قراءة في وعي علي شريعتي - مقالات
أحدث المقالات

قراءة في وعي علي شريعتي

قراءة في وعي علي شريعتي

عبدالله خليفة

 ولد المفكر الإيراني علي شريعتي سنة 1933، وكان والده رجل دين مثقف، ومؤسساً لمركز فكري.

ورغم كونه من شريحة متوسطة فقد كانت نشأته بين الفلاحين والفقراء، فتشبع بمعاناة شعبية مريرة.

وقد نشأ في ذلك الخضم من التحول الوطني في إيران ضد الهيمنة الأجنبية. كان تأثير والده كبيراً عليه، فاستمر في مشروع مركز والده الفكري، لقراءة الإسلام، وقد أرسل إلى بعثة دراسية بالمصادفة إلى فرنسا، وهناك أعاد بناء ذاته الثقافية، يقول عن هذه الفترة:

(وبين فجوة من جدار الجامعة يقفز إلى داخلها بل وفجأة يجد نفسه في قافلة تحمل أولاد الأشراف ومدللي المملكة وزبدة البرجوازية الجديدة في المدينة وأحياناً أولاد خانات الإقطاع الذين أصبحوا عصريين إلى مراكز الحضارة والثقافة والقوة والثروة والصناعة واللهو والقصف في العالم)، (1).

هذه اللغة الأدبية، المُضفرة بين التحليل الطبقي والحس الشعبي والإيمان الديني، ستكون دائماً أداةَ شريعتي في قراءةِ العالم، وهي تعودُ هنا إلى مرحلة التداخل بين العلمانيين الإيرانيين والدينيين، في ذلك الغبش الذي يسبقُ الافتراق بينهما، والذي يحضر لعملية التغيير الثورية لنظام الشاه.

في أوربا اضطلع شريعتي بتأسيس فرع حركة تحرير إيران التي أسسها كل من آية طالقاني ومهدي بازركان، هذه الحركة الممثلة للبرجوازية الوطنية الإيرانية الليبرالية والدينية.

هذا التداخل بين الدين والليبرالية، يتجسد هنا في الجمع بين طالقاني وبازركان، طالقاني الديني والقريب من الليبرالية، وبازركان الليبرالي القريب من الدينيين، وهي علاقة كانت معبرة عن ذلك التداخل بين التجار (رجال البازار) والقوى الدينية.

ولن نجد تجسيداً فكرياً لهذه العلاقة خير من علي شريعتي نفسه، فهو الذي يحمل وعي رجال الدين وقد ألتهب بروح التحرر، وهذه المداخلة بين الدين والحرية ستكون قضيته، فهو يجعل الدين بوابة للحرية، وهو يحرر الدين من العبودية، وهذه النضالية المزدوجة، هي مرحلة جنينية في الوعي الوطني الديمقراطي الإيراني وهو ينمو داخل النظام الإقطاعي طالعاً إلى العصر الحديث.

ولهذا فإن كلَ قوى الجبهة المعادية لنظام الشاه سترى في علي شريعتي مثقفها، وصوتها، لأنه يحمل هواجسها وبراعهما الفكرية، لكن دراسة شريعتي بشكل موضوعي ستكون مسألة أخرى.

أعطت المرحلة الأوربية لشريعتي صلاته العلمية والسياسية مع أبرز مثقفي العصر، ومع الحركات التحررية في ذلك الوقت، كجبهة التحرير الجزائرية التي دافع عن كفاحها، وساعدته بعد أن وصلت للسلطة للخروج من سجنه في إيران.

بعد رجوعه إلى بلده عمل شريعتي في التدريس، وفي هذه السنوات القصيرة ألف أبحاثاً كثيرة، وأشاع وعياً جديداً في إيران، لقى على أثرها مصرعه.

يمثل منهجُ علي شريعتي الفكري رؤيةً دينية مسبقة تقوم بمعالجة الوقائع التاريخية والفكرية من موقفها الديني، فهو يرى إن الدين التوحيدي (يقوم على أساس عبادة رب واحد والإيمان بقوة واحدة متنفذة في مصير المجتمعات الإنسانية على مر التاريخ) ويضيف بأن (هذا الاعتقاد البشري يمثل ميلاً فطرياً نحو عبادة القوة الواحدة والإيمان بالقداسة)، (2).

إن شريعتي هنا يأخذ التوحيد اليهودي والإسلامي كشكلٍ وحيد للوعي الديني في العالم، وفي كلِ مراحل التاريخ، في حين إنه يمثل تجربة بشرية معينة، ولها من العمر ألفين من السنين، كما إن تجربة الإنسان الدينية على مدى مئات الآلاف تقوم على تنوع الآلهة والمعبودات والأديان والمذاهب.

وهذه المعلومات أصبحت بديهية ولكن علي شريعتي لا يقوم بدرس تاريخ الإنسان الديني المعقد، ويقوم بتبسيطه تبسيطاً مؤدلجاً، لكي يضعَ داخله مسلماته الدينية المسبقة، وهذه الطريقة من البحث قد لا نراها فيما يلي من منهجيته، ولكنها هنا تقوم على قراءة لا تاريخية للأديان، فتلغي التوحيدَ كذروةٍ لتطور الدين في منطقة المشرق، فحين لا ترى جذوره وتجعل تاريخ الدين واحداً، تنفي المجاهدات والنضالات الطويلة التي تشكلت للخروج من الطوطمية وعبادة الأسلاف والأجداد وعبادة الكواكب والنجوم والأصنام الخ..

إن هذه العبادات مثلت تطور عبادات القبائل بصورة طويلة معقدة، في المناطق الزراعية خاصة: مصر، العراق، سوريا الخ.. ثم جاء الدينان التوحيديان من القبائل الرعوية التي كانت مغايرة لهذا التكوين الزراعي، ونظراً للمهام التوحيدية السياسية التي كانت أمامها.

وتمثل هذه التواريخ مادة دراسية أولية منتشرة، فنستغرب كيف لا يتمكن باحث كالدكتور علي شريعتي من الإحاطة بها. وبغض النظر عن المطامح الأيديولوجية المسبقة فإن للبحث العلمي موصفاته المختلفة.

لكن هذه العملية تعبر عن طريقة التجريد التي يلجأ إليها شريعتي لفرض وجهة نظر مسبقة، وهي طريقة ستكون إحدى أداتين يلجأ فيهما لقراءة التاريخ، أو بالأحرى في توظيفه لصالح موقفه السياسي الراهن وقتذاك.

والأداة الثانية هي شحن هذا التجريد بمادة ملموسة وحقيقية منتقاة، وهي لا تتضاد مع ذلك الموقف ولكنها أيضاً تكشف وقائع حقيقية وصراعات موضوعية، لأنها وليدة مادة التاريخ الحقيقي، وبهذا تجري عملية فكرية مركبة، فيها الحقيقي المنتقى الموظف لصالح الموقف الإيديولوجي، وفيها القطع عن جذور التاريخ وصراعاته الشاملة.

إن الموقفَ السياسي الديني الراهن لشريعتي يحكمُ قراءة التاريخ، وهو موقف ينطلق من ظروف إيران ومن مذهبها الديني السائد ورموزه وتاريخه ونضالاته العظيمة ومن كونه شكلاً من أشكال الوعي القومي ويعبر عن فئات وسطى  في مخاض بين كونها تابعةً للإقطاع الديني، وكونها برجوازية، بين رؤيتها للعالم من خلال المذهب، ورؤيتها له من خلال بعض جوانب العلم ولغة التحديث.

