نيرة الشريف
على أحد المقاهي في منطقة الزيتون بمحافظة القاهرة، جلس عبدون -رجل أربعيني نوبي الأصل- يتابع المباراة النهائية لبطولة كأس الأمم الإفريقية بين مصر والكاميرون، يأتي عامل المقهى إلى عبدون ليسأله عن الطلب الذي سيشربه، وحينما يطلب عبدون طلبه يباغته العامل قائلًا: «وأنت بقي بتشجعنا ولا بتشجعهم يا سمارة؟!» يرد عبدون قائلًا: «أنا مصري» ليباغته عامل المقهي من جديد: «ولكنك تشبههم، فقلت يمكن تكون بتشجعهم!».
لم يكن التعليق المباغت الذي تلقاه عبدون من عامل المقهى حالة فريدة من نوعها، فقبيل المباراة النهائية، كان هناك ترقب شديد للفوز في الشارع المصري، أدى هذا الترقب والحماس بالبعض لأن يكون لديه حالة غضب غير مفهومة تجاه كل ذوي البشرة السمراء الداكنة.
انطلقت التعليقات الغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه النوبيين والسود، ورغم حدة التعليقات وعنصريتها إلا أنه عندما قامت صفحة «المشاركات الإفريقية» على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بمشاركة هذه التعليقات والإشارة إليها، انطلقت مئات التعليقات المضادة من المواطنين المصريين، التي تعتذر، وتقول إن «أصحاب هذه المشاركات من المستحيل أن يكونوا بشرًا طبيعيين»، وأن «عموم المصريين لا يفكرون أبدًا بهذه الطريقة».
هي بصتلك على ايه دي؟!
أتى عبدون للعمل بالعاصمة منذ ما يقرب من عشر سنوات، وبعد جهد طويل ومضنٍ تمكن أخيرًا أن يجد فرصة عمل، رغم تعدد إمكانياته، وإلمامه بنحو ثلاث لغات.
كانت مقابلات العمل المبدئية تواجه دائمًا بالرفض، ورغم مجيء عبدون للقاهرة قبل أن يتزوج، إلا أنه لم يفكر أبدًا في الارتباط من العاصمة، لم يرد في ذهنه أصلًا أن يرتبط من إحدى الفتيات بالقاهرة، قائلًا: «لم أكن أود أن أعرض نفسي لحرج الرفض لسبب أعلمه جيدًا، فلست وسيمًا ولا جميلًا حتى تتلقفني الفتيات!».
حينما تسير إحدى زميلات عبدون في العمل -من ذوي البشرة البيضاء- إلى جواره في الشارع يكون من الطبيعي جدًّا أن يستمعا إلى تعليقات من قبيل: «هي بصت لك على ايه دي؟!»، «والله خسارة فيك»، «مالقتيش غير العبد ده؟»، ويكون الحل الأمثل لكل هذا بالنسبة له دائمًا ألا يلقي بالًا، ويعتبر نفسه لم يسمع شيئًا، لأنه لا يود الدخول في مشاجرات، ولا عمل مشاكل، ولا التعرض لبلطجة أصحاب هذه التعليقات، الذين يجيدون قطعًا البلطجة وسيلة تعامل في الحياة من وجهة نظره، وكانت تعليقاتهم هذه كفيلة ألا تجعل عبدون يفكر أبدًا في الزواج من فتاة بالقاهرة.
كما اعتادت ونجي، كانت تسير بجوار صديقتها شفيقة في صباح كل يوم أثناء ذهابهن إلى مدرستهن الثانوية في حي الزيتون بالقاهرة.
شفيقة هي الصديقة المقربة لونجي، لا تستطيع التفريق بينهما في أي شيء، لا في طريقة الكلام، ولا نبرة الصوت، ولا السلوك، لا تفترقان أبدًا. بدءًا من تواجدهما بمقعدين متجاورين دومًا في الفصل الدراسي، مرورًا بأوقات الراحة وحصص الألعاب، وصولًا إلى مجيئهما وانصرافهما من المدرسة بصحبة بعضهما البعض يوميًّا.
