مستقبل الأصوليات في العالم العربي - مقالات
أحدث المقالات

مستقبل الأصوليات في العالم العربي

مستقبل الأصوليات في العالم العربي

بقلم محمد المحمود

قبل أكثر من عشر سنوات نشرت مقالا بعنوان: "الأصولية في مرحلة الانحسار"، تنبأت فيه بانحسار الأصولية الدينية في العالم العربي؛ بناء على عدة معطيات، لعل أهمها: وصول هذه الأصولية إلى مرحلة العجز التام ـ أو شبه التام ـ عن إنجاز وعودها الطوباوية التي طالما كانت وسيلتها للحشد الجماهيري وللتضامن الحركي/ التنظيمي.

ولم تكن مفاعيل هذا العجز منحصرة في انفضاض السامر الجماهيري عنها؛ بعدما قاسى مرارة الانتظار الطويل، وارتطم بالفشل بعد الفشل، بل إضافة إلى كل ذلك؛ كان هذا العجز كفيلا بخلخلة صلاة اليقينيات الأصولية حتى عند أولئك المعدودين من كوادر الحراك الأصولي العاملين في الصفوف الأولى فما دونها، فضلا عن بعض الدعاة وكثير من الكتاب والإعلاميين المنتمين علانية أو سرا للجهاز التنظيمي، حيث قادهم ارتياب بالمسار إلى تغيير المسار جزئيا أو بالكامل.

لا ريب أن هذا الفشل/ العجز المنتج لكثير من الإحباطات المثبطة اقترن ـ تسبيبا، وإلى حد كبير ـ بتصاعد درجة العنف الأصولي؛ مما قاد ـ كرد فعل متوقع وطبيعي، بل ومطلوب ـ إلى حملة أمنية شديدة وشاملة من جهة الحكومات المعنية بالأمن كمشروعية أولى. ثم كان لعولمة الإرهاب الأصولي، خاصة في سياق أحداث 11 أيلول/سبتمبر وما بعدها، دور بارز في محاصرة الإرهاب على أوسع نطاق، بحيث أصبح مراقبا ومحاصرا في كل تحركاته العسكرية والاقتصادية والإعلامية ... إلخ. وقد نتج عن هذا بالضرورة قطع علاقته بداعميه الشعبيين، حتى وصل الأمر إلى وقوف البيئات الاجتماعية التي كانت تشكل حواضنه التقليدية موقف الحياد منه؛ هذا إن لم تضطرها الضرورات الأمنية إلى اتخاذ الموقف المضاد/ المناهض.

لهذا كله، أصبحت تلك الجماعات مفككة على مستوى الاصطفاف الجماهيري، وغير مستقرة تنظيميا، وبدأ بعضها يصطدم ببعضها الآخر، وغابت ـ بالقتل أو بغيره ـ معظم القيادات التاريخية التي كانت تحفظ شيئا من التماسك السلطوي أو الرمزي، وأدى الصدام داخل الحراك الأصولي/ الصدام البيني إلى كشف كثير من الأوراق التي تتعلق بانتهازية القادة وكبار الكوادر، وبصراعهم غير الأخلاقي على السلطة/ سلطة التنظيم، وزاد الانفتاح الإعلامي/ التواصلي من معرفة عموم الجماهير بكل ما من شأنه أن يجعلهم يعيدون النظر في موقفهم من الحراك الأصولي بمجمله.

وهكذا؛ تحولت الجماعات ـ في مستوى الشعور العام ـ من خيار بديل للواقع الذي تشكله الحكومات، ومن متنفس للغضب الجماهيري الناجم عن فشل التنمية من جهة، وفشل الانتصار في أهم القضايا القومية من جهة أخرى، تحولت إلى جزء أساسي من منظومة الفشل العام، وبالتالي، أصبحت موضوعا للغضب والرفض والازدراء.

أعلم أن كثيرين يعارضونني في هذا التوصيف للواقع، ويستشهدون على الحالة المعاكسة/ تنامي المد الأصولي، بل وازدهاره، بظهور تنظيمات أصولية متطرفة قوية (كـ"داعش" و"النصرة") حكمت مناطق شاسعة تقع في قلب العالم العربي، حتى وصل بها الأمر أن هددت الدول وناكفتها، بل وهزمتها في بعض الأوقات، فضلا عن كونها استطاعت فرض نموذجها الأيديولوجي في نطاق سيطرتها بكل سهولة؛ دونما قدرة للجماهير التي تشكل موضوع فعلها على رد مظاهر هذه الهيمنة أو الحد منها.

والأخطر، أو الأكثر دلالة على عدم انحسارها ـ وفق قناعة المعارضين لقناعتي بانحسارها ـ هو قدرتها على التجنيد الاستقطاب، سواء من الجماهير التي تقع ضمن نطاق سيطرتها العسكرية/ المادية المباشرة، أو من تلك الجماهير التي تقع منها على بعد آلاف الأميال في القارات الخمس، بل لقد اخترقت حصون أعدائها في هذا المضمار، فجندت أعدادا ليست قليلة من مواطني العالم المتقدم، من أبناء وبنات العالم الذي يعد المعقل التقليدي لكل ما يتعارض معها ويناقضها على مستوى الأفكار والأيديولوجيات، وعلى مستوى الأنظمة المؤسساتية العسكرية والمدنية، التي تعلن ـ جميعها ـ الحرب عليها بلسان الحال أو بلسان المقال.