في المنهج وتناقضاته تناقضات الفئات الوسطى الإيرانية، في محاولاتها لإيجاد جذورها الجديدة، ولقراءتها المتعينة للتراث، وللسيادة على الطبقات الأخرى، ولتبعيتها للإقطاع وعدم قدرتها على الاستقلالية الفكرية في ذلك المخاض السياسي، مخاض حركة تحرير إيران بقيادة رأسيها الطالقاني وبازركان، حيث بعدُ لم يتضح الصدام بين الفئات الوسطى والإقطاع الديني، حيث بعدُ لم يتضح القائد: الدين التقليدي أم العلم، القرون الوسطى أم الحداثة، الاستبداد أم الليبرالية؟!

في منهج شريعتي هذا المخاض الفكري والسياسي.

دينـــــــــــــــــــــــــان:

 في كتابه  (دين ضد الدين) يفرق علي شريعتي بين نمطين من الدين، نمط الدين القديم، ونمط الدين الجديد، فالصراع في رأيه ليس بين الدين بشكل عام، واللادين ؛ فهو لا يتصور وجود فترة انتشرت فيها التصورات اللادينية، فحتى الدهرية التي أنتجها الوعي الإيراني على مدى عدة قرون، تتضاءل في تصوره وتشحبُ، لأن هذا الوعي لا يصور التضادات بموضوعيتها المباشرة، بل يصورها داخل قالبه الإيديولوجي،  بل بين الدين والدين، بين الدين في سيرورته الدائبة، باعتباره الحركة الفكرية الوحيدة في التاريخ البشري، فكل ما عدا الدين هو شيء خارج الوعي الإنساني، ولهذا فالصراع لا يتشكل إلا بين صورة قديمة للدين وصورة جديدة.

يظهر الدينُ بصورةٍ جديدة حين يكون ديناً ثورياً مضاداً لدين قديم محافظ يعبر عن قوى الأقلية المتميزة.

(الدين الثوري هو دين يغذي اتباعه ومعتنقيه برؤية نقدية حيال كل ما يحيط بهم من بيئة مادية ومعنوية، ويكسبهم شعوراً بالمسؤولية تجاه الوضع القائم يجعلهم يفكرون بتغييره)، (3).

وهذا الدين الثوري في تضاد مع (الدين الذي أنكر دائماً مسؤولية الناس وحقهم في تقرير مصيرهم وبرر الوضع الظالم عبر التاريخ مستغلاً بذلك معنويات الناس وشعورهم الديني القوي الخ..)، (4).

يحددُ شريعتي التضادَ بين الدين الثوري الذي يعمل من أجل التغيير والدين المحافظ الذي يوقف تطور الأوضاع، عبر لغة رغم ملموسيتها، فهي لغةٌ مجردة، فلا نعرفُ الأسبابَ التي جعلت الدين الثوري يختلف عن موجات الدين الثورية السابقة عبر التاريخ، إلا بعبارات أخلاقية فهو دين زود معتنقيه برؤيةٍ نقدية، لكن لا نعرف القوى الاجتماعية التي ظهر معها هذا الدين، أو الفلسفة الخاصة التي شكلها، بحيث ينتجُ علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة، فهو دينٌ ثوري لكنه لا يقوم باستبدال علاقات اقتصادية واجتماعية متخلفة، بعلاقات أخرى جديدة بحيث تؤدي إلى تطور نوعي في التاريخ، و بحيث لا يصبح كثور الساقية.

أما الدين المحافظ في تحليله فهو يبررُ الوضعَ القائم ويمثل أقلية استغلالية، لكن لا نعرفُ أيةَ قوى وعلاقات اقتصادية و اجتماعية يعبر عنها الدين المحافظ، فنجدُ تحليلاً، ولكن مجرداً، بحيث إنه يقول إن الدين الثوري يتحول إلى دين محافظ، ثم يظهر دينٌ ثوري آخر، في مواجهة المحافظ وهكذا دواليك دون أن يحدث تراكم وتحول يستبدل هذه اللعبة التاريخية، فلا نعرف لماذا تستمر هذه العملية ولا جذورها الاجتماعية.

إنهُ في مثلِ هذا العرض الموجز لا يقدمُ لنا لوحةً تاريخية تجسدُ التطورات المفصلية، لأن اللوحةَ التاريخية الملموسة المشخصة، سوف تضعنا على التضاريس الموضوعية. فقد كانت العبادة الأولى لأهل منطقة المشرق هي عبادة الآلهة المفارقة الكثيرة المعبرة عن تلاوين القبائل والشعوب، وحين ظهرت عبادة آلهة الخصب كتموز وأوزوريس، كانت في مواجهة الآلهة الوثنية المفارقة، آلهة الحكام المتسلطين، ولكن الحكام المتسلطين والمستغلين ما لبثوا أن دخلوا في تلك الآلهة الجديدة الخصوبية وجيروها لمصلحتهم، حتى ظهرت المسيحيةُ تتويجاً مناطقياً مشرقياً لذلك، ومحاولة من شعوب المنطقة لطرد الغزاة الرومان، ولكن الرومان الحاكمين صاروا مسيحيين، وحين جاء الإسلام ليُبعد الملأ الأرستقراطي عن السلطة ما لبث الملأ أن تغلغل في الإسلام وسيطر على دولته الخ (5).

إن اللوحةَ التجريدية التي يرسمها شريعتي لتطور الوعي الديني في العالم، نحاولُ أن نركزها في منطقة المشرق، وكذلك نضعها في سياقها التاريخي، وهي إذ تتكلم عن أربعة آلا ف سنة، توضح خطورة التفاصيل والنمو المعقد للوعي و البُنى الاجتماعية. إن هذه اللوحة المركبة لم تكن تنمو بهذه الصورة بشكلها التبسيطي، ولكن لتطور طويل ومعقد.

إن الصورة التي يرسمها على شريعتي لتطور الدين في المشرق هي صورة تبسيطية، فالأمر ليس صراعاً بين التوحيد والشرك على مدى هذا التاريخ الطويل، فالموجاتُ الدينية السابقة منذ فجر التاريخ كانت غير توحيدية ومتعددة الآلهة، والمسيحية هي ديانة ثالثوية على سبيل المثال، واليهودية والإسلام سبق أن عرفنا جذور توحيديتهما في مواجهة وثنية مفتتة للكيان السياسي، (6).

إن كل ديانة جديدة لها جذور في حياة الناس لا بد أن تكون معارضة، سواء كانت وثنية أم توحيدية، لأن الديانة القديمة  تكون قد تكلست وراحت تبرر وضعاً سياسياً واجتماعياً صار معيقاً للتطور، ولكن القوى الجديدة بعملها النضالي لتغيير الظروف، تستخدمُ الدينَ بأشكاله العبادية وبالغيبية الفكرية وبانتقاداته الاجتماعية، وهذه المنظومة من العبادات والأفكار تقوم بإزاحة مستوى متخلفٍ من الوضع الاجتماعي، لكن لا تستطيع أن تلغي الاستغلالَ، فتجد القوى المحافظة التي عارضت الأفكار الدينية إن من مصلحتها أن تساير الموجة بل وأن تؤمن بها، لكون الدين لم يعرض إزالتها وإزالة استغلالها، بل هو يركز على عبادات جديدة، أي على أشكال غيبية مشتركة بين كافة المؤمنين بها.

