رضا غنيم
في الوقت الذي اكتسب فيه تيار الإسلام السياسي شعبية جارفة، أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأصبحت له مكانة في عالم الاقتصاد والإعلام، نُظمت عدة مناظرات حول الإسلام والعلمانية.
استمرت الندوات منذ أواخر الثمانينيات في القاهرة، على فضائية "الجزيرة"، قبل أن تختفي في الألفية الثالثة، وتعود بمناظرة في مصر، لم تكن على مستوى مناظرات التسعينيات.
في ما يلي، أبرز 5 ندوات حول الإسلام والعلمانية منذ الثمانينيات حتى الآن.
1-فرج فودة ومحمد الغزالي
بحضور حوالي 30 ألف شخص، جلس المفكر العلماني فرج فودة ومحمد أحمد خلف الله، في مواجهة مع الإسلاميين محمد الغزالي، ومحمد عمارة، ومحمد مأمون الهضيبي، في الثامن من يناير 1992، تحت لافتة مكتوب عليها "مصر بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية"، بإحدى قاعات معرض القاهرة للكتاب.
بدأ الغزالي الحديث، رافضاً محاولة العلمانيين نسخ النموذج الغربي في الدول الإسلامية، ومن بينهم مصر. وقال إن الشورى الغربية جعلت مجلس العموم البريطاني يُتيح الزنى والشذوذ، وهذا مخالف لتعاليم الدين الإسلامي الذي يشدد على عقوبة الزاني والزانية، ويرفض الشذوذ.
واستشهد الغزالي بعقوبة الإعدام لشرح الفرق بين الديمقراطية الغربية والديمقراطية الإسلامية: "الاستعمار ألغى آية (وكتب عليكم القصاص)، يريدون أن يحكموا بأهواء الإنسان، وليست الشرائع السماوية. الديمقراطية الإسلامية ترى أن الشورى حق، ولكن عندما يوجد نص قرآني، لا أستطيع القول أن للشورى مكاناً".
ووفق حديثه، فإن المطلوب حكومة إسلامية نصفها وحي من عند الله، ونصفها عقل يبحث عن المصلحة، ويمشي بالقياس والاستحسان.
في المقابل، دافع فرج فودة عن العلمانية، رافضاً الحكم بالشريعة الإسلامية. وقال إن الإسلام دين، بينما الدولة كيان سياسي واجتماعي واقتصادي يحتاج إلى برنامج تفصيلي لأسلوب الحكم، والإسلاميون لا يقدمون برنامجاً سياسياً.
وتطرق إلى تجربة الدولة الدينية، قائلاً: "تجربة الدولة الدينية استمرّت 13 قرناً تحكم بالشريعة الإسلامية. 13 قرناً نرى سلب ونهب الأموال في عهد الخلفاء، ونرى قمع الآخرين، الفتنة التي ترتبت عليها شلالات من الدماء".
وسرد فودة مميزات الدولة المدنية: "نحن الذين ندعو للدولة العلمانية ننزه الإسلام عن ممارسات السياسة، لا تنسوا ما قيل عن صدام حسين في أحد المؤتمرات من أنه في أسفل السافلين بالإسلام، وفي الوقت نفسه مؤتمر ببغداد يُقال فيه إن صدام في أعلى الأعليين بالإسلام. في الدولة المدنية لن يشعر فريق من المواطنين بالخوف، لأنه يحكم بعقيدة فريق آخر".
وطلب فودة من الحاضرين نموذجاً للدولة الدينية التي يريدونها: "تقولون إن الدولة الدينية ليست حلماً. وهناك دول بجوارنا تجرّب هذا. من هي؟ هل هي إيران؟ هل هو حكم (جعفر) النميري في السودان؟ أعطوني نموذجاً لدولة دينية تسمح لكم بأن تجلسوا في مناظرة، ثم تخرجوا ورؤوسكم فوق أعناقكم. هذه المناظرة ذاتها هي إحدى ثمار الدولة المدنية".
وقال مأمون الهضيبي إن الأحكام الواردة في القرآن الكريم تؤكد أن الإسلام دين ودولة، والحكم بما أنزل الله ركن من أركان العقيدة.
ورفض الدكتور محمد عمارة تطبيق النموذج الغربي في الدول الإسلامية، وقال إن العلمانية والقانون الوضعي وصمة وبصمة للاستعمار في بلاد المسلمين.
وأضاف أن الدولة واجب مدني، وبدون إقامته يستحيل إقامة الواجب الديني، متابعاً: "حينما حكمنا بالإسلام كنا سادة العالم، وحينما حكم الغرب بالمسيحية كان التخلف والرجعية".
محمد أحمد خلف الله، الشخصية اليسارية البارزة في التسعينيات، أيد حديث فرج فودة، وقال إن العلمانية تضمن عدم التمييز بين المواطنين، وتغليب مصالح طائفة عن أخرى.
ورفض خلف الله فكرة أن الإسلام دين ودولة، موضحاً أن الملوك يستمدون سلطتهم من الله أحياناً وأنهم يمتلكون حق التحكم في مصائر الشعوب، بينما الأنبياء يستمدون سلطتهم من الله دائماً، وأنهم لا يملكون التحكم في الشعوب بل إن الله حدد مسؤوليّاتهم في الدعوة إلى الله فقط.
