الأقباط والحج إلى القدس... السياسة لم تعد تعرقل السير على درب الآلام - مقالات
أحدث المقالات

الأقباط والحج إلى القدس... السياسة لم تعد تعرقل السير على درب الآلام

الأقباط والحج إلى القدس... السياسة لم تعد تعرقل السير على درب الآلام

محمد مجدي

"مَن سمع أو قرأ ليس كمَن رأى". جملة قالها "العم يسري" وهو يعود بذاكرته إلى عام 2016، ليحكي عن رحلته إلى القدس للسير على درب السيد المسيح الذي صُلب هناك في أبريل من عام 33 ميلادية، بحسب التواريخ المسيحية.

الرجل المصري الستيني تحمّس للحج في القدس بعدما أبهرته القصص التي روتها له زوجته التي سبقته بعام إلى الأرض المقدسة، فاستعان بالأب جوزيف أمين الذي يعمل على تنسيق هكذا رحلات في إحدى كنائس المعادي، جنوب القاهرة، ليحقق حلماً طال انتظاره.

على درب آلام المسيح، يحج آلاف المسيحيين المصريين كل عام. لكن موسم الحج هذا العام جاء مختلفاً عن المواسم السابقة، إذ انتفت المضايقات للراغبين في الحج إلى القدس، وصار منظمو الرحلات يعملون بحرية، وشركات الطيران تنقل الحجاج مباشرة من القاهرة إلى تل أبيب، وكذلك صارت الكنيسة تغض الطرف عن تطبيق قرار المجمع المقدس القاضي بحظر السفر إلى المدينة المحتلة.

مينا شوقي، الشاب المصري الثلاثيني، خاض هذه التجربة عام 2017 برفقة 500 قبطي. يقول لرصيف22 إن "السفر إلى هناك كان حلماً لم أتوقع تحقيقه، لأزور الأماكن المقدسة والسير على درب السيد المسيح".

ويضيف: "يبدو كل شيء مرتباً ومنظماً منذ هبوطك في مطار بن غوريون في تل أبيب، فيذهب الحجاج للصلاة في كنيسة القيامة وبعدها يعودون لأخذ قسط من الراحة في الفندق الذي حجزته لهم شركة السياحة".

داخل كنيسة القيامةمينا شوقي داخل كنيسة القيامة

ويتابع مينا عرض قصة حجه إلى القدس بالقول: "سافرت صدفة كوني شاباً، إذ يُسمَح عادة بالسفر لمَن تخطوا الـ45 عاماً، كاحتراز أمني من الجهات الإسرائيلية. حصلت على التصاريح والموافقة الأمنية وسافرت لأخذ البركة".

وعن موقف الكنيسة من المسافرين، يقول مينا إن الراغبين في الحج يُبلغون الكنيسة أو الإيبارشية التابعين لها برغبتهم، و"لم تعد الكنيسة تتشدد في مسألة السفر إلى القدس وتطبيق قرار الحرمان على المخالفين".

آلاف الحجاج سنوياً

وشكّل وصول البابا تواضروس الثاني إلى رأس الكنيسة المرقسية، خلفاً للبابا شنودة الثالث، عام 2012، فارقاً في قضية حج الأقباط إلى القدس. فبعدما كان الأخير قد حظر السفر إلى القدس ومرّر قراراً يقضي بذلك في المجمع المقدس، في مارس 1980، إثر خلافه الشهير مع الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات في أعقاب اتفاقية "كامب ديفيد"، زار تواضروس، بعد ثلاثة سنوات من توليه منصبه، القدس للمشاركة في جنازة الأنبا إبراهام، مطران القدس والشرق الأدنى.

وعزز من سياسة تسهيل حج الأقباط إلى القدس حكم أصدرته المحكمة الدستورية العليا، أعلى محكمة مصرية، في فبراير 2017، ونص على حق الموظفين المسيحيين في الحصول على إجازة لمدة شهر لمرة واحدة خلال حياتهم الوظيفية لزيارة القدس، أسوة بإجازة الحج التي تُمنَح للمسلمين.

ويقول الأب جوزيف أمين، الذي يعمل على تنسيق رحلات الأقباط المصريين إلى القدس منذ ما يقرب الـ25 عاماً، لرصيف22 إن التجهيز لتلك الرحلات يبدأ مع نهاية ديسمبر، ومطلع يناير، قبل ثلاثة أشهر كاملة من أسبوع الآلام، وهو آخر أسبوع في الصوم الكبير، ويبدأ بأحد السعف (ذكرى دخول المسيح إلى القدس) وينتهي بأحد القيامة (بعد صلب المسيح).

كل عام، يعلن أمين عزمه تنظيم الرحلة فيأتي إليه أشخاص فوق الـ45 عاماً. يقوم بإرسال أوراقهم إلى أمن الدولة لاستخراج تأشيرة الدخول من إسرائيل ثم يستلمون التصاريح اللازمة قبل أسبوع من انطلاق الرحلة.

ويقول أمين: "كل عملنا مع الأمن، ولا علاقة لنا بالكنيسة. نستخرج التصاريح الأمنية وبعدها نبدأ التنسيق مع شركات السياحة، ونضع برنامج الرحلة، ونحدد المزارات والفنادق".

كان صدى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس لا يزال حاضراً مع بدء الأب أمين التجهيز لموسم الحج. أبلغ الأمن شركات السياحة ومنظمي الرحلات بأن "السفر هذا العام إلى القدس قد لا يحدث، لكن في النهاية وافق الأمن على السفر"، بحسب أمين.

وقد سافر هذا العام إلى القدس نحو 4500 مسيحي مصري بتراجع نحو 20% عن العام الماضي، بحسب صبري يني، عضو غرفة شركات السياحة وصاحب شركة "كاردينال" السياحية التي تنظّم حج الأقباط.

وعزا يني هذا التراجع إلى أصداء الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل فضلاً عن ارتفاع أسعار تذاكر السفر. وبرأي جوزيف أمين، "السعر الكبير هو الذي تسبب بإحجام الناس عن السفر".

وبلغ عدد الحجاج الأقباط عام 2015 4430 شخصاً، بينما وصل في 2016 إلى 5700 شخص، بعد زيارة البابا تواضروس للقدس، ووصل في 2017 إلى 5008 أشخاص.

وقال أمين: "قبل عامين، اشترت القوات المسلحة المصرية شركة ‘إير سيناء’ التابعة لشركة ‘مصر للطيران’ المملوكة للدولة، ورفعت أسعار تذاكر الطيران إلى تل أبيب إلى تسعة آلاف بعدما كانت خمسة آلاف، ثم ارتفعت هذا العام إلى 13.5 ألف جنيه".

ماذا يحدث في الرحلة؟

وعن برنامج الرحلة، روى أمين: "نذهب إلى الناصرة، حيث كنيسة البشارة التي بشّر فيها الملاك العذراء مريم بمولد يسوع، ثم نتجه إلى كنائس القديس بطرس والتجلي، نسبة إلى تجلي المسيح في هذا المكان وتحدثه مع الأنبياء موسى وإيليا، وأيضاً إلى كنيسة عرس قانا الجليل".

بعد ذلك، يأتي الدور لزيارة بحيرة طبرية التي تقع بين منطقتي الجليل والجولان، ومنها يذهب الحجاج إلى نهر الأردن، قرب مدينة أريحا القديمة، وهناك يحدث التبريك أو ما يُسمّى بتجديد العماد الخاص بالمسيحيين، إذ يرتدون جلباباً أبيض وينزلون في النهر مثلما فعل المسيح، ويتبركون بمياهه.

حجاج مصريون...حجاج مصريون داخل مياه نهر الأردن - صفحة شركة "كاردينال" على فيسبوك

ويتابع أمين: "نذهب إلى أريحا، لنرى جبل التجربة، الذي جرب الشيطان عليه المسيح، ثم البحر الميت، لننزل مغارة قمران، ومنها إلى بيت لحم في الضفة الغربية، وكنيسة مغارة الحليب، التي سُمّيت بهذا الاسم لأنه كما يقال، وقعت أثناء إرضاع السيدة العذراء للطفل يسوع نقطة من حليبها على أرض المغارة فابيضّت صخورها".

كنيسة مغارة الحليبكنيسة مغارة الحليب - موقع بلدية بيت لحم

ثم يمرّ الحجاج على منطقة عين كارم لزيارة كنيستي الزيارة ويوحنا المعمدان، وبعدها يتوجهون إلى جبل الزيتون، شرق القدس، وهناك يزورون قبة الصعود التي كانت كنيسة وتحوّلت إلى مسجد، وكنيسة "أبانا الذي" التي صلى فيها المسيح "الصلاة الربانية"، ثم كنيسة الدمعة (مكان بكاء السيد المسيح على أورشليم)، وكنيسة "كل الأمم".

ينتقل بعدها الحجاج إلى "علية صهيون"، في جبل صهيون خارج أسوار المدينة المقدسة، والتي يعتبرها المسيحيون واليهود والمسلمون موقعاً مقدساً، وهناك تناول المسيح العشاء الأخير مع تلاميذه في خميس العهد، ثم ينتهي بهم المطاف في كنيسة القيامة التي تحتوي على الجلجثة (مكان صلب السيد المسيح) وعمود الجلد ومكان تكفينه والقبر المقدس و"يقفون فيها للصلاة وسط زحام الحاضرين من مختلف الجنسيات، وينتظرون النور المنبعث من قبر المسيح، والذي يضيء شموعهم ويلمس وجوههم لمدة 30 دقيقة دون أذى، ويصرخون قائلين: المسيح قام... بالحقيقة قام"، حسب أمين.

وفي الختام، يأتي وقت العودة إلى القاهرة ويكون ذلك مساء السبت أو صباح الأحد.

أمام قبر المسيحلحظة الانتظار أمام قبر المسيح في كنيسة القيامة - مينا شوقي

تغيّر موقف الكنيسة مع الزمن

"مش من حق أي رئيس ديني إنو يمنع حد من السفر للقدس"، يقول جوزيف أمين معلقاً على موقف البابا شنودة الثالث. بينما قال عن موقف البابا تواضروس الثاني: "سكت ولم يحدد موقفه الصريح من السفر".

واعتبر الشاب مينا شوقي موقف البابا شنودة الثالث "نبيلاً وقراراً حكيماً إذ ربط سفر الأقباط إلى القدس بتحرير فلسطين من قبضة الاحتلال الإسرائيلي".

"الكنيسة ثابتة على قرارها بشأن سفر الأقباط للحج في الأراضي المقدسة طالما ما زالت تحت قبضة الاحتلال"، يقول لرصيف22 المتحدث الرسمي باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية القس بولس حليم، ويضيف: "الكنيسة ليس لها يد في تنظيم الرحلات، لكن يقوم بذلك بعض الأفراد أو شركات سياحية ولا علاقة لها بالكنائس".

وعن موقف الكنيسة من المسافرين، أردف حليم: "نترك الأمر لكل أب أو أسقف مع إيبارشيته للتعامل معهم".

وأشار أسقف شبرا وتوابعها الأنبا مرقس إلى أن "الكنيسة تصرح لكبار السن والمرضى بالسفر، أما غير ذلك فلا علاقة لنا بالرحلات التي تخرج، موضحاً لرصيف22: "نسير على نفس خطى البابا شنودة الثالث الذي سمح في نهاية عهده لكبار السن والمرضى بالسفر".

"تسييس الحج"

وعلّق المؤرخ القبطي كمال زاخر على قضية حج الأقباط إلى القدس بقوله إنه "يُعدّ رحلة دينية صرفة بدأت منذ القرن الرابع الميلادي"، مضيفاً لرصيف22: "لكن للأسف تم تسيسها هنا في مصر، واحتدم الأمر بين الرئيس الراحل محمد أنور السادات والبابا شنودة فتم تحويلها من شأن ديني إلى سياسي".

وذكر مستشار الكنيسة القبطية نجيب جبرائيل لرصيف22 أنه بعد توقيع معاهدة "كامب ديفيد" بين مصر وإسرائيل عام 1979، وجد السادات في حج الأقباط ملاذاً لتفعيل الاتفاقية وتبادل الرحلات السياحية مع إسرائيل، لكن البابا شنودة الثالث رفض ذلك بشدة وأكد أن الأقباط لن يزوروا القدس إلا مع إخوانهم العرب المسلمين، فاستشاط السادات غضباً منه ونفاه إلى أحد أديرة وادي النطرون، ولكن بعد أيام من ذلك اغتيل السادات، وأُعيد البابا إلى منصبه.

لكن زاخر يوضح أن الأزمة بين الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المصرية وإسرائيل "تعود إلى خلاف حول كنيسة معروفة باسم دير السلطان استولى عليها رهبان إثيوبيون، فتقدمت الكنيسة المصرية بشكوى أمام المحاكم الإسرائيلية التي أنصفت في النهاية الجانب المصري، لكن وقعت ملابسات نكسة 1967 وما بعدها وتقاعست الحكومة الإسرائيلية عن إعادة الدير إلى الكنيسة المصرية لأسباب سياسية".

ويقول إن "الكنيسة المصرية ربطت زيارة القدس بعودة ذلك الدير"، ولكن في عهد السادات (1970-1981) وقعت المواجهة بين الرئيس المصري وبين البابا شنودة الثالث، واعتبر الأخير زيارة القدس "بمثابة تطبيع مع الجانب الإسرائيلي ومرّر قراراً للمجمع المقدس بعدم السفر إليها".

وعن قرار المجمع المقدس، قال زاخر إنه "كان يخضع لإرادة البابا شنودة وصدر في مناخ عام محتقن، وبالتالي أخذ الأمر بعداً سياسياً وتحوّل إلى بُعد قومي استُخدمت فيه العاطفة المصرية تجاه القضية الفلسطينية".

وأرجع زاخر التوقف عن تطبيق قرار المجمع المقدس الآن، إلى أن "طرفي الصراع رحلا عن العالم، وجاءت وجوه جديدة لا علاقة لها بالصراع وبالتالي أنا أتصور أنهم رأوا أن هذا الأمر تم تصعيده بشكل مبالغ فيه، فعاد الأمر إلى وضعه الطبيعي كرحلة دينية صرفة".

لكن عضو البرلمان المصري القبطي جمال أسعد لا يزال يتمسك برفض زيارة الأقباط للقدس طالما يسيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي، ويعتبر أنها "نوع من أنواع التطبيع مع إسرائيل".

ويقول لرصيف22 إن البابا شنودة لُقب بـ"بابا العرب" لموقفه من التطبيع مع إسرائيل، وتطبيقه عقوبة الحرمان على مخالفي قرار المجمع المقدس بحظر السفر.

ويضيف: "الآن قرار المجمع المقدس بمنع الأقباط من الذهاب للقدس لا يُنفّذ على الأرض، رغم إعلان الكنيسة تمسكها به، وهنا موقف الكنيسة مائع"، متابعاً: "على البابا تواضروس حسم موقف الكنيسة من مسألة السفر، وأنا كناصري قومي عروبي أرفض التطبيع مع إسرائيل، طالما تمارس انتهاكات ضد الإخوة الفلسطينيين".

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*