وهكذا فإن الدولة الرومانية لم ترفض المحبة المسيحية وأعلنت إنها دين الحق، وقامت باستيعاب أشكالها العبادية وتعميد ثالوثها الديني، أما جوهرها كثورة للعبيد فقد تم دفنه، لأن المسيحيةَ لم تتشكلْ على هيئة برنامج سياسي   اجتماعي محدد، حيث كان الوعي الديني هو شكل الوعي السائد.

إن الدين هنا يعبر عن جوانب روحية واجتماعية وسياسية كثيرة، ولكن جوهر ظهوره كثورة اجتماعية، يتم تغييره من قبل القوى المسيطرة، التي تتسللُ إليه بعد قوته وانتشاره، وتتوجه إلى مضمونه وتنتزعه وتبقي أشكاله المختلفة.

ولهذا فإنه تحدث عمليات ظهور للمذاهب تقوم بمحاولة استرجاع ذلك المضمون أو تطبيق معناه الجوهري في ظروف أخرى، وبكلمة فإن الدين يقع في مجرى الصراع الاجتماعي معبراً عن صراع معقد بين القوى المختلفة.

لكن شريعتي يضع التاريخَ في صراعٍ دائم وأبدي بين التوحيد والشرك، وحين يطبق هذه المقولة على التاريخ الإسلامي نــُصاب بالفجيعة، فهو يواصلُ تطبيق هذه المقولة على تاريخ المسلمين نفسه بعد أن آمنوا جميعهم به، وهو يختار اتجاه الفقراء والمعدمين كعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأبي ذر ليقول إن هؤلاء هم المسلمون الحقيقيون، في حين إن الأغنياء ليسوا هم من المؤمنين الحقيقيين والمسلمين، بل هو يراهم مستمرين في اتجاه الشرك!

فهنا إسلام حقيقي وهنا شرك متوارٍ، فالفقراء والمستغلون والأئمة المجاهدون معهم هؤلاء هم الإسلام، وغيرهم غير مسلم. ويطابق شريعتي هنا بين الفقر والعذاب والإسلام، ويطابق بين الغنى والثقافة، بين الرشيد وأبن المقفع، وبين الشرك واللاإسلام.

هنا يحاول شريعتي تمديد فكرة صراع الدين والشرك على تاريخ المسلمين، بعد أن تجاوزوا مرحلة الشرك، وهذا التمديد يذكرنا بأفكار الحركات الدينية المتطرفة في وصف المسلمين بالجاهلية والكفر، حيث لا يتم الاعتراف بتعددية الاتجاهات الاجتماعية والفكرية بين المسلمين، وإنهم لا بد أن يكونوا في مذهب قويم واحد، وفي اتجاه سياسي واحد.

لكن ما هو سبب وقوع مفكر يفترض فيه أن يكون ديمقراطياً بخلق اتجاه واحد وبتكفير المسلمين الآخرين؟

لا بد أن نقول هنا إن شريعتي يستهدف المطابقة بين الإسلام والثورة المطلقة، أي أن يقوم الإسلام في ظروفه تلك بإزالة الاستغلال والفقر، وإيجاد مجتمع من المساواة والعدالة الأبدية، وهو أمر خيالي.

يقود الوعي المذهبي بصورته الشمولية علي شريعتي في إنتاج مقولات العزل والإقصاء بدوافع نبيلة، بدوافع الدفاع عن المستضعفين والفقراء، فحين يطابق بين الإسلام والثورة المطلقة التي يجب أن تستمر مزيلةً الفقر والجوع والاستغلال، ينطلقُ من وعي مثالي لا يضع الدين في الظروف الموضوعية التي ظهر فيها، فالثورة الإسلامية التي انطلقت للوحدة السياسية في جزيرة العرب، قامت على تحالف اجتماعي واسع بين تجار مكة المتوسطين والعامة وخاصة أهل البادية، وحين حققت الثورة أهدافها في تشكيل دولة، لم تعد تخص تحالفاً اجتماعياً مضطهداً، بل غدت معبرة عن كل طبقات المجتمع، الفقراء والأغنياء.

لقد تمت أسلمة المجتمع ككل، وبالتالي كان يُفترض أن تكون الخلافات الاجتماعية والفكرية، خارج المقولات الدينية، وأسس الدولة، وأن تطرح الأحزاب هوياتها الاجتماعية، فإذا كان الخوارج يعبرون عن رعاة الجزيرة وبدوها، فإن آخرين يعبرون عن تجار مكة أو أشراف المدينة، ولكن ذلك لم يحصل نتيجة لطبيعة الوعي والظروف الموضوعية، فكلٌ يقول بأنه الإسلام الحقيقي، وغيره خارجه، وهكذا تنامت عمليات الصراع الاجتماعي والقومي عبر المقولات الدينية الشمولية، التي يريد شريعتي استمرارها بعد كل هذه المحن والدروس.

كانت المشكلةُ هي الإيغال في التميز الديني، ففي المرحلة الأولى كان الاعتدال الديني سائداً، نظراً لغياب نظريات التكفير، ولكن ظهر أناس قلة يعتقدون إن الأمويين وبعض الأسر الغنية في الحجاز هم كفار، وخارجون عن الإسلام، بدلاً من أن يقولوا إنهم حكام ظالمون ومستغلون، لكن تلك القلة، وشريعتي يواصلُ نهجها، اعتبرت هؤلاء المستبدين المستغلين غير مسلمين، فكان لا بد من التطرف في الدين، والتمايز الشديد عنهم، بحيث كان الإيغال في التعصب هو الموجات التالية.

وهذا ما استفاد منه المسيطرون في كل طائفة وجماعة، حيث تدعي كل واحدة منها، إنها تمثل الإسلام، ويقوم أربابُ هذه الطوائف بخلق الأسيجة حولها، وشحنها بالتعصب والمظاهر العبادية المتميزة، وشريعتي نفسه يقول:

(.. واليوم لجأتُ إلى بيت فاطمة المهجور هرباً من أولئك الطواغيت وتلك القصور والمعابد والخزائن فوضعتُ رأسي على جدار هذا البيت ولم يخدعني منذ ألف وأربعمائة أي كافر ومسلم فان في هذا البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين وزينب.

إلا أني أرى قوماً جعلوا من هذا البيت حانوتاً لمصالحهم وجعلوا من هذه الكعبة – القبلة التي حررتني قبل خمسة آلاف عام من الرق والجور والجهل – قاعدة للجور والجهل.)، (7).

وهو يقول أيضاً: (نعم، لقد لعبت الأديان الرسمية دائماً دوراً طبقياً قذراً ضد الناس والإنسانية ولصالح الطبقات الحاكمة)، (8). وبما أن المذاهب الثورية تتحول إلى مذاهب رسمية، فتقوم بهذا الدور، فكيف السبيل إلى الخلاص؟ كيف نعيدها إلى إنسانيتها دون أن نفصلها عن السلطة الرسمية واستغلال الناس؟!

إن شريعتي وهو يفصلُ الثورةَ عن الإنتاج المادي، يعلقها في فضاء ديني مثالي، فكيف يمكنُ تطويرَ المجتمع العربي الإسلامي الأول دون نمو التجارة والحرف وبالتالي نمو الاستغلال، لكن أية أشكال من الاستغلال يمكن أن تكون مغيرة ومحدثة للمجتمع؟

 لقد اتجه العربُ والمسلمون إلى الاستغلال السهل: الفتوحات والاسترقاق وعبودية النساء، بدلاً من تطوير الحرف والمصانع والعلوم، وحتى هذه ارتبطت بهيمنة الدول الشمولية على الخراج وإضاعته وتبذيره في المتع والترف الخ..

