماضي وأشخاصًا من الماضي، بل فضح تواطؤ الماضي ومذابحه وتزييفه من أجل المستقبل. من أجل مستقبل يُبنى على الحقيقة وليس الزيف. هذا المستقبل يبدأ على أرض صلبة وأساس لا يتزعزع عندما يتمّ الاعتراف بتذوير التاريخ، إعادة صياغته وتعليمه للأجيال الجديدة، والبدء الآن نحو المستقبل الأفضل للجميع.

الفكر والتراث

يستطيع المسيحيّون أيضًا أن يقوموا بالمصالحة في العالم العربي مع الماضي. عن طريق تطبيق الذكرى الخطرة (مولتمان) وهنا في البحث داخل التراث وتاريخ الفكر العربيّ عن الضحايا الذين كُممت أفواههم وحُرقت كتبهم ومحي اسمهم من كتب تاريخنا واختفوا من بين دفّات كتبنا المدرسيّة. أولئك الذين نعتهم مؤرّخو السلطان والدين بالزندقة والكفر والخيانة والفسق. هناك أسماء على سبيل المثال: ابن رشد، ابن الراوندي…

أمثال للمتصالحين مع التراث والحضارة لويس شيخو جورج شحاتة قنواتي سمير خليل.

مصر المدنية

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*