طبعا، لا أوافق على هذا الاعتراض. ففي تصوري، لم يكن ظهور دولة "داعش" وأشباهها إلا الإعلان الرسمي عن الانحسار/ الاندحار الأصولي؛ على الرغم من كونه يبدو ـ في دلالته الظاهرة ـ إعلانا عن القوة الصاعدة، وتدشينا لمرحلة "التمكين" كما يسمونها. لقد كان وصول أصوليات متطرفة جدا، وفي الوقت نفسه لا تتمتع بنفس براغماتي تفاعلي، فرصة لوضع أهم الأفكار الأصولية ـ كما هي في المرجعيات العقائدية والفقهية المتوارثة على مدى قرون متطاولة ـ موضع التنفيذ العلني.

هناك فرق شاسع بين سماعك بالأفكار، خاصة تلك الأفكار التي تلقى إليك في أجواء إيمانية مشحونة بمظاهر القداسة، وبين أن ترى تلك الأفكار مطبقة على أرض الواقع. هناك فرق بين أن يعد الأصوليون جماهير البؤس العربي، جماهير الاندحار العربي، جماهير الهزائم العربية، بنصر كبير وحاسم ومشرف على الأعداء التاريخيين، الأعداء المعتدين، وبين أن تغدو تلك القوة المرصودة لأولئك الأعداء التاريخيين/ الخارجيين، تلك القوة المنوط بها تحقيق النصر الخارجي، موظفة لرصد تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين (مواطنين افتراضا؛ لا حقيقة؛ لغياب مفهوم المواطنة في التنظيمات الأصولية) ووضعها في سياج صارم، إلى درجة الإلغاء الكامل لكل معالم الحرية الشخصية. وطبعا من يزغ مقدار شعرة عن هذا السياج المحكم، يكن العقاب الصارم الشنيع المذل في انتظاره، بل وعليه القبول والتسليم به، وإلا حوكم بتهمة الارتداد، وعوقب بالإعدام.

إن ظهور الأصوليات في الأصل كان رد فعل على إدراك العربي/المسلم لحالة الانحطاط في العالمين العربي والإسلامي. وتنامت الظاهرة الأصولية بفعل استمرار وتنامي هذا الانحطاط، وكانت الهزائم والانتكاسات على المستوى القومي/ الأمة دافعا لتكون هذه الأصولية ملجأ وخيارا وبصيصا من الضوء الواعد في آخر النفق. صحيح ـ وفق ما يقوله المستشرق الألماني فريتس شتيبات ـ أننا "إذا اعتبرنا أن الأصولية هي رد فعل لموقف تاريخي محدد، فلا يجوز أن نتوقع لها أن تفقد أهميتها وتأثيرها قبل أن يتغير الموقف جذريا" (الإسلام شريكا. ص79). لكن هذا صحيح جزئيا؛ وإلى حد ما، ولا يمكن أن يقول بكليته لا المنطق ولا الواقع. والأصح منه أن فشل الأصوليات الدينية كخيار لمواجهة هذا التحدي التاريخي الذي نشأت للرد عليه، ثم تكشفها عن عنف مجنون طال الأنا قبل أن يطال الآخر، وما نتج عن هذا وذاك من كونها وقفت موقف المعارض/ المحارب لكل خيارات الداخل/ القُطْري/ الوطني بكل قواه المؤثرة، وموقف المشاكس المناكف لكل إرادات الخارج/ العالم، هو ما سيدفعها للانحسار؛ وإن لم يتغير الموقف التاريخي.

إذا كان عدم تغير الموقف التاريخي يشكل داعما لبقائها أو ازدهارها المفترض، فإن ما ذكرته من فشل وعنف وافتضاح يشكل ـ وبصورة أقوى ـ دافعا في اتجاه التراجع والانحسار؛ دون أن يعني ذلك اختفاءها بالكامل من ميادين التجاذبات الأصولية، أو من ميادين الصراع العنفي/ المسلح؛ خاصة وأن مصالح بعض الدول الإقليمية والدولية تتقاطع إيجابيا معها، بشكل دائم، أو في ظروف تاريخية خاصة، تكفل لها البقاء؛ إن لم تضمن لها الازدهار والنماء.

عموما، وفي كل الأحوال، لا يعني تراجع أو انحسار المد الأصولي الديني أبدا أن بنية الوعي الأصولي تتراجع وتضمر بالدرجة نفسها. بنية الوعي الأصولي التي استفادت منها الأصولية الدينية ودعمتها موجودة قبل وجود هذه الأصولية، وستبقى بعدها. ومن المتحقق عندي أن الأصولية القومية، بقدر ما هي تنافس الأصولية الدينية وتعارضها في الظاهر، هي في الوقت نفسه تتبادل معها ـ بوعي أو بلا وعي ـ معظم الأدوار على امتداد تاريخ العرب الحديث. والتشابه الذي يصل درجة التماثل في كثير من الأحيان، بين الأصولية الدينية والأصولية القومية، يحتاج لمقال آخر؛ لعله يتيسر في مستقبل الأيام.

الحرة

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*