أي أن القوى الاجتماعية المتضررة لم تقم بالتوحد وجعل الموارد الاقتصادية موجهة للإنتاج والعلم وللحاجات الطبيعية والعامة، وهكذا فإن الاستغلال الزراعي ومساربه نحو البذخ، وليس إلى تطوير الحرف والعلوم، هو الذي قاد المسلمين نحو التدهور المذهبي والسياسي، ولو كان استغلالاً صناعياً، لكان الأمر مختلفاً.

ألم يكن ذلك من مسئولية الفرق الدينية، التي وجهت نشاطها إلى المزيد من الغيب والعزلة، بدلاً من أن توجه وعيها لنقد الحياة وتوجيهها نحو التحديث والتصنيع والعلوم؟!

ككل الشموليين العرب والدينيين يرفض علي شريعتي المرحلة الرأسمالية، رغم أطروحاته الموضوعية في فهم الحداثة، وتقديره لإنجازاتها، بخلاف ما هو شائع لدى الدينيين.

فهو يقول: (إن الرسالة التي حملها المفكرون الأحرار في أوربا في صراعهم مع دين القرون الوسطى والتي أنقذوا فيها أوربا من التخلف والرجعية هي الرسالة نفسها التي أخذها أنبياؤنا على عاتقهم عبر التاريخ)، (9). وبطبيعة الحال، فإن شريعتي هنا يعطي معايير مزدوجة للدين وللعلمانية، فرغم إنه هو نفسه يعترف بأن الأديان والمذاهب في المشرق تم استغلالها من قبل الحكام والقوى المحافظة، إلا أنه يرفض أن يلعب دور المفكرين الأحرار الذي حدث في أوربا، عبر فصل الدين عن السياسة، ولتوقيف ذلك المسلسل الذي كشفه بنفسه، وهو مسلسل استغلال الدين من قبل القوى السائدة.

فإذا كان التاريخ الشرقي قد استمر يستخدم الدين طوال أربعة آلاف سنة، ودائماً كان يتسلل الاستغلاليون إلى الدين ويعيدون صياغته لمصالحهم، رغم تضحيات الأنبياء العظام والأئمة الشهداء والكثير من المناضلين والدينيين المخلصين، فلماذا الاستمرار في هذا المسلسل ولماذا لا يحدد الدينيون أنفسهم كسياسيين منفصلين عن القداسة الدينية ورموزها، ويطرحوا برامجهم الاقتصادية والاجتماعية، بدون تعكز على السلف الصالح؟!

فإذا نجحوا في برامجهم السياسية فسيكون ذلك نصراً لتيارهم الديني، وإذا فشلوا واستغلوا مناصبهم فسيقع ذلك على أشخاصهم.

إن شريعتي لا يطرح ذلك أبداً، لأن منهجه مصمم على استئصال الآخر، أي على صراع الإيمان ضد الشرك، وهو أمر يقوده إلى الصراع مع المسلمين أنفسهم، بدلاً من أن يبرمج هذا الإيمان، أي يقول ماهية أهدافه العملية في الاقتصاد والسياسة، بحيث يتحول إلى برنامج كفاحي للمعذبين والمستغلين، بغض النظر عن مذاهبهم وأديانهم.

إن برنامج العصور الوسطى يظل ملتصقاً ببرنامج شريعتي، برنامج الشكل المذهبي للكفاح، وبرنامج العجز عن تكوين طرح إسلامي عام وإنساني مشترك.

ويكمن في ذلك عدم القبول بضرورة التشكيلة الرأسمالية، ولتجاوزها، أو لتجاوز قوانينها وهي: الحداثة، و الديمقراطية، والعلمانية، فهو يريد أن يقفز عليها. لهذا فهو يريد أن يقفز على هذا التطور فيؤجج: (الروح الثورية والهدف المقدس والنزعة الشعبية المطالبة بالعدالة والمناهضة للاستعمار والرأسمالية برسالة التوحيد التي طالما ناهضت الشرك بمختلف أشكاله الفكرية منها.. لنصل إلى الغاية الكريمة المثلى وهي المساواة بين الناس في توزيع الثروة.. ولكي نثبت للجميع أن النظام الرأسمالي يجزئ الإنسان ويمسخه ويمثل به وان الدين الذي يدعو الإنسان إلى التكامل والتحلي بالقيم الأخلاقية المتعالية لا يمكن أن يبقى في هكذا نظام)، (10).

يتضح هنا عدم القبول بالرأسمالية من مواقع الثورة والرفض للاستغلال، وهو أمر إيجابي، ولكن التشكيلة الرأسمالية ليست اختيارية بل إجبارية، ولا يمكن أن تزول بوصايا أخلاقية، بل عبر النضال داخل قوانينها الاقتصادية والاجتماعية، ومن خلال نضال طبقاتها العاملة والمفكرة والمنتجة، ولكن إذا لم تتشكل هذه القوى الاجتماعية وتمارس كفاحها وتخلق منظماتها وتجربتها وقيمها، كيف يمكن أن يتشكل زوال الاستغلال؟

بالنسبة لعلي شريعتي فإن الأفضل هو عدم دخول التشكيلة، لكي يبقى الدين كمنظومة خارج التاريخ المعاصر، أو بالأحرى ليبقى الإقطاع المذهبي مانعاً من تكون الطبقات وصراعها داخل الطائفة، وليظل رجالُ الدين الطيبون سائدين فيها. هذه ليست خلاصة مقحمة بل هو التتويج لمجمل المنظومة الفكرية، وهو أمر تشكل في تجربة إيران الأخيرة عبر هذا الوعي السابق عليها.

يقول علي شريعتي:

(الاستبداد هو من المعالم الطبيعية التي تتسم بها هكذا حكومة، لأن رجل الدين سيشغل منصب خلافة الله وتنفيذ أوامره في الأرض. وفي هذه الحالة سوف لا يكون للناس حق إبداء الرأي والانتقاد والاعتراض، فالزعيم الديني يعطي لنفسه حق الزعامة والقيادة مرتكزاً على قيمته واعتباره الديني لا على قيمة وآراء الناس وانتخابهم. إذن هو حاكم غير مسؤول وهذا النوع من الاستبداد هو أسوأ أنواع الاستبداد والدكتاتورية الفردية)، (11).

 إن هذا رفض واضح للحكم الديني الشخصي المستبد، وهو أمر يعبر عن فكر شريعتي المناهض للحكم الديني الفردي، وليس لحكم المؤسسات الدينية أو الحكم الفردي المستند إلى هذه المؤسسات، وهو الأمر الذي قامت به القوى الدينية في إيران عبر تضفير دكتاتوريتها بمؤسسات منتخبة مهيمن عليها.

ويطرح شريعتي الاستبداد هنا كحالة فردية وغير منتخبة من قبل الناس، لكنه يقصد الحالة السياسية المعاصرة، لأنه  يؤمن بالإمام المعين، كجزء من وعي الأثني عشرية، ولهذا يستنكر (مبدأ البيعة والشورى والنظام الديمقراطي في الحكم)، (12).

وهذه التناقضات تعبر عن وعي الإقطاع المذهبي وهو يحاول الجمع بين الأنظمة المتضادة، فمن جهة يحاول الإبقاء على هيمنته على الجمهور المؤمن، وهذه لا بد لها من دكتاتورية، ولكنه من جهة أخرى، لا يناقض التحديث والرأسمالية  بشكل مطلق، بحيث أن لا تدمر سيطرته، وهذه تحتاج إلى مؤسسات منتخبة من قبل هذا الجمهور المؤمن المطيع.

