'الإصلاح الديني': مساءلة للمقاربة - مقالات
أحدث المقالات

'الإصلاح الديني': مساءلة للمقاربة

'الإصلاح الديني': مساءلة للمقاربة

بقلم حسن منيمنة

الإشكال في المجتمعات التي يحضر فيها الإسلام ليس بأن المسلمين قد تخلوا عن دينهم، فجلهم يجهد لإقامة شعائره والتحلي بأخلاقه؛ ولا هي بأنهم ازدادوا تدينا وتزمتا، فليس المسلمون، حيث يصح هذا التوصيف حالة على حدة، بل الجنوح إلى المزيد من المحافظة ظاهرة عالمية وسط تراجع القيم الإنسانية المشتركة؛ ولا الإشكال في هذه المجتمعات أن علماء الدين خرجوا عن مقاس الناقد، سواء أرادهم أكثر صرامة وتشددا أو أكثر انفتاحا وتسامحا، بل العلة بأنه، في ما يتعدى الدين ونطاقه، هذه المجتمعات تعيش في حالات عوز ونقص وقصور على مستويات عملية وعلمية عدة، لا الشدة في التقوى ولا اللين في فهم الدين السبيل إلى علاجها، ولا الفتاوى الصارمة ولا البيانات الواعدة الطريق إلى سدها. فالدعوة إلى "الإصلاح الديني"، إذ تثير جدلا بين مؤيد ومعارض، تبقى حكما ووفق الشواهد الحالية والسوابق الماضية عاجزة عن الحسم وعن استنتاج صيغة دينية جامعة. شأنها وحسب أن ترفع من حرارة الخلاف في موضوع خارج سياق الاستنهاض المطلوب، وتدخل المتبارزين في صراع عقيم يستهلك الطاقات.

وأوجه التأزم في دعوات الإصلاح الديني عديدة، أولها أنه لا مرجعية عليا ملزمة لعموم المسلمين، وتفرق علماء الدين إلى مناهج متباعدة يمنع وصولهم إلى الإجماع والذي قرر البعض أنه ينوب عن الأمة في تحديد الواجب. والأهم أنه لا اتفاق على لزوم الإصلاح، بين من يصر على حتميته ومن يرى بأن الدعوة إليه سعي مبطن للطعن بالدين.

ودعاة الإصلاح يستأنسون في العديد من الأحيان بالتجارب التاريخية لغير الإسلام من الأديان، والمسيحية خاصة. لسان حال هذا الطرح الذي يتكرر هو أنه كما أن المسيحية قد شهدت في القرن السادس عشر الميلادي حركتها الإصلاحية والتي أطلقها مارتن لوثر، فقد يكون الإسلام بدوره يقترب من وجوب إصلاحه بحركة مماثلة. ثمة خطأ منهجي في هذا الطرح عند افتراض المعيارية للتجربة الدينية المسيحية وتوقع تكرارها رغم اختلاف الظروف والمعطيات، بالإضافة طبعا إلى إغفال حقيقة أن من يشابه مارتن لوثر في التاريخ الديني الإسلامي، لجهة تشذيب التراكم النصي الديني والعودة إلى الأصول الأولى، أي إلى السلف، هو ابن تيمية، قبل مارتن لوثر بقرون، ثم محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في القرن التاسع عشر، مع التنويه إلى أن المسار الفكري النابع من محمد عبده قد أنتج بالفعل طه حسين، عند أقصى الانفتاح، ثم انقطع، ولكنه كذلك أخرج محمد رشيد رضا ومنه حسن البنا ومنه سيد قطب ومنه عبدالله عزام وصولا إلى أسامة بن لادن ثم "الدولة الإسلامية".