كل ما يُفرق ونجي عن شفيقة هو لون بشرتهما، فشفيقة فتاة بيضاء البشرة، أما ونجي فبشرتها سوداء داكنة، فقد أتت مع أسرتها من النوبة، ليستقر بهن المقام في القاهرة لتدرس هي وإخوتها في مدارس العاصمة، ويبحث والدها عن أي عمل يتيح له سبيلًا للرزق ها هنا، كانت الميزة الكبرى للانتقال في نظر ونجي هي أنها وجدت في العاصمة «شقيقة روحها» شفيقة.
تنزعج شفيقة من التعليقات التي تُقال عن ونجي في الشارع، تنظر إلى صديقتها المقربة منزعجة، ثم تتشاجر بالنيابة عنها، بينما ونجي تنظر إلى الأرض في استسلام، ثم تُكملان سيرهما وضحكاتهما كأن شيئًا لم يكن.
تقول ونجي: «كثيرًا ما قلت لشفيقة ألا تتشاجر، وخاصةً أنها تنزعج من كلمات من قبيل (ايه يا شيكولاتة؟(
مسكينة شفيقة! لا يزعجني أن يخبرني أحدهم أنني شيكولاتة، فهذه هي أخف المداعبات السمجة التي يمكن أن أتلقاها، ما أزعجني وفتت قلبي حقًّا، حينما ألقى أحدهم على مسمعي ساخرًا: (أأنتِ عبدة؟ بابا اسمه عثمانة؟!) لست (عبدة) بالمعنى الذي يقولونه ساخرين، جميعنا عبيد لله، وكثير منّا عبيد قسوتهم ومطامعهم، فلما يرمونني بالعبودية بسبب لوني؟!».
العنصرية تضرب بجذورها في صعيد مصر
في مدينة إدفو بمحافظة أسوان، يصطلح سكان المدينة الصغيرة على إطلاق لفظ «العبيد» على مجموعة من ذوي البشرات الأكثر سوادًا. يقول جمال السيد -موظف حكومي-: «الناس هنا بتقول على الجماعة دي اسم (ناس العبيد) وأماكن سكنهم مميزة ومعروفة».
في ذاكرة جمال تلك القصص التي حكاها له أبوه وجده حول هذه الجماعة، فقد قالوا إن أجداد هذه المجموعة كانوا من العبيد فعلًا، وهم ليسوا من أصول مصرية، وقد أتوا من السودان وإثيوبيا، وقد تحرروا وتم إلغاء العبودية، ولكن ظلت هذه المجموعة يُطلق عليها «ناس العبيد»، لا يتزوج منهم أحد، فلا حر يقبل أن يناسب من كان أصله عبدًا لأن «العرق دساس»، فهذا هو المنطق الذي يحكم عقول الناس في تعاملهم مع هذه المجموعة.
ورغم أن هذه المجموعة التي مُيزت في شكلها، ومُيزت بالتبعية في أصلها ومسكنها ونسبها ينطلق أبناؤها في التعليم، ويصبحون موظفين في الإدارت الحكومية، ومدرسين في وزارة التربية والتعليم، ولكن يظل أصلهم واسمهم «ناس العبيد»، هكذا يقول جمال.
كان الاتجار بالرقيق واستعمالهم في أغراض الحياة المختلفة من الأمور الطبيعية في مصر القرن التاسع عشر، مثلما كان يحدث في كثير من بقاع العالم آنذاك، ومن المعروف أن مصر كانت تتعامل بتجارة الرقيق منذ بدء حضارتها، وحتى عشرينيات القرن العشرين.
العبيد البيض كانوا يجلبون من «جورجيا» وبلاد الشاطئ الشرقي للبحر الأسود، ومن المستعمرات الشركسية، وكان منهم من يتم جلبه من أسرى الحروب، وكان العبيد من ذوي البشرة البرونزية والسوداء يأتون من «دارفور» و«كردفان» و«سنار» في جنوب مصر، ولكل نوع من الرقيق نوع العمل الذي يؤديه حسب اللون والبنية الجسدية، وكان الرقيق في مصر يصنفون طبقًا لألوانهم ومناطق جلبهم، ولكل لون ثمن، فالأبيض يختلف في ثمنه عن الأسود، أو الأسمر.
تؤكد سامية -ربة منزل تقطن وعائلتها في مدينة إدفو محافظة أسوان- أن مجموعة «ناس العبيد» بمدينتها الصغيرة هم مجموعة ليست نظيفة بحسبها، فهم يتسببون في انطلاق الحشرات والفئران على جيرانهم المحيطين بهم بسبب عدم نظافتهم.
تتابع سامية من سطح منزلها جارتها التي تنتسب إلى تلك المجموعة، وتؤكد أنها أمسكت فأرًا بيدها وألقته بعيدًا، وكان هذا أمرًا مقززًا جدًّا بالنسبة لسامية، أكد لها أن شيئًا ما غريب وغير مريح يمس قدرة هذه المجموعة على النظافة. لا تقترب سامية من منازل هذه المجموعة كثيرًا، ولكنها تؤكد أن من اقترب قد وجد رائحة كريهة للغاية لم يستطع احتمالها.
يقاطعها زوجها الرجل الستيني قائلًا: «حرام عليكِ، أفضل الروائح التي يتم تصنيعها تأتي إلينا من السودان، ألم تجربي تلك الخمرة التي أحضرناها ولم تكن رائحتها تزول حتى رغم تكرار غسيل أيدينا، فما علاقة لون البشرة، سوداء أو بيضاء، بالرائحة والنظافة؟!»، فتؤكد سامية غاضبةً أن هذا ما رأته وسمعته، ولا دخل لها في أكثر من ذلك.
في الرابع من أغسطس 1877، وقعت الحكومتان البريطانية والمصرية على اتفاق بالإسكندرية يقضي بقمع تجارة الرقيق، وطبقًا لذلك تم منع استيراد أو تصدير العبيد السودانيين والأحباش، كما استلزم الأمر فرض عقوبات مشددة على تجارة الرقيق. وفي عام 1926، عقدت «اتفاقية إلغاء الرق والعبودية» في مؤتمر الرق العالمي الذي عقد في جنيف، وعملت بريطانيا جاهدة بعد توقيع الاتفاقية على التأكد من إلغاء الرق والعبودية في مصر، بما أنها الدولة صاحبة السيادة والسيطرة.
الحق في الحب والزواج
«أعلم أنه لا حق لي في الحب خارج بني لون بشرتي»، هكذا تقرر ونجي بمنتهى الثقة، وتضيف قائلة: «أمي تعلم ذلك أيضًا جيدًا، وهو ما دفعها أن تنظم مع أبي مجيء ابن عمي ليلحق بنا في القاهرة، ما زال إخوتي صغارًا، ووحدي أنا في سن الزواج في نظر أمي، تقول إنها تود أن يأتي ابن عمي ويبدأ في البحث عن فرصة عمل، ويؤمن مسكنًا، ويرتدي أحدنا دبلة الآخر، إلى أن تستقر أموره في العاصمة، وأكون أنا قد تخطيت عامًا أو اثنين في الجامعة ثم يُعقد قراننا، لا أمانع فكرة الارتباط من ابن عمي، بل أزرع بداخلي التعلق به والحب له، أعرف أنني ما زلت صغيرة على التقرير والاختيار، ولكن أمي تعرف أكثر، وأعرف أيضًا أنه لا بدائل أمامي حتى أحير نفسي في الاختيارات، فوحده ابن عمي يقبلني، ووحده ابن عمي مناسب لي».
وحول تأكد ونجي أنه لا اختيارات أخرى أمامها في الارتباط، تقول: «هذا معروف جدًّا، لا أحد يمكنه أن يقبل لوننا بسهولة، وما حدث مع ابنة عمي هو المثل الحي في عقلي وقلبي دومًا».
النتيجة التي توصلت إليها ونجي اتفق معها عبدون جدًّا، فعندما حان وقت زواجه عاد لبلدته فتزوج منها، وأتى بزوجته لتعيش معه في العاصمة حيث مكان عمله.
ما حدث مع سارة، ابنة عم ونجي، وأعطى ونجي درسًا لن تنساه، يؤكد أيضًا حكمة ما توصل إليه عبدون، فمنذ سنوات طويلة سبقت أسرة سارة أسرة ونجي في النزول إلى القاهرة للاستقرار والعمل والتعليم، وتقول سارة عن تجربتها: «أحببت، كنت أدري كل العقبات التي ستقابلني، لكني تركت نفسي لهذا الشعور الذي اجتاحني للمرة الأولى، كان زميلًا لي في الجامعة، في البدء كان نافرًا مني، ولكن حينما تعامل معي واقترب بحكم الزمالة قال إنه رأى جمال روحي، وأنه لا يستطيع أن يبتعد عني، أخبرته أنني لا أرى وجهي بمقدار ما سيراه هو، أنا لن أرى وجهي إلا في اللحظات القليلة التي أقفها أمام المرآة، ولا أشعر بلون بشرتي، ولا أتذكره حتى إلا عندما أراه في عيون الناس وفي تعبيرات وجوههم، فقال الأهم هو طيبة قلبي وحناني عليه».
كانت الأمور مستقرة مع سارة وزميلها إلى أن طلب منها مقابلة والدته في مكان عام، لأنه يود أن يُعرف كل منهما على الأخرى، وحينما رأتها أمه لم تستطع التحكم في ملامح وجهها التي وصل سارة منها الرفض، جذبته من يده لتأخذه بعيدًا عن سارة قليلًا، ولكن صوتها الحاد الغاضب اخترق مسامعها، وهي تقول له: «هي السودا دي اللي عاوز تتجوزها؟!».
تقول سارة: «لم أشعر بنفسي، لم أنتظر عودتهما، أخذت شنطتي وجريت مبتعدة والدموع تملأ عيني، لم أراه بعدها مرة أخرى، فقد انشغلت في الأيام التالية بتحويل أوراقي من الكلية التي يدرس فيها بأكملها! حاول الاتصال بي كثيرًا لكنني لم أرد ولم أشعر للحظة واحدة برغبة في الرد، ربما أكون ظلمته وحملته ذنب أمه، فلم أكن أود أن أرى ولو للحظة واحدة أي شيء يُذكرني بهذه المرأة، حتى وإن كان هو!».
الإيمان بالله في مواجهة نكات الأصدقاء!
«10 سنوات من التعليقات الحادة السخيفة اللاذعة»، هكذا يلخص عبدون مشوار سنواته في العاصمة، يشارك عبدون زملاءه في العمل الضحك حول لون بشرته، فكل راغب في خفة الظل والتهكم والسخرية يقول له إنه ربما كان الأجدر به أن يكون سائقًا أو طباخًا، ليرد عبدون ساخرًا عليهم قائلًا: «ولكنني للأسف لم أجد قصر باشا لأعمل به»، ليواجه أسئلة أسخف من قبيل ما إذا كان أغلب بلدتهم يُطلق عليهم اسم عثمان -كما تعرض الدراما ذلك- أو ما إذا كانت أصولهم فعلًا من العبيد؟!
يؤكد عبدون أنه لولا الإيمان ما استطاع العيش، قائلًا: «مجتمع قاسٍ كهذا لا يحتمل المختلفين. كيف يستقبل المذنب؟ كيف يتعامل مع المعاق؟ ولمَ كل هذا القدر من التمييز؟! لولا الإيمان بالله الذي يملأ القلب، وأنني لم أختر لوني، الذي اختاره الله لي ما كنت أستطيع العيش وسط الناس واحتمال أذاهم».
في مترو الأنفاق تخوض ريم نبيل -الفتاة القاهرية- شجارًا ضخمًا، وكان هذا بسبب أن إحدى السيدات قالت لفتاة جامعية صغيرة السن سوداء البشرة، إنها «عبدة»، تقول ريم: «لم أتابع الشجار منذ بدايته، ولكن اخترقت أذني هذه الكلمة، فأفقت من شرودي مصدومة، لم أصدق أنه من الممكن أن يقول أحدهم هذا لشخص آخر في وجهه، تابعت ما يحدث وجدت أنهما كانتا تتشاجران حول كرسي فارغ، ومن منهما سيجلس عليه. كانت المرأة تتشاجر مع الفتاة السوداء لأنها ترى أنها أحق بالجلوس، وفي وسط المشاجرة وجدناها تقول لها إنها عبدة، ولا يجب أن تسيء الأدب أكثر من هذا».
تضيف ريم: «لم أشعر بنفسي أنا ومجموعة ممن حولي إلا ونحن نتشاجر بدورنا مع السيدة الأكبر سنًّا، ونستنكر عليها أن تقول للفتاة الصغيرة هذا الكلام، رغم أن الفتاة لم تكن ترد ولم تأخذ حقها من السيدة التي أهانتهاا».
وفي مشاركة له على موقع «السودانيون أون لاين» في موضوع يناقش العنصرية في مصر خصوصًا، ومعاملة الملونين في البلاد العربية، يقول عثمان دونجوس -السوداني الأصل-: «لا أتفاجأ كثيرًا إذا تعنصر عليّ عربي قُح، أو أي شخص آخر من ذوي البشرات الفاتحة في بلده، ولكن أستغرب عندما يتعنصر عليَّ شخص من بني جلدتي. كلمة جلدتي هذه مربوطة ربطًا وثيقًا باللون والملامح. الأمر الأهم هو تعنصرنا على بعض، وإقصاؤنا لبعضنا البعض، وهذا في رأيي، ناتج من الموروث التاريخي العبودي الذي خلفه العرب الغزاة في السودان، هذا الموروث بدأ بالاسترقاق والسبي وتبعاته، وما خلفه ذلك من عقد نقص وتأرجح في الهوية».
يرى عثمان العنصرية من صميم عمل الشيطان حين أمره رب العالمين بالسجود لآدم ورفض لإحساسه بأنه أفضل من آدم المخلوق من طين. ويرى أن العنصرية بالطبع ليست محصورة في العرب، فالشعوب الأخرى من ذوي البشرات البيضاء أو الفاتحة أيضًا فيهم عنصريون. مثلًا، العنصريون من الغربيين يخجلون من عنصريتهم ويمارسونها في الخفاء لكي لا يُنعتوا بالتخلف والغباء، هذا بالإضافة إلى سيف القانون الرادع. أما العالم العربي فقد عشعشت فيه العنصرية؛ لأنها وجدت بيئة صالحة لنموها، ألا وهي التخلف والجهل وضيق الأُفق وغياب القوانين التي تجِّرم العنصرية في كل أشكالها، بحسبه.
«التخلف والجهل وضيق الأفق»، هي الأسباب التي وضعها عثمان للعنصرية، وتؤكدها نسمة علي، فهي ترى الكثير من التحرش اللفظي الذي تقوم به الطبقات المتدنية تعليميًّا تجاه ملوني البشرة في الشوارع، بشكل ثابت ودوري.
بحكم سكن نسمة في منطقة المعادي بالقاهرة، فقد كانت تستقل مترو الأنفاق من محطة حدائق المعادي؛ إذ لاحظت نسمة أن كثيرًا ما يستقل المترو من هذه المحطة مجموعات من السود، كل ما تلاحظه نسمة أنهم ربما يكونون أفارقة، لتبدأ الأسطوانة التي أصبحت محفوظة بالنسبة لها أكثر مما ينبغي، إذ يلقي أحد الركاب تعليقًا ما ساخرًا من لون بشرتهم، أو يتحرش أحد باعة المترو لفظيًّا بإحدى الفتيات من داكنات البشرة، ويظن المعتدي أنهم ربما لن يفهموه، ولو فهموه فلن يُحركوا ساكنًا، ليتفاجأ بأنهم قد تلقفوا ما قاله وفهموه، وقرروا أن يكون لهم ردة فعل.
يبدأ الاشتباك اليومي المعتاد، الذي يكون أحيانًا بالكلام فقط، ويصل في أحيان كثيرة إلى حد الاشتباك بالأيدي.
الغريب، في نظر نسمة، أنهم يردون بلهجة مصرية سليمة جدًّا، وينتقدون أوضاع البلد وحال الأخلاق الذي جعلهم يدافعون عن أنفسهم من لون بشرتهم، المشهد يتكرر أيضًا في منطقة عرب المعادي، ولكن في هذه المرة مع سائقي الميكروباصات الذين يتحرشون لفظيًّا بالفتيات ذوات البشرة السوداء، فيردن عليهم بدورهن، تقول نسمة: «ما أستطيع أن أحسمه بمنتهى الوضوح أن هناك الكثير من المضايقات التي يتعرض لها ذوو البشرات السوداء في شوارع القاهرة من أولئك الذين لم يحظوا بقدر تعليم كافٍ، ولا تربية كافية على ما يبدو».
الدراما والسينما واحتقار أصحاب البشرة السوداء
في الدراما المصرية تجد أن الشخص أسود اللون، لا بد أن يكون سائقًا أو طباخًا أو خادمًا أو عبدًا، وهو ما جعل السينما المصرية لا تقدم بسهولة أبدًا فرصة لذوي البشرات الملونة لتقديم موهبتها، وهو ما واجهه نجم بقامة أحمد زكي في بداية مشواره. «ما ينفعش الولد الأسود ده يحب سعاد حسني»، هكذا يذكر أن المنتج والموزع رمسيس نجيب قال هذه الكلمات، حين رفض أن يأخذ أحمد زكي دور البطولة في فيلم الكرنك الذي أنتجه.
جعلت السينما ذوي البشرات الملونة في أماكن محددة، فقد عاش الفنان الراحل علي الكسار طوال حياته الفنية في تجسيد تلك الأدوار النمطية لذوي البشرات الملونة كخادم في أفلام «بواب العمارة»، و«سلفني 3 جنيه»، و«الساعة 7»، و«عثمان وعلي»، وتلك هي القناعة التي استقبلها الشارع والمجتمع بأجياله المتعاقبة أنها حقيقة مفروغ منها، وبدأ يتعامل مع السود على أنهم خدم وعبيد.
تلك الصورة التي جعلت في أغسطس)آب) من عام 2015 إعلانًا يُنشر في جريدة الوسيط المصرية لشركة تطلب «أوفيس بوي» يكون نوبيًّا، أو من أصل إفريقي، وهو ما تم استقباله بموجة غضب عارمة من أن تكون صورة ذوي البشرة الملونة محصورة دائمًا في تلك المهن، وبأن هذه المهن فقط هي ما تناسبهم، وهو ما دفع الشركة إلى تقديم اعتذار، وقالت إنها حددت هذه الفئات لأمانتها.
يضيف ياسر الشريف، على موقع السودانيين أون لاين -وهو سوداني أيضًا- قائلًا :«العنصرية ضد الأسود ووصفه بالعبد خلَّدها المتنبي في شعره في هجاء كافور حاكم مصر النوبي الذي يسميه بعبد الإخشيد، وقال فيه:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ** إن العبيد لأنجاس مناكيد
من علَّم الأسود المخصي مكرمة ** أقومه البيض أم آباؤه الصيد
أم أذنه في يد النخاس دامية ** أم قدره وهو بالفلسين مردود
لذا لا غرو إذا كان لفظة (عبد) أو (عب) أو (فرخ) و(فريخ) مرتبطة في المخيال السوداني بالشخص الأسود».
أدرك النوبيون بعد زمن طويل أن ما تقدمه وسائل الإعلام عنهم يجب أن يلتفتوا له بكامل انتباههم، لأنه حقًّا يؤثر في حياتهم، وفي نظرة الناس لهم وتعاملهم معهم، لذلك ثارت ثائرتهم حينما وردت كلمة «القرد النوبي» في أغنية «بابا فين» للمطربة هيفاء وهبي، وأقاموا الكثير من الوقفات الاحتجاجية الغاضبة التي تطالب بإزالة الجملة كاملة من الأغنية، حتى تحقق لهم ما أرادوه.
يقول سليمان، شاب نوبي: «لسنا قرود، ولن نسمح أن يقول علينا أحد هذا التشبيه، هكذا يجب أن يعرف الجميع، فنحن صمتنا كثيرًا حول صورتنا في الأفلام والمسلسلات والأعمال الدرامية، فلم تكن الأجيال التي سبقتنا تنتبه لخطورة الصورة التي يتم تكريسها عنّا بأننا خدم وعبيد، حتى وجدنا الناس مرة واحدة يعاملوننا وفقًا لهذه الصورة، فقط بسبب لون بشرتنا».
ساسة بوست