ولهذا فإن شريعتي يرفضُ الواقعَ التاريخي المعروف بوجود مؤسسات دينية متنفذة عبر التاريخ الإسلامي، (أما الإسلام، فلا يمكن إثارة هذا الأمر فيه لأن المجتمع الإسلامي لا يوجد فيه رجل دين بالمعنى الذي نراه في الأديان الأخرى.)، (13).

ونظراً لتعبير شريعتي عن وعي الإقطاع المذهبي الذي لم يتحدث بشكل كلي، فهو لا يرى تناقضات الداخل المذهبي، بل يرى الطائفة كتجسيد للحقيقة والعدالة، كتماهٍ مع المطلق، وبالتالي تنتفي السيرورة الاجتماعية وقوانينها داخلها، ومن هنا لا يرى تداخل رجال الدين والإقطاع، ولا يرى تحولهم إلى شريحة من هذه البنية الاجتماعية، وهي شريحة تؤبد نظام الاستغلال التقليدي، وتعجز عن إعادة إنتاجه في شكله الرأسمالي الحديث المتطور، على الأقل في زمننا هذا، ولهذا تتطابق أحكامها الفقهية والسياسية معه، وتتصور إن رؤيتها أبدية، رغم إن شريعتي نفسه، يرفض التقليد الفكري، قابلاً التقليد الفقهي، داعياً المؤمنين إلى التجدد الفكري والتنوع، وهذا جانب تجديدي جزئي، محكوم بدولة دينية.

إن وعي علي شريعتي يعبر عن وعي هذه الشرائح من الفئات الوسطى التي استفادت من الثقافة الديمقراطية المعاصرة، لكنها ظلت تابعة فكرياً واجتماعياً للإقطاع، خاصة إن نمو هذه الفئات هو بين القوتين الأساسيتين للإقطاع: القوة الحاكمة السياسية، والقوة الموالية المعارضة الدينية. في حين إن الطبقة البرجوازية غير قادرة أن تكون طبقة مهيمنة بسبب غيابها عن الإنتاج الصناعي.

إن معارضة هذه الشرائح الوسطى للحكم المطلق يقودها إلى البحث عن قوى بديلة، لا تجدها في فكر عصري قوي وفعال في مناخ إيران السابق، ومع قيام الحكم المطلق بضرب كافة التجليات الحديثة للمعارضة، وإنعاشه للمؤسسات الدينية، تتوجه تلك الشرائح إلى التبعية الفكرية للإقطاع المذهبي.

إن فكرها في هذا الحصار الأمني والسياسي لا يمكن أن ينمو إلا مموهاً، وحيث يمثل الوعي الديني مظلةً تاريخية عريقة، مثلما تتشكلُ شرائحُ البرجوازية المعاصرة من أموال وصفقات الدولة، أو من العقار والزراعة وسوق المؤمنين، فتظهر الفئات الوسطى التابعة للدولة، والفئات التابعة للإقطاع، ومن هنا تتشكل جبهة تحرير إيران برأسين ديني وعصري، ومثلما يضطرب خطاب شريعتي بين الدين التقليدي والحداثة، لكن هؤلاء وقد فعلوا الإقطاع المذهبي يقوم بالتهامهم فيما بعد، ليجعل الفئات البرجوازية تابعة، لكن الصراع لم ينته، وقد مثل خطاب شريعتي دفعة لنمو دولة الإقطاع المذهبي الشمولية دون أن يقرأ خطورة ذلك على مستقبل إيران.

 الوعي بالتاريخ الإسلامي:

ينطلق علي شريعتي من موقف مذهبي وهو يصوغ رؤيته لتغيير إيران في زمن ممتد بين الخمسينيات والسبعينيات، وهو الزمن الذي حدث فيه انبعاث الهياكل الاجتماعية والفكرية للإقطاع الديني، وكما أوضحنا سابقاً، أخذ يجوس بين موقفين في الفئات الوسطى الإيرانية خاصة، والعربية الإسلامية عامة، بين إنتاج مفاهيم للفئات نفسها ولم تكن لها سيرورة لتكون طبقة، وبين التبعية للإقطاع.

وتكمن المواقف الأشد صعوبة لهذا المخاض في معالجة التاريخ الإسلامي، حيث يتوجه شريعتي إلى توحيد و(بعث الأمة) الإسلامية، ولكن  من داخل إيران وفي ظل وعيها المذهبي وتاريخه الخاص، مما يجعله يصطدم بالتوجهات التقليدية داخل الطائفة، وبعملية وعيها، لهذا تغدو عملية التاريخ الإسلامي لإيران عملية صراعية فكرية وسياسية حادة.

وهذا ما جعل التقليديون المتطرفون يهاجمونه باعتباره (سنياً) ومشككاً في التاريخ الشيعي، عبر موسوعته الإسلامية التاريخية، لكنه يؤكد من جهة أخرى تمسكه بالثوابت المذهبية تجاه حكم الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول، باعتبارهم مغتصبين لحق الإمامة من علي بن أبي طالب، لكنه يعترف لهؤلاء بموضوعية الحكم ونزاهته.

إذن فإن علي شريعتي يقوم بالتنظير من داخل فضاء المذهب الأثني عشري، من أجل النهضة والتجديد وتوحيد (الأمة)، ولهذا فهو يطرح تاريخاً خاصاً لهذه الأمة.

من أجل هذا يقوم بالمقابلة المتضادة الحادة بين (السنة) و (الشيعة)، حيث يحول هؤلاء وأولئك إلى ثوابت وجواهر خارجة عن خريطة التاريخ الموضوعية، رغم إنه يضعهما في بعض ظواهر هذا التاريخ، وفي كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفـوي) يهاجم من يرفض التعاون مع الدولة العثمانية لمواجهة الغرب، معتبراً توحد المسلمين، رغم الاختلافات، ضرورة هامة لإعادة تشكل الأمة، ولكنه يرى المذهبين الرئيسين بالصورة التالية:

(وإلى جانب ذلك تحول المذهب السني الذي مثل على الدوام دين الدولة(الرسمي) إلى مجموعة شعائر طائفية(….) تبرر الممارسات اللاإنسانية للجهاز الحاكم، وتتبرع بأحكام وفتاوى جاهزة تناغم التوجه الرسمي للحكومات المتعاقبة وسلاطين الغزنوية والسلجوقية والمغولية، وأضحى الدين بمثابة أفيون للشعب وآلة قمع وتنكيل بكل حركة إصلاحية تهدد مصالح الأقوياء وأصحاب رؤوس الأموال)، (14).

ورغم أن علياً يقصد هنا الاستخدام المحدد للمذهب السني في مثل هذه الدول الاستغلالية، إلا أنه يعمم ذلك على التاريخ الإسلامي بمجمله، فيغدو الأمر مذهباً سنياً واحداً وحاضراً منذ أيام الخلفاء الراشدين، مثلما يقول عن علماء الزور في التاريخ الإسلامي عامة (الذين يستغلون عنوان المذهب السني لتمرير مخططاتهم الرامية بالأساس إلى فرض الهيمنة على مقدرات الشعوب وتبرير أعمال السلاطين)، (15).

يظهر التاريخُ الإسلامي في بدء انقسامه في وعي علي شريعتي، حين حدثت مؤامرة مبيتة ضد الإمام علي بن أبي طالب، لأبعاده عن الحكم، وإنكار حقه الشرعي في الخلافة، ومن هنا بدأ ظهور المذهب السني.

