محمد يسري
كثيراً ما ننظر لمفهوم الشرعية والسلطة في الإسلام من خلال التركيز على التنافس بين ورثة العرش، ولكن المقالة هذه تتناول جانباً مختلفاً لهذا الصراع، وهو غياب وريث واضح والأحداث المفصلية التي نتجت عن ذلك وغيّرت مسار التاريخ.
الوراثة "من الأب إلى الابن" في الدين والسياسة
رافق التحيّز للنسب البيولوجي الأبوي، فترات مختلفة من تاريخنا الإنسانيّ، وانعكس بشكل جليّ في قيم المجتمع وقوانينه، ودور الأفراد ومكانتهم فيه، وجاءت أعنف تجلياته في تبلور "مفهوم الوريث" في الصراع على السطلة وبناء الشرعية السياسية والدينية.
إذاً، تطورت فكرة تناقل الشرعية في تسلسل الوراثة، وفي الغالب تمّ ذلك في إطار النسب البيولوجي، ومن هنا برزت تيمة غياب الأبناء الذكور تحديداً، أو تأخر وجود وريث من الذكور في تحديد تواريخ وأحداث مصيرية، عملت الثقافة الشعبية والسرديات الدينية على تكريسها.
فمثلاً، قدّمت سير الأنبياء الإرث الروحي كشرعية تنتقل من نبيٍّ إلى ابنه، وأصبحت إحدى السمات المميزة للقصص الديني المتواتر في كلٍّ من الكتاب المقدس والقرآن الكريم، ومحوراً سردياً في سير بعض الأنبياء والرسل، منهم إبراهيم، وزكريا، اللذين بقيا وحيدين فترة طويلة، حتى أصبح لهما أبناء ذكور، اضطلعوا بأدوار هامّة في الرسالة والتبليغ.
عندما رمى المشركون نبيَّ الإسلام بالعُقم
تكرر هذا المنظور لتشكيل الشرعية في سيرة نبيّ الإسلام، حيث استغله بعض معاصريه للقدح في رسالته، خصوصاً أنه في الفترة المكية من الرسالة، لم يكن له ولد ذكر رغم زواجه بالسيدة خديجة بنت خويلد لمدة تقترب من الخمسة عشر عاماً.
وذكر ابن جرير الطبري (تـ. 310هـ)، في معرض تفسيره لسورة الكوثر، أن جماعة من كفار قريش في أول البعثة النبوية، ومنهم عقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل، قد عيروا الرسول بعدم وجود عَقِبٍ له من الذكور، فأنزل الله تعالى مبشراً له بالكوثر، الذي فسره المفسرون على كونه نهراً يجري بالجنة، كما ذمَّ هؤلاء المشركين وتوعدهم بهلاك الذرية وانعدام الأبناء، في قوله "إن شانئك هو الأبتر".
وظل السؤال عن مسألة وفاة الأبناء الذكور للرسول في سن صغيرة، حاضراً ومتكرراً بشكل غير منقطع في الثقافة الإسلامية، حيث تذكر أغلب كتب السيرة النبوية، ومنها سيرة ابن هشام على سبيل المثال، أن الرسول الكريم كان قد رُزق قبل الهجرة إلى يثرب بولدين من السيدة خديجة، وهما القاسم وعبد الله، وهما نفسهما اللذان عُرفا في بعض المصادر باسم "الطيب والطاهر"، كما رُزق بابنه إبراهيم في المدينة، وكانت أمه هي السيدة مارية القبطية.
ورغم المعلومات القليلة عن الأبناء الثلاثة، فمن المعروف أنهم قد توفوا جميعاً في سنٍّ صغيرة، وكانت أشهر حالات وفاتهم، هي وفاة إبراهيم، التي ينقل البخاري في صحيحه أن المسلمين قد ربطوا بينها وبين كسوف الشمس، وأن الرسول قد نهاهم عن ذلك.
وقد فسر بعض العلماء والباحثين المسلمين الحكمة من وفاة أبناء الرسول من الذكور في حياته، دوناً عن ابنته السيدة فاطمة الزهراء، والتي توفيت بعده بستة أشهرٍ على أرجح الأقوال، بأن ذلك كان إشارةً لانقطاع النبوَّة، لأنه قد جرت العادة من قبل على وراثة الأنبياء الروحية لبعضهم البعض:
"وشاء الله أن يَموت أبناء سيدنا محمد في حياته وهم صغار، حتَّى لا يُفتن بهم بعض المُحبِّين، ويظنوا أن النبوة سَيَرِثها أحد أبنائه كما كانت تُوَّرث في بني إسرائيل، ولذلك أكَّدَت النصوص أن الرسالة خُتمت ولا نبيَّ بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبهذين الأمرين لم يكن هناك طمع في نبوَّة بعده، وظهر خطأ من تنبَّؤوا في حياته وبعد مماته".