وهذا التسلسل المتعاقب باتجاه الشدة ليس ظاهرة عرضية طارئة، فدعوة الإصلاح يرافقها حكما منهج انتقائي، أو وفق مصطلح السلف، أهوائي. ومع اعتماد دعاة اللين لهذا المنهج، يمسي متاحا لدعاة الشدة، والذين من شأنهم أن يجدوا من المواد لدعم مذهبهم ما يفوق قرائن دعاة اللين بأشواط، وينتفي ما كان سائدا من أصول تلطيفية قائمة على التسليم بانعدام التجانس المطلق، مثل درء الحدود بالشبهات، وصولا إلى أن تمسي الشدة هي القاعدة، واللين شذوذا عنها، بعد أن كانا متجاورين في القراءات السابقة للإصلاح. فهذه مسألة تستحق التمحص والانتباه: الفكر المتشدد الصارم بسلفيته والداعي إلى الجهادية هو الوليد المنهجي الطبيعي للفكر الإصلاحي.

الدين طبعا ليس داء، ولكن دعوات الإصلاح الديني غالبا ما تنطلق من فرضية أنه كذلك، ثم تعمد إلى العلاج وفق مقولة "وداوني بالتي كانت هي الداء".

وليست هذه "الهفوة" المنهجية، أي التعامل الانتقائي مع النص والقابل للتوظيف لاستخراج قراءة تقدمية منفتحة متسامحة كما لإنتاج تصور سلفي صارم، المساهمة السلبية الوحيدة التي تقدمها الدعوات الإصلاحية في الفضاء الديني.

بل ثمة سمتان دقيقتان خلف الزخم المصاحب للدعوات الإصلاحية. الأولى أن دعوات الإصلاح في غالبيتها العظمى فوقية أبوية نخبوية لا تتعامل مع الواقع الفكري الديني من إطار الاختلاف المستوجب للتسليم، بل تكرر الطعن بعقول من لا يوافقها الرأي.

فإذا كانت التوجهات الناشطة الدينية تشهر سلاح التكفير بوجه خصومها، وإذا كان ما يقابها من الطروحات القومية والوطنية تلجأ إلى التخوين، فإن من يمني نفسه بأنه من أصحاب الفكر الإصلاحي المستنير غالبا ما يعتمد التسفيه للتصدي لمن يرفض الإذعان لآرائه. وأساليب الاسترذال هذه، أي التكفير والتخوين والتسفيه، متشابهة في إسقاطها للآخر من الاعتبار ونفي الحاجة إلى مواجهة طرحه بالحجة.

أما السمة الثانية، وهي أقل انتشارا ولكنها أكثر خطورة، هي أن بعض دعوات الإصلاح ليست شفافة، أي أنها لا تجاهر بكامل مبتغاها فتتطرق إلى الجزء فيما هي تقصد الكل، لاعتبارات التدرج أو لمراعاة مشاعر جمهورها. ولكن التقصير في الشفافية هنا ليس غائبا عن الخصوم والذين يستغلونه، مبالغا به ومضاعفا، لإثارة الريبة دون الحاجة بدورهم إلى التصدي للمضمون. فالمواجهة بين الإصلاح وخصومه تندرج بالتالي في واقع المزايدات في إسقاط الآخر أكثر منها في إطار الانتصار للطروحات التي يدعو إليها كل طرف.

والسعي إلى التعويض عن واقع غياب الحوار الصادق المنتج بين أصحاب الرؤى المحافظة ودعاة الطروحات التقدمية من خلال الاعتماد على سلطة تفرض الرؤية الإصلاحية قد يحقق وهم الغلبة، ولكنه لن يبدل تراتبية المرجعية الثقافية في المجتمعات المعنية. فالقضية ليست آنية.

في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وفي خضم احتدام التنافس العلمي في مساعي ريادة الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، صدر كتيب في المملكة العربية السعودية من إعداد الشيخ عبد العزيز بن باز يتطرق فيه إلى مسألة كروية الأرض. لم يقطع بن باز في بحثه، والمبني حصرا على استعراض القرآن والسنة، لا بأن الأرض كروية ولا بأنها مبسوطة مسطحة، وإن كان الراجح لديه الرأي الآخر. كتابه هذا كان المثال المتكرر والذي أشهره من يصف الدين بالظلامية للتأكيد على أن المتفقهين من طراز بن باز هم آفة عضال من عصور الجهل والانحطاط. ولا يزال هذا المنحى، أي التشهير بما يتعارض مع العلم السائد من نصوص المخزون التراثي، من الأساليب المعتمدة للدعوة وإن الخجولة إلى هجر الدين كله، أو ترك بعضه على الأقل بالاقتصار على النص القرآني، من خلال تطبيق أدوات التفسير انتقائيا بما يتماشى مع تطويع هذا النص لإرادة الانسجام مع رؤية حاضرة.