وفي الحقيقة إنه كان ثمة صراع اجتماعي وسياسي، بين مجموعات الصحابة المختلفة، يعكس رؤى فكرية سياسية متعددة، فمحور أبي بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص وغيرهم كان يمثل استمراراً لمحور التجار المتوسطين المتعاونين مع الفقراء لتشكيل دولة لا يحكمها الأشراف المتسلطون، ولهذا ركز هذا المحور على إبعاد الهاشميين عن تسلم السلطة، فذلك يؤدي إلى احتكارهم أمرين عظيمين هما النبوة والدولة، كما ركز على إبعاد الأمويين كذلك عن تسلم السلطة.

الذي كان يوحد محور أبي بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص هو كونهم كذلك من المشجعين لصعود الأفخاذ القبلية غير الكبرى في قريش، فالأفخاذ الكبيرة حين ستستلم السلطة لن يكون بمقدور العرب إزاحتها، وهذا المحذور والحدس قد تحقق فعلاً.

أي كان هذا المحور وراء الأفكار الجنينية للجمهورية الإسلامية، أما أن ذلك كان مؤامرة مدبرة موجهة لطائفة، ولأجل طائفة أخرى، فهو وعي زائف وغير تاريخي، بسبب إن قضايا الطوائف لم تكن تخطر ببال حينذاك. إن الطوائف هي تشكيلات في الوعي والوجود الاجتماعي متأخرة كثيراً عن هذه الحقبة، أي إن الطوائف لم تتشكل في هذا العصر، وهي تعود لعصر آخر، ولكن هذا الوعي الطائفي المتشكل بشكل متأخر، هو الذي أقتحم تلك الفـترة الأولى، ودمغها بقراءته.

لقد كان الإمام علي بن أبي طالب يمثل محوراً آخر في الصحابة حينذاك، هو محور الفقراء، الذين كانوا هم قوة الإسلام الأولى، والتي تحملت التضحيات، لكن القوى الاجتماعية الأخرى أخذت تصعد، وتتنامى ثرواتها وتقترب من السلطة، كذلك فإن الصحابة الفقراء تبدلت أحوالهم، ولم يعد هذا المحور قادراً على طرح برنامج سياسي واجتماعي معين في سنوات الخلفاء الراشدين الأولى نظراً لتطابقه مع سياستها، أما الفئة الوسطى التي كانت هي العمود الفقري لتماسك الحركة الإسلامية وقتذاك فقد تخلخلت مستوياتها وصعد بعضها إلى القمة.

إن الحديث عن مؤامرة أو خطة لإبعاد الإمام علي عن السلطة بسبب شخصه، هو أمر غير محتمل، لأن الخوف من الحكم الوراثي هو ما كان يقلق الصحابة المؤثرون على مقاليد الحركة الإسلامية في وضعها المبكر ذاك.

وفي مقطع آخر فإن الباحث النزيه في شخص علي شريعتي نفسه هو الذي يطرح الدليل على هذا الواقع السياسي الذي يخلو من نظرية المؤامرة المريضة، فيقول:

 (لقد لزم علي جانب الصمت حرصاً على وحدة المسلمين حيال الخطر الخارجي الذي يهدد الجميع من إمبريالية الشرق والغرب في العالم القديم، ومؤسسو التشيع العلوي فعلوا الشيء نفسه طاعة لإمامهم، أما أبو سفيان فإنه أبى السكوت مطلقاً، فالرجل غير مستعد للتخلي عن ولاية علي)، وأضاف أبو سفيان (مال بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟)، (ثم قال لعلي أبسط يدك أبايعك!)، (فزجره علي وقال: والله ما أردت بهذا إلا الفتنة!)  (16).

هنا نرى الإمام علياً وهو غاضب لإبعاده عن السلطة، وهذا من حقه، ولكنه في ذات الوقت ينتظر ماذا سيفعل الخليفة الأول وجماعته في الدولة، ويأتي أبو سفيان إليه لتفجير الموقف السياسي وليشخص طابع المرحلة تماماً وهو إبعاد الأفخاذ الرئيسية من قريش عن مركز القرار، سواء كانت من بني هاشم أم بني أمية، وليتمكن النظام الوسطي الجمهوري، من النمو بين هاتين القوتين المتعاديتين الكبيرتين، وقد قام أبو سفيان الداهية بمحاولة نسف وجود الدولة الإسلامية الجنينية، وبمواصفاتها الشعبية تلك، ولتفجيرها من الداخل، ولكن لو كان الأمام علي هدفه السلطة الشخصية المحضة لسارع إلى قبول ذلك، ولكنه يؤيد الموقف الصحيح بغض النظر عن من يحكم ومن يمثله، فيطرد أبا سفيان!

إن موقف أبي بكر وعمر إذن في ذلك المخاض كان متجهاً لتشكيل سلطة منتخبة وشعبية، بمعنى إنها غير نابعة من احتكار الأشراف، ولأن ذلك كان مضاداً لطبيعة العرب الاجتماعية وقتذاك، وبهذا فقد نجحا في تكوين دولة ذات مواصفات غير أرستقراطية وغير متعالية، وكانت عملية الفتوح الواسعة التي تأثر فيها الشعب الإيراني وانهارت إمبراطوريته، هو أحد الجراح والأسباب التاريخية لكراهية تلك الفـترة من العهد الراشدي، أو العقدة النفسية التاريخية لعدم الوصول إلى تقييم موضوعي عنها من قبل الوعي الإيراني، وتحميل الشخوص والرموز التاريخية ما لا تتحمل، أو ما لم تفعله.

إن هذه الفترة كانت تهجسُ بنمطين من نظرية السلطة لدى المسلمين، وذلك ما كان يهجس به عمر على وجه خاص، فما طرحه كان الشورى والانتخاب، ورفض حكم الوراثة. ولكن النمط الثاني هو الذي انتصر، نمط احتكار السلطة والثروة بالوراثة، وتحويل الجمهور إلى خدم للعوائل المالكة. والنمط الأول لم يجاهد المسلمون كثيراً لتجذيره في تاريخهم.

 لا نعرف الخريطة الاجتماعية العميقة لتطور إيران عبر وعي شريعتي، فهي تبدو سجلاً لحركات سياسية واجتماعية مستمرة دون أن يتشكل لها تاريخ خاص، وشخصية تاريخية، فهو يطبق عليها نظرية اجتماعية أوربية عن ظهور حركات تنمو بسبب عدم تحقق أهدافها وهي تخبو بتحقق هذه الأهداف، (17).