انتقال شرعية الإمامة من العلويين إلى العباسيين
بعد مقتل الحسين بن علي في كربلاء 61هـ، تصدر أخوه محمد بن علي بن أبي طالب، والمعروف باسم "محمد بن الحنفية" المشهد السياسي المعارض، باعتباره أكبر أبناء الخليفة الرابع، وأرفعهم مكانةً ومنزلة في ذلك الوقت.
تأثير ابن الحنفية ظهر واضحاً في واحد من المذاهب الشيعية القديمة، وهو المعروف باسم الكيسانية، وبحسب ما يذكره الأشعري في كتابه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين"، فهناك اختلافٌ كبيرٌ بين المؤرخين حول أصل ونسبة تلك الفرقة، ويذكر النوبختي في كتاب "فرق الشيعة" أن أهل تلك الفرقة قد اتفقوا على الاعتقاد بإمامة محمد بن الحنفية، وإن اختلفوا في تحديد توقيت إمامته.
الاعتقاد بإمامة ابن الحنفية لم يكن الأثر الفكري الوحيد الذي خلّفه، فمن الغريب والمثير في الوقت ذاته أن نعرف أن واحدة من أهم وأقوى الدول السنيّة في التاريخ الإسلامي، وهي الدولة العباسية، قد استمدت في الأساس جزءاً كبيراً من شرعيتها من اعترافها بإمامة محمد بن الحنفية.
فبحسب ما يذكره النوبختي في "فرق الشيعة"، فإن البقية الباقية من الكيسانية الذين اعتقدوا بإمامة ابن الحنفية التفوا بعد وفاته، في عام 81هـ، حول ابنه "أبي هاشم عبد الله" وبقوا مخلصين له واعتبروه الإمام العلوي الهاشمي الذي يستحق الطاعة.
ولما لم يكن لأبي هاشم "وريثٌ"، فإنه أمر أصحابه وأتباعه بأن يتبعوا "محمد بن علي بن عبد الله بن العباس"، فلما توفي أبو هاشم، وقع الانتقال في خط الإمامة الشرعية من الفرع العلوي إلى الفرع العباسي، وقامت الدعوة العباسية السرية التي تسببت في 132هـ في سقوط الدولة الأموية وتأسيس الدولة العباسية، وهكذا ساهم موقف أبي هاشم في تقوية الفرع العباسي وإسباغ صفة الشرعية السياسية عليه.
طغرل بيك ومشروع توحيد منصبي الخليفة والسلطان
كان السلاجقة قبائل بدوية تركية الأصل، تناثرت في المنطقة الواقعة بين بلاد ما وراء النهر وبلاد فارس، وفي ثلاثينيات القرن الخامس الهجري، استطاع زعيمهم الشهير طغرل بك أن يستولي على بعض المدن الكبرى مثل أصفهان ونيسابور، وهو الأمر الذي هيَّأ الأجواء لعقد تحالف سياسي بينه وبين الخليفة العباسي القائم بأمر الله.
هنا، ومن باب تلاقي المصالح، أرسل القائم إلى طغرل بك، برسالة يهنئه فيها على انتصاراته المدوية، طالباً منه مد يد العون والمساعدة، مقابل أن يمنحه شرعيةً مطلقةً لحكم كل تلك الأراضي التي يستولي عليها من خصومه.
ولم تكد الرسالة تصل لزعيم السلاجقة، حتى قاد جيوشه إلى بغداد، فدخلها وأنهى حكم البويهيين الفرس، ورغم الاستقبال الحافل الذي حظي به طغرل بك لدى الخليفة، إلا أن ذلك لم يكن كافياً عنده، فقد طمح وقتها لتأسيس أسرة حاكمة جديدة، يختلط فيها العرق التركي بالعرق العربي.
فطلب أن يتزوج ابنته، الأمر الذي أزعج الخليفة العباسي وأثار غضبه، بسبب العادة التي جرت من قبل، والتي ترفض زواج بنات الخلفاء من خارج قبيلة قريش.
وحاول الخليفة أن يرفض ذلك الطلب، ووسَّط بعض الوزراء ورجال الدولة ليثنوا طغرل بك عن طلبه، ولكن الأخير أصرَّ على الزواج من ابنة الخليفة غير عابئٍ بالاعتذارات والمبررات المختلفة.
عام 455هـ/1063م، تم الزواج، ويصف شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، تفاصيل اللقاء الأول ما بين طغرل بك وزوجته، فيقول "وأُجلِست على سرير مذهَّب، ودخل السلطان إلى بين يديها، فقبَّل الأرض، ولم يكشف المنديل عن وجهها". من الملفت غياب أي اهتمام حقيقي بهوية ابنة الخليفة، رغم محورية دورها في هذا التحالف السياسي، فلا تذكر المصادر أي شيء عنها ولا حتى اسمها.
وبعد انقضاء عدة شهور على هذا الزواج، يتابع الذهبي، توفي طغرل بك عن عمرٍ يناهز السبعين عام، دون أن يخلِّفَ ولداً من بعده، وهكذا فشل مشروعه الرامي لاتحاد منصبي الخلافة والسلطنة مع بعضهما البعض.
كيف غيَّرَ غياب الوريث أو تأخُّره تاريخ بلاد المغرب والأندلس؟
في بعض الأحيان كان عدم الإنجاب من شأنه، أن يغيِّر من التاريخ السياسي لدولة ما، كما أن الإنجاب المتأخر هو الآخر لعب دوراً مهماً في إحداث تغيُّراتٍ سياسية لا يمكن التغافلُ عنها.
الحالة الثانية تحديداً، ظهرت بشكل واضح في بلاد الأندلس في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وبالتحديد أواخر عهد الخليفة الأموي الحَكَم المستنصر.
الحَكَم الذي اعتلى كرسيَّ الخلافة عام 350هـ، وجدَ نفسه دون وريثٍ ذكر، الأمر الذي هدَّد استمرارية الدولة الأموية كلها ذاك الوقت، ولكن مخاوفه تبددت بعدما أصبح له ولجاريته صبح البشكنشية، ولداً، سمياه أبوه هشام، ولقباه بالمؤيد بالله.
ولما توفى الحَكَم عام 366هـ، كان هشام لم يبلغ الثانية عشر من عمره، فتشكلت لجنةُ وصايةٍ عليه من قِبَل أمِّه والحاجب المصحفي والوزير محمد بن أبي عامر.
ولم يَمضِ الكثير من الوقت حتى استطاع الوزير أن يفرض سيطرته المطلقة على الخليفة الصغير، فعزله في قصره، وأحكم قبضته على شؤون الدولة، وأسس ما يُعرف باسم الدولة العامرية.
آثار غياب الوريث في الدولة الموحدية
أما بالنسبة للآثار التي قد تنتج عن غياب الوريث، فيمكننا أن نجد في الدولة الموحدية نموذجاً صالحاً للاستشهاد به.
كانت الدعوة الموحدية قد تأسست على يد محمد بن تومرت، الذي بدأ حملته في 515هـ، واستطاع أن يضم إلى حركته عشرات الآلاف من القبائل البربرية القوية التي تسكن في منطقة السوس والمغرب الأقصى.
ابن تومرت، الذي قضى الشطر الأكبر من حياته، في السفر والترحال، وتلقي العلوم والمعارف، لم يتزوج، وعاش وحيداً، وهو الأمر الذي ظهرت آثاره بعد وفاته المفاجئة في 524هـ، حيث اختلف أتباعه فيمن يخلُف أستاذَهم في قيادة الحركة، وهو أمر طبيعي بالنسبة لقبائل لم تعرف طوال تاريخها من طرق انتقال السلطة، سوى تلك التي تنتقل من زعيم لآخر عن طريق الوراثة.
اتفق الموحدون نهايةَ الأمر على مبايعة عبد المؤمن بن علي الكومي، ليصير أول خليفة موحدي.
تنصيب عبد المؤمن لم يمرَّ مرور الكرام، لأن اثنين من أخوة المهدي، وهما أبو موسى عيسى، وأبو محمد عبد العزيز، قد اعتقدا أنهما أحقُّ بالأمر من عبد المؤمن، فثارا ضده ورفعا راية العصيان.
لكنه تمكن من القضاء على خطريهما سريعاً، بحسب ما يذكر الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه "المهدي بن تومرت: حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب"، ولربما كان اختيار القائد العسكري المحنك خليفة إيجابياً للحركة التي كادت أن تتهدم الحركة الموحدية كلها، لعدم وجود وريث واضح لمؤسسها.
صورة المقالة، تاج السلطان محمد سليمان، من نهاية القرن التاسع عشر، من مقتنيات المتحف الوطني الإندونيسي.