2- فؤاد زكريا في مواجهة القرضاوي والغزالي
في أواخر الثمانينيات، عُقدت مناظرة في دار الحكمة وسط القاهرة، بعنوان "الإسلام والعلمانية"، أبطالها أستاذ الفلسفة فؤاد زكريا، والشيخ يوسف القرضاوي، والمفكر الإسلامي محمد الغزالي.
بدأ زكريا الحديث وسط عشرات الحضور، بالتحفظ على عنوان المناظرة، وقال إنه فُهم أن المقصود وضع نوع من التضاد بين الإسلام والعلمانية، وهذا معناه أنه خسر المعركة قبل أن تبدأ، موضحاً أنه لا يصح وضع الإسلام في كفة، والعلمانية في كفة أخرى.
وسرد زكريا تاريخ العلمانية، وقال إنها ظهرت في عصر النهضة بأوروبا، حينما ثار المواطنون على الكنيسة التي كانت تتدخل في كل شيء، في الفلسفة والسياسة والعلم، وكانت تنصب محاكم تفتيش للمخالفين لها، موضحاً أن العلمانية في أوروبا هي ردة فعل في التفكير ضد الكنيسة.
وأشار إلى أن تبني أوروبا للعلمانية ليس معناه أنها تخلت عن الدين، وأصبحت كافرة، بل تبنت أسلوباً في التفكير، هدفه تحييد الدين في المجتمع، وهو ما نريده في العالم الإسلامي، بحيث لا يستخدم الحاكم الدين كمبرر لقمع المخالفين، أو لاضطهاد الأقليات.
في المقابل، رفض يوسف القرضاوي العلمانية، وقال إنها مضادة للدين الإسلامي، لأن الشريعة هي التي تنظم بأحكامها الحياة، وتضع لها الضوابط، سواء في ما يتعلق بالأحوال الشخصية أو المجتمع، أو الدولة، وبهذا تناصب العلمانية العداء للدين.
وأضاف أن العلمانية هي دعوة للعودة إلى الجاهلية، أي إلى الحكم بما وضع الناس، لا بما أنزل الله، كأنها تقول لله: "نحن أعلم بما يصلح لنا منك".
واتفق معه في الرأي محمد الغزالي، الذي اعتبر أن العلمانية مستوردة من الغرب الاستعماري، ولا تصلح في بلاد المسلمين، كما أنها ضد الدستور الذي يستمد قوانينه من الشريعة الإسلامية، وضد إرادة الشعب الذي يلجأ لتحكيم الإله.
هذه الندوة دونها القرضاوي في كتاب بعنوان "الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه"، ولم يدوّن فيه رأي فؤاد زكريا.
قال الأخير في مقابلة مع صحيفة "الشرق الأوسط"، في فبراير 2010: "أنا أعتقد أن ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي عن هذه المناظرة كان به تشويه كبير لما حدث فيها، لكي يظهر نفسه ويعلن أنه هو المنتصر في هذه المناظرة، ويظهرني على أنني كنت متهافتاً. وما حدث في تلك المناظرة كان عكس ما تم الترويج له تماماً، أنا أعتقد أنني استطعت الدفاع عن العلمانية والتنوير في تلك المناظرة بطريقة سببت الحرج الشديد لمناظري الشيخين الغزالي والقرضاوي".
3- صادق جلال العظم ويوسف القرضاوي
ظهر المفكر العلماني السوري صادق جلال العظم في مناظرة مع يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ببرنامج "الاتجاه المعاكس" على فضائية "الجزيرة". ودارت المناظرة حول الدين والعلمانية، وطرح الإعلامي فيصل القاسم، مقدم البرنامج، عدة أسئلة منها: هل الدين سبب التخلف؟ ولماذا لا يقبل الإسلاميون العلمانية؟
بدأ العظم، صاحب كتاب "نقد الفكر الديني"، الحديث بتعريف العلمانية، وقال إنها ترتيب سياسي واجتماعي ملائم لشروط العصر الذي نعيش فيه، وإنها الحياد الإيجابي للدولة وأجهزتها إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والفرق الموجودة في المجتمع.
وأضاف أن العلمانية أيضاً تعني احترام الضمير والمعتقد، والحفاظ على حرية الرأي والتعبير، بمعنى آخر: "استقلال الحياة العامة للمجتمع عن شرائع الأديان"، واستشهد بالهند، حيث تعيش أقلية مسلمة كبيرة محمية بالعلمانية.
في المقابل، رفض القرضاوي، بحدة تحوّل المجتمعات الإسلامية للعلمانية، وقال: "العلمانية هي عزل الدين عن المجتمع والدولة، هل هذا ممكن في ديارنا الإسلامية؟ هذا ممكن في الغرب، لأنه مسيحي، والمسيحية تقبل انشطار الحياة والإنسان، الإنجيل يقول: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
وبرر القرضاوي رفضه للنموذج العلماني الغربي، بقوله إن الغرب مسيحي، والمسيحية ليس بها تشريع، لذلك يقبل المسيحي بأي نظام، لكن الإسلام به شريعة تنظيم حياتنا: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».
رفض العظم ما قاله القرضاوي حول العلمانية والمسيحية، وقال إن الإسلام نشأ في موقع مُعين، وتحوّل لشيء عالمي، والعلمانية نفس الشيء، إذ نشأت ثورة على وضع الكنيسة، ثم تحوّلت لحالة عالمية.
القرضاوي، بنبرة صوت عالية، قال إن محمد نبي عالمي، مستشهداً بالآية القرآنية "وما أرسلناك إلا نبياً للعالمين"، موضحاً أن الحكم يجب أن يكون بالدين، لأنه هو شرط تقدمنا، وسبب فشل المسلمين في التقدم هو أنهم لم يجعلوا الدين أساساً لحياتهم، أخذوا قشوراً، وأهملوا روح الدين وحقيقته.
4-سيد القمني وهاني السباعي
في بداية الألفية، وللمرة الثانية، أدار الإعلامي فيصل القاسم عبر برنامجه "الاتجاه المعاكس"، على فضائية "الجزيرة"، مناظرة بين الباحث العلماني سيد القمني، والشيخ السلفي هاني السباعي، حول الدين والعلمانية وتأثيرهما على الديمقراطية.
وبدأ السباعي الحديث بمهاجمة العلمانيين، واصفاً إياهم بالخلايا السرطانية، وقال إن "نفايات الفكر العلماني تتساقط من الغرب، يدعون الإصلاح بينما هم مفسدون في الأرض".
"العقل الإسلامي السلفي هو الذي أدى للديمقراطية"... استمعوا إلى أشهر المناظرات التي شهدتها الألفية الماضية بين الإسلاميين العلمانيين
وأضاف: "الغرب المسيحي يرفض العلمانية بسبب الانحلال ويريد العودة للدين المسيحي، بينما العلمانيون هنا في بلاد الإسلام يريدون تطبيق النموذج الذي يرفضه الغرب. يريدون أن ينقلوا التجربة اللادينية إلى ديار الإسلام".
ورد القمني على السباعي بقوله إن الإسلاميين لا يقدمون برنامجاً سياسياً، هم يقدمون برنامج الله: "ربنا هو اللي يطبقه مش إنتو"، مشيراً إلى أن السلفيين والإخوان المسلمين يقمعون الآخرين المخالفين لهم، وجعلوا النساء مثل العساكر في الطرقات، ولم يعطوهم حقوقهم.
وأضاف أن العلمانية جزء من الديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون علمانية، موضحاً أن الصندوق الزجاجي الذي نرشح فيه مَن يمثلونا في السياسة ليس هو الديمقراطية.
وأشار إلى أنه جرت سلفنة المجتمع، وتشويه صورة العلمانية، ولذلك يفوز الإسلاميون في الانتخابات.
5- سعد الدين إبراهيم في مواجهة عبد المنعم الشحات
اختفت المناظرات في الألفية الثالثة، وعادت في العام 2012، حين كانت مصر تشهداً صراعاً «دينياً - مدنياً»، وكان الرئيس الإسلامي محمد مرسي يحاول فرض توجهات جماعة الإخوان المسلمين على المجتمع المصري، الأمر الذي قوبل برفض شديد من التيار العلماني.
إثر ذلك، عُقدت مناظرة بين عبد المنعم الشحات، القيادي بالدعوة السلفية، وسعد الدين إبراهيم، رئيس مركز ابن خلدون. ودارت المناظرة حول المدنية والإسلامية في الدستور المصري، وأدارها المحامي الإسلامي منتصر الزيات.
بدأ سعد الدين إبراهيم الحديث بالتأكيد أن الدعوة للمدنية (العلمانية) لا تعني محاربة الشريعة الإسلامية، مضيفاً: "أقول المدنية وليست الإسلامية، لأن أول وثيقة في التاريخ آمنت بالتعددية الحقيقية، كانت صحيفة المدينة التي وضعها الرسول بينه وبين 13 جماعة غير إسلامية".
وسرد إبراهيم مميزات الدولة العلمانية: "لا تستبعد حقوق أي مواطن، ولا تفرق بين المواطنين على أساس الدين أو اللغة أو الثقافة"، موضحاً أن الإسلام لا يناقض الديمقراطية.
في المقابل، قال عبد المنعم الشحات إن الإسلام هو الأساس، والصورة الحالية من الديمقراطية منقول كثير منها عن الإسلام، متسائلاً: "لماذا تركنا آليات الشورى ونتمسك بآليات الديمقراطية فقط؟ العقل الإسلامي السلفي هو الذي أدى للديمقراطية".
وأشار إلى أن العلمانية ضد الإسلام، لأنها لا تريد دوراً للدين في المجتمع، والمطلوب ديمقراطية تعتبر الشريعة الإسلامية المرجعية العليا لها، مضيفاً: "أطالب أنصار العلمانية بمراجعة قضية الشريعة. كيف يكونون علمانيين ومسلمين في الوقت نفسه؟".