والواقع أن المشكلة ليست في ما كتبه بن باز وفي التزامه لمنهجية فقهية تحصر أصول المعرفة بالموروث الديني. بل المشكلة بأن الثقافة العربية تراجعت في العقود الماضية عن التشديد بأن هذا الحصر ينطبق على الدين لا على عموم المعارف. فبعد أن كان بحث بن باز في الستينيات موضوع تندر وتسفيه، أمسى حال الثقافة العربية اليوم أقرب إلى واقع تختزل فيه كلمة "عالم" الفقيه، ويستفتى فيه رجال الدين في جميع الشؤون العلمية، من نظريات نشوء الكون وتشكل المجرات إلى احتمالات الاستنساخ وعواقب الذكاء الاصطناعي. بل ما شهدته المرحلة الماضية هو القبول بتطرق رجال الدين إلى مواضيع كان أسلافهم يمتنعون عنها من باب إدراكهم لافتقاد الأهلية. وما كان رأيا متحفظا لبن باز في الستينيات، وما شابهه في المنحى والمغزى، بات اليوم مادة متداولة في أوساط تزداد اتساعا تشكك بنتائج العلم "الغربي" وتقدم عليه الآراء الفقهية، والتي غالبا ما لا تستوفي الأصول وفق منهجياتها الذاتية، بعد الإضفاء التعسفي لصفة الإطلاقية عليها. وللفقهاء طبعا، تحت أي مسمى، أن يدلوا بآرائهم، وفق المنهجيات المعتبرة لديهم، بالمسائل كافة. والمشكلة ليست في إجاباتهم، بل في الثقافة التي تحملهم ما لا يتحملون.

فبعد أن أفرطت الثقافة العربية في الاعتماد على رجال الدين كبدائل عن مرجعيات علمية وثقافية مندثرة، يبدو الإصلاح الديني وكأنه مطالبتهم بأن تتبدل إجاباتهم، في الشؤون العلمية كما الاجتماعية والفكرية، بما يتناسب مع القناعات الإصلاحية المسبقة. ففي هذه المطالبة إجحاف بحق المؤسسة العلمائية بأن تعمد وفق أسسها الذاتية إلى معالجة ما يواجهها من قضايا، وهي عديدة وواسعة وضرورية وخطيرة. ولكن الأخطر في التركيز على الإصلاح الديني هو الربط الضمني والصريح بين هذا الإصلاح، رغم انحسار التوقعات بتحققه بما يتوافق مع طموحات دعاته، وبين السلسلة الواسعة من الإصلاحات الأكثر إلحاحا والأشد تأثيرا على المجتمعات المعنية، البنيوية والثقافية والسياسية.

فبدلا من أن تكون المقاربة الشروع بالإصلاح الديني كأولوية، مع ما يمثله ذلك من إثارة للهم الديني والقلق الوجودي، قد يكون من الأفضل السعي إلى تعزيز كافة البنى الذاتية، والثقافية منها أولا، في المؤسسات التعليمية وفي الفضاء العام، لتحقيق الصالح الفردي والمجتمعي، وفي اقتراب مما كان عليه الواقع الثقافي في المجتمعات العربية كافة قبل الاختلال بالتوازن في تلقي المعرفة، والذي صاحب فشل نموذج الدولة في العقود الأخيرة. فالمجتمعات القادرة على تحقيق النهوض التي تتوخاه من شأنها، تلقائيا ذاتيا ودون أبوية سلطوية، أن تنتج القراءات الدينية المتوافقة مع قيمها وقناعاتها.

الحرة

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث