محمد سعيد*
في صيف 2010 ستستنطق الشرطة أخي عمر بسبب دخوله الكنيسة الرسمية بالبيضاء (الكنيسة الكاثوليكية) مع صديق مسيحي اسمه الشخصي "حسن"، حسن كان شخصاً ذكيا وقارئاً نهما، خبر الجماعات الدعوية الإسلامية، شهدت في هذا الشخص دفاعه الشرس المتحمس عن المسيحية مع أخي في كل لقاء يجمعهما بمسيحيين، كان هذا الصديق لأخي مواظبا على مفاتحتي في كل وقت تسنح له الفرصة عند لقائي بأن يسألني هذا السؤال المحرج: لماذا لا يقيم المسيحيون المغاربة صلواتهم بالكنائس الرسمية؟
لست أدري ما الذي جذبه ليسألني هذا السؤال، ربما مردّ ذلك تعاطفه معي عندما أخبرته بأنني لا أحبذ الصلاة بالأماكن السرية، وأنني لا أحبذ أيضاً الانتماءات الكنسية (أنا مع فلان أو علان)، أو ربما بسبب ما لاحظه فيّ من دفاع مستميت عن الهوية المغربية في إطار المسيحية، فنحن لسنا أقباطا مصريين أو مسيحيين أمريكيين، فما اعتقدنا به وغيرناه هو المعتقد ليس إلاً، لكن نحن مواطنون مغاربة. اسمحوا لي بأن أسمي أخي عمر وصديقه حسن بالمسيحيين الملتزمين.
لقد كان هناك شيء واحد يثير بعض الريبة في قلب حسن ويجعله حذرا كل الحذر من الانسياق ورائي في كل ما أقوله ضد المبشرين الأجانب، فقد كنت أبالغ في انتقاد ما يسمون بالقادة المسيحيين المغاربة، حتى عرّضت نفسي لمظنّة كراهية لبعض المسيحيين، فالمشكلة بالنسبة لحسن ليست في القادة، بل في خضوع المسيحيين لهم لاشتراطات لا يعلمها إلا هم.
ففي المغرب كنيستان تتنافسان على التبشير، الكنيسة المعمدانية والكنيسة الخمسينية، الكنيسة المعمدانية التي تؤمن بسر العماد واللاهوت النظامي القويم، والكنيسة الخمسينية التي تعتمد على كثرة الصلاة وزفرة الامتلاء بالروح القدس، والتكلم بالألسنة. الكنيسة المعمدانية التي تعتبر نفسها كنيسة إصلاحية، هي الكنيسة التي لها حضور حيوي بالمغرب وامتدادات به، عكس الكنيسة الخمسينية.
لذلك، فإن النقد اللاذع للكنيسة لم يكن يعني بالنسبة لـ"حسن" سوى شيء واحد ووحيد: وهو أن هذا "الأخ لصديقه" منظر خطير يستعمله بعض المسيحيين لضرب بعضهم البعض.
ليس حسن وحده من وصل إلى هذه النتيجة، بل أصدقاء آخرون أيضا، فقد لاحظت أن بعض أصدقائي المسيحيين يلمحون أحيانا لهذه "الحقيقة" بأشكال مختلفة، أتذكر مثلا أن مسيحيا من مدينة طنجة قال لي: "لقد سألتني الشرطة عنك..."، مما جعلني أتساءل لماذا تهتم بي وزارة الداخلية وتسأل شخصاً يبعد عني بأربعة كيلومترات ولا تربطني به معرفة قوية أو قرابة معينة؟ لقد كان يقول ذلك بنظرة مشرقة توحي بأنه يتوقع مني أن أعلن شيئاً ما! وأن أُبدي سخطا لسؤال الأمن عني!
هناك "أدلة" كثيرة تدعم اعتقاد أصدقائي المسيحيين اليوم بأني "منظر مسيحي خطير" متمرس على العمل الحقوقي، عضو مكتب تنفيذي لأحد أكبر المراكز المغربية، أولها أني "ترافعت" في المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان الذي أقيم بمراكش (2014) عن حرية المعتقد لجميع النرجسيات الدينية، ومن ضمنها المسيحية، أمام ما يقارب 1000 شخص بالقاعة التي احتضنت نقاشاً حول حرية المعتقد بالمغرب، وكانت ورقتي حول "الدستور المغربي وإشكالية حرية المعتقد"، مما ينسجم تماما مع توجهات حركة ضمير والمنظمة الدولية لحقوق الإنسان بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا (homina)، فهل يمكن أن يكون اختياري لهذا الموضوع مجرد صدفة؟ من طبيعة الحال: لا! كل المؤشرات تدل على أن المسألة "فيها إن"!
الدليل القاطع الثاني على "خطورتي" كما يتوهم البعض هو كوني عنصرا يعمل لصالح جهة ما بشكل سري وذكي، وأنني أكتب مقالات عن حرية المعتقد ذات بعد جدلي، وظيفتها تفكيك المفاهيم المغلوطة عن هذا الحق الكوني؛ إذ أنتقد فيها الككفونيا المخزنية الجديدة (المخزن الجديد)، لقد كان انتقادي للمخزن التقليداني فرصة ذهبية لأصفي بها حساباتي مع المتمسحين الجدد والذئاب المختطفة التي تلبس لباس الحملان.
كل هذه "البراهين القاطعة" على اشتغالي لصالح جهة معينة، أقنعت حسن بأنه لا يجوز ولا ينبغي لكل من تشبع بفكر مسيحي أن يدنّس عينيه وعقله بقراءة ما أكتبه. أنا عميل مأجور، ودفاعي عن المسيحية ليس سوى حيلة خِسّيسة لاستدراج الحركة الحقوقية لأحضان العدو، حيلة خِسّيسة وخطيرة، وفي نظر حسن وأشباهه، هذا هو سر التحاقي بالحركة الحقوقية سنة 2011، السنة التي كانت خطيرة على الملكية في المغرب وكان يحتاج فيها النظام إلى من يدفع عنه خطر الحركات المعارضة، التي من بينها الحركة الحقوقية.
هذه، باختصار، هي خلاصة "عقيدة" حسن وأشباه حسن في ما أكونه وما أسعى إليه. هذه هي الظِّلال الكثيرة المختلطة المتشابكة الملتبسة التي قد تكون انعكاسا لأي شيء آخر إلا الحقيقة!
لقد قيل لي من طرف بعض المسيحيين المعترضين منذ سنوات إن "مطالبكم عن حرية المعتقد ليست واقعية بالمغرب"، فأجبت بسخرية: "موش واقعية؟ غادي نشوفو". لقد أصبحت قناعتي بضرورة استرجاع المسلوب أقوى وأوضح مما كانت عليه من قبل، لكن لم يكن للحركة الحقوقية أي دور في هذا الوعي المتنامي لدي. لقد كانت قضية الحرية الدينية وما زالت مشكلة وجودية أعيشها كل يوم ولا علاقة لها بالسياسة.
من أقسى اللحظات الوجودية التي اختبرت فيها الإحساس بفقدان هويتي الروحية حين قررت عدم الانتماء لكنيسة سرية (بيتية) سنة 2009. كانت هذه السنة مهمة في تطور الوعي الهوياتي الروحي في وجداني بشكل دراماتيكي، خصوصاً في أول خرجة إعلامية لي قبل هذا التاريخ في "الحصاد المغاربي" بقناة "الجزيرة" يوم 23 دجنبر 2008.
بداية هذا التطور الدراماتيكي كانت صغيرة جدا ومفاجئة، عندما بدأت ألاحظ كثرة التعليقات على تلك الخرجة الإعلامية وحِدّة التهجم عليّ بسببها، فمن القراء والمتتبعين للحصاد المغاربي من اعتبرها تعبيرا عن سخط مقيت على الإسلام أحمله في صدري، ومنهم من ذكرني بأن "لا فرق بيني وبين المتنصرين الجدد، الذين يبحثون عن الهجرة إلى الغرب أو الزواج بشقراء أوربية"، ومنهم من نصحني بالابتعاد عن الإعلام وممارسة شؤوني الدينية في الخفاء، كما يقول أحد منظري الحزب الإسلامي محمد يتيم.
بدل أن أستجيب لهذه التهجمات غير الذكية، قررت أن أستمر في الدفاع عن جوانب أخرى من الهوية الروحية للمسيحيين المغاربة، مما جعلني أكتشف أن معظم المتهجمين كانوا من المتمسحين الذين يستفيدون بالعمل في سرية تامة خوفا على مصالحهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية في علاقاتهم بمنظمات وجمعيات تبشيرية دولية.
منذ ذلك اليوم، انطلقت في حماس لا حدود له للرد عن المعارضين من أجل المطالبة بالحقوق المسلوبة، فكنت أرد على المسيحيين الناقدين بتفصيل إلى أن يعلنوا استسلامهم في المناقشة، مما مكنني من تطوير قاموس جدلي أصبح استعماله سائدا اليوم عند الشباب المسيحي – قاموس يتضمن مصطلحات مثل "الجنجويد" و"رد المسلوب الهوياتي" وغيرهما.
بعد أشهر عددها قليل، بدأ الناشطون في الحركة الحقوقية يتوافدون عليّ لتشجيعي على مواصلة الكتابة حول الهوية الدينية المسيحية، أو للتعبير عن "إعجابهم" بما أكتب، أو لدعوتي إلى تقديم عرض أو محاضرة حول جوانب مختلفة من القضية المسيحية.
أخيرا، بدأت أسترجع الأمل في استعادة هويتي التي سُرقت مني خلسة.. هذا هو البعد الذاتي لنضالي الحقوقي.
وهكذا أتيت إلى الحركة الحقوقية!