والغريب إن إيران هي المعمل الكبير للحركات الثورية عبر التاريخ، ولم يشهد شعب آخر مثل هذا التطور المثير، ففي البدء ظهرت الزرادشتية، حين أصبح رجال الدين متداخلون مع الأسرة الحاكمة ومالكو القسم الأكبر من الأراضي الزراعية، وحينئذٍ فقدت الزرادشتية دورها باتحادها مع الطبقة الحاكمة، وبدأت حركات أخرى، كالمانوية والمزدكية، ويقوم شريعتي هنا بقطع الوعي عن الصراع الاجتماعي، فظهور حركات أخرى تمثل الفئات الوسطى عبر المانوية والفلاحين عبر المزدكية، هو أمر يمثل جزءً من الصراع الاجتماعي الفكري المتداخل، وليس شيئاً مجرداً، كما أن استمرار هاتين الحركتين الأخيرتين في العصر الإسلامي يعبر عن مقاومة القسم الأكبر من الشعب الإيراني للفتح العربي، وخاصة مع وقوع الملكية العامة في يد عائلات الأشراف. ويستمر شريعتي في عدم دراسة هذه اللوحة المعقدة للتاريخ الإيراني، فدخول الإيرانيين للإسلام كان يتشكل عبر معارضتهم للاستغلال والحكم المركزي، أي عبر استثمار تاريخهم الكفاحي السابق العريق، ولهذا وجدناهم يتبنون وجهات نظر المعارضات الإسلامية المختلفة، ولم يقفزوا فجأة إلى تبني المذهب الأثني عشري في القرن السادس عشر الميلادي فجأة ودفعة واحدة، فقد وقفوا مع الهاشميين بمختلف فرقهم، بل لقد أيد قسم من الشعب الإيراني الخوارج على إعرابيتهم الشديدة، ثم استطاع الزيديون أن ينتشروا في إيران بسبب كفاحهم ضد الحكم العباسي المستغل، ولكن الزيديين كانوا دعاة ثورة مستمرة، لا يقبلون بالقعدة، مما أدى إلى استنزاف قدراتهم. ثم انتشر التيار الإسماعيلي في إيران لعدة قرون وكان فكرهم يتسم بالتعددية والموسوعية وهو نتاج التطورات الثقافية الكبيرة عند المسلمين، ولكن كفاحهم كان يتسم بالإرهاب والتآمر ولم يستطيعوا أن يحرروا إيران من السيطرة الخارجية التي تمظهرت في القبائل السنية وأرستقراطيتها.

وهكذا فإن الأثني عشرية لم تظهر فجأة في التاريخ الإيراني مع الدولة الصفوية، بل كانت نتاج التطورات الفكرية السابقة، وبسبب عجز التيارات المذهبية المعارضة عن إنتاج نظام استقلالي وقومي إيراني، ولجمع الأثني عشرية بين المعارضة والسرية، ولنموها التدريجي ثم دورها في تحرير إيران من المغول.

ومن المؤكد إن العناصر الفكرية المعادية للعرب كانت مضمرة وبقوة في الوعي الشعبي الإيراني، وكان الاستقلال عن العرب يلعب دوراً كبيراً في التاريخ الإيراني، بسبب قيام العرب بهدم الإمبراطورية الساسانية، ثم بسبب نتائج الغزو والاستغلال الطويل وكل هذه تركت جراحها في اللاوعي العام، وحين قامت الدولة الصفوية اعتمدت على سياسة مهاجمة العرب وإزالة المذاهب السنية كرد فعل على الاضطهاد الطويل وكمحاولة لتكريس نفسها كمدافعة عن المذهب الجعفري، وعلي شريعتي يقف هنا ضد هذه العمليات التعصبية من الطرفين المذهبيين ويكرس كتابه عن التشيع العلوي في الهجوم على التشيع الصفوي ودوره في إنتاج عقلية دينية شيعية شكلية وفي التفريق بين المسلمين.

نستطيع أن نلخص ذلك كله بالقول إن الوعي الإيراني وهو في استقباله للإسلام كان يبحث عن وجهات النظر المعارضة بشتى ألوانها، وعلى مدى قربها من قضاياه، ونظراً لثوريته فإنه يوصل هذه المعارضة المعبرة عن طابع العصر إلى أقصى حالاتها، ومن هنا نرى تتابعها: الخوارجية، القدرية، الاعتزال، الهاشمية، الزيدية، الإسماعيلية، العلوية. وكان لا بد له أن يختلف مع هؤلاء الذين هدموا إمبراطوريته واستغلوا بلده، وأن يظهر ذلك في الهجوم على رموز الفتح العربي بدرجة أولى. فالأساس الذي حكم تطور الوعي الإيراني الإسلامي هو مدى تعبير تلك الموجات الإسلامية عن مطالب الشعب والعاملين، وليس هو التطور المجرد في ذاته.

فحتى الأثني عشرية في تعبيرها عن الجمهور المستغل الإيراني لم تحسم خيارها الاجتماعي بين الفلاحين والإقطاعيين، بل إن الإقطاعيين هم الذين سيطروا على إنتاجها، وتمظهر ذلك في سيادة الدولة الصفوية بشاهاتها وأمرائها ورجال دينها، وفي ذلك يقول شريعتي نفسه:

(التشيع الذي كان (ضد الوضع القائم) أصبح الآن (مع الوضع القائم)، التشيع الذي كان قوة مناوئة لأجهزة الحكم، تحول الآن إلى قوة دعم وإسناد لهذه الأجهزة وبالتالي  تبدل الدور الذي يلعبه فالتشيع كان يمارس دوراً نقدياً لسلوك الحكام أصبح يمارس الآن دوراً تبريراً لسلوكيات الحكام وتصرفاتهم!)، (18).

حين يتصور علي شريعتي إن ديناً من الأديان يستطيع أن يعبر بشكل جوهري عن المظلومين وعن تحقيق قضايا العدالة، بشكل مطلق، فإن ذلك يتشكل خارج التاريخ، وإن كان يتلامس مع بعض مواده، لأن الأديان تعبر عن أنظمة، وعن مجمل الطبقات، فهي رغم ظهورها كأشكال كفاحية للمضطهدين، إلا أنها تحولت إلى أنظمة دول، فيغدو من المستحيل أن تعبر عن طبقات دون طبقات أخرى، إلا عبر المذاهب التي تستحيل هي بدورها تعبير عن مجمل الطبقات وعن كيانات سياسية جديدة، وبهذا فإن الدول تتفسخ وتنهار، وهذه العملية وجدناها في تعبير القوى السياسية والاجتماعية عبر الوعي الديني، فظهرت المذاهب وانهارت الإمبراطورية الإسلامية.

ولهذا فإن تصور شريعتي بإنه يمكن لمذهب أو دين أن يعبر عن المضطهدين، وعن الطبقات الشعبية دون الطبقات المالكة، هو أمر غير ممكن، لأنه سيكون دائماً تعبيراً عن جميع المنتمين إلى هذا الدين، وبهذا فإن على الصراع الاجتماعي والسياسي أن يبحث عن أدوات أخرى، غير الدين.

 لقد كان ظهور الإسلام عند العرب بدا وكأنه تعبير عن العرب فقط، أو كأنه الشكل الديني لبروزهم القومي، خاصة مع اعتماده على لغتهم وإرثهم الاجتماعي، ولكنه مع ذلك صار ديناً عالمياً، وقد ظلت العروبة في قلبه الفكري والتاريخي، وكذلك صار ديناً إيرانياً، وتركياً، الخ.. فعبر عن تجربة هذه الشعوب وهي تنتقل من العصر القديم إلى الوسيط.

فلم يعد ديناً للفقراء أو الأغنياء أو العرب أو الإيرانيين أو الأمازيغ، بل لهؤلاء جميعاً، فلم تعبر به القومية السائدة فحسب، بل المسودة أيضاً، ولا الطبقة المسيطرة بل المسيطر عليها كذلك، وبهذا خرج من التعبير عن فئة أو طبقة أو أمة واحدة.

نستطيع أن نقول عن ذلك إنه شكل عالمي، مس كافة الشعوب، ولكنه شكل كما عبر شريعتي نفسه، في مواقع أخرى من خطابه، تستطيع أن تتوغل فيه كافة الطبقات والرؤى، وخاصة قوى التحكم والتسلط، وتفرغه من مضامينه الأولى، وقد حدث هذا في التشيع كذلك هذا الذي كان تعبيراً عن المعذبين والمظلومين كما يقول شريعتي، (إذن للتشيع حقبتان، بينهما تمام الاختلاف، تبدأ الأولى من القرن الأول الهجري، (…) وتمتد هذه الحقبة إلى أوائل العهد الصفوي، حيث تبدأ الحقبة الثانية والتي تحول فيها المذهب الشيعي من تشيع حركة إلى تشيع حكومة ونظام.)، (19)، وهو أمر يثبت إن كل دين وكل مذهب يتمكن الأغنياء والمتسلطون من تبديل مضامينه ودلالاته، ولكن شريعتي لا يستنتج استنتاجات علمانية من هذا التاريخ الديني المؤدلج، بل يصر على استمرار استخدام الدين في الصراع السياسي، وقد عبر هو بذاته عن هذا التغلغل والتحكم حتى في تاريخه المذهبي. فها هو التشيع الصفوي يتحكم عدة قرون في إيران موجهاً تاريخها الفكري والسياسي نحو الصدام مع المسلمين الآخرين، يقول:

(المهم والمشكل إن المذهبين لهما نفس الأصول ونفس الفروع، ذلك إن التشيع الصفوي جاء وأرسى دعائمه على هيكلية مضاهية لهيكلية التشيع العلوي، واستعار نفس القوالب الفكرية والعقائدية لهذا التشيع بعد أن أفرغها من مضمونها ومحتواها)، (20).

وهكذا تقوم كلُ سلطةٍ بهذه العملية التفريغية للأفكار الثورية والدينية، فلا يكون الحل إلا بالديمقراطية والعلمانية وهي القسمات التي نبعت من محاولة تجاوز مشكلات الدولة الدينية والدولة (الإيديولوجية) الشاملة، ولكن شريعتي يصر على استمرار محاولة تنظيف الدولة الصفوية ومذهبها وإعادة إنتاج دولة شيعية من نمط مختلف.

يحاول شريعتي في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي) أن ينظف الفكرة الشيعية النقية من التلوث الإقطاعي الصفوي، حين استطاع الصفويون جعل المذهب الإثناء عشري هو مظلة الدولة الفكرية الإيرانية، فمن جديد استطاع الحكام والمستغلون من تحويل المذهب الثوري إلى مذهب محافظ، ولهذا يقوم شريعتي بنقد الممارسات الشكلية لهذا المذهب التي جعلتها الدولة الصفوية الشكل الوحيد لتجليه، مبعدة معاناة الأئمة وكفاحهم من أجل الناس، من أجل أن يعود التشيع العلوي الحقيقي، وأن تتم إزالة الاستغلال عن الشعب باعتبارها القضية الأولى في الدولة والمذهب، موجهاً نقداً مريراً للممارسات العبادية.

إن شريعتي يحمل كل أحلام المناضلين عبر القرون لإزالة الظلم واللامساواة موقناً بأن مثل هذه الأحلام ممكن أن تتحقق فقط عبر المذهب العلوي، لأنه كرس في كل تاريخه هذه المعاناة، ولكن هو بذاته ينقد ثلاثة قرون من هيمنة الصفويين على المذهب وتحويله لمصلحة المسيطرين على الدولة والإقطاعيين السياسيين والدينيين، نظراً ليس لنمط العبادات التي يعبر فيها المؤمنون عن معاناتهم ووحدتهم، بل لغياب التمثيل الديمقراطي للطبقات المختلفة داخل المذهب والدولة.

فحين يعبر دين أو مذهب عن مجمل الطبقات، فهذا لا يعني سوى سيطرة الأقوياء والأغنياء من داخلهما على توجيه الدين أو المذهب واحتكار معانيهما وغلاتهما الاقتصادية. في حين إن الطبقات الفقيرة  تكون هي المستغلة والمضطهدة والمبعدة عن السلطة، وهذا ما كان يؤدي إلى تفكك الأديان والمذاهب.

إذن تغدو الديمقراطية والعلمانية هي السبيل لحماية الأديان والمذاهب من المتاجرة بهما، وفيهما تستطيع الطبقات المختلفة أن تدافع عن مصالحها المتنوعة، وبطبيعة الحال فإن الطبقات المسيطرة الاستغلالية التقليدية لا تريد أن يتشكل مثل هذا النظام السياسي، كما أن الطبقات الفقيرة لا تعي ذلك مؤقتاً، ولكن الصراع الاجتماعي وتباين المصالح يدفعها لإدراك ذلك والنضال من أجله.

كما أن ذلك هو الذي يوحد الطبقات العاملة و المالكة في كياناتها الموضوعية، ويوحد الوطن والأقطار الإسلامية في نضالها المشترك.

إن رفض الدينيين الحاليين الاعتراف بتنوع المصالح، وبالتالي بالديمقراطية، داخل الطوائف والأديان، يتماثل والأنظمة الدكتاتورية الدينية والسياسية الراهنة، التي تعبر عن لغة القرون الوسطى، ونظام الإقطاع، وتفكيك الشعوب والأمم الإسلامية إلى خنادق طائفية، نظراً لنظام استغلال متخلف.

ويمثل خطاب شريعتي هنا تلك المرحلة من الوعي الإيراني الذي يحاول مواجهة الدكتاتورية السياسية الحاكمة، دون  تجذير الديمقراطية في الخطاب الديني، مما يؤدي إلى خلق دكتاتورية سياسية حاكمة جديدة، بل هي دكتاتورية جمعت بين الدكتاتوريتين السياسية والدينية، مما يقود إلى آفاق خطرة للشعب.

إن الخطاب التحديثي عند شريعتي للمذهب، وللتطور الديني والسياسي، يركز على هوية جوهرية للمذهب خاصة، باعتباره وعياً خارج السيرورة التاريخية والتناقضات الاجتماعية، وعياً يمكن أن يجمع الأطراف الاجتماعية المتضادة، وعياً يعبر عن المناطق التي لم تصبها التغيرات الرأسمالية العميقة، فتحاول الإبقاء على تكويناتها ما قبل الرأسمالية، فتقوم بتحديث أشكال السلطة السياسية والدينية الإقطاعية، بشكل يكفل الحفاظ على ديمومتها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

(1): (علي شريعتي وتجديد التفكير الديني، دار الأمير، بيروت، ص 93).

(2): (علي شريعتي، دين ضد الدين، دار الأمير، بيروت، ص 34).

(3): (المصدر السابق، ص40).

(4): (المصدر السابق، ص 79).

(5): (راجع في هذا الجزء الأول من الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية، الفصل الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005، ص  30).

(6): (المصدر السابق، نفس الفصل).

(7): (دين ضد الدين، ص189 – 190).

(8): (المصدر السابق، ص152).

(9): (المصدر السابق، ص 80).

(10): (المصدر السابق، ص157).

(11):  (المصدر السابق، ص 122).

(12): (المصدر السابق، ص 172).

(13): (المصدر السابق، ص 123).

(14): (التشيع العلوي.. دار الأمير ص 31).

(15) (المصدر السابق ، ص30).

(16): (المصدر نفسه، ص245 – 246).

(17): (المصدر السابق، ص 54).

(18): (المصدر السابق، ص 222).

(19): (المصدر السابق، ص 63).

(20): (المرجع السابق، ص 247 بتصرف.).عبدالله خليفة: قراءة في وعي علي شريعتي.

مصر المدنية

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث