محمد يسري
يُقدَّر عدد المسلمين في أمريكا بـ3.45 مليون شخص ويتزايدون بشكل ملحوظ، وتتوقع الدراسات أن يشكل الإسلام ثاني أكبر ديانة في الولايات المتحدة عام 2050، متجاوزاً اليهودية.
وعلى الرغم من أهمية المكوّن الإفريقي الأمريكي، بين المكونات العديدة التي تشكل الطيف الإسلامي في البلاد، إلا أنه كثيراً ما يتم تجاهله.
مسلمون بين "العبيد"
هنالك الكثير من الإشارات التي تدل على أن الدين الإسلامي دخل القارة الأمريكية منذ فترة مبكرة. فبحسب ما أورده جيرالد ديركس في كتابه "المسلمون في أمريكا: إرث منسي"، يعود وصول المسلمين إلى العالم الجديد إلى فترة ازدهار الدولة الإسلامية في الأندلس في القرن التاسع.
وبُعيد وصول الاستكشافات الأوروبية إلى الأمريكتين في القرن السادس عشر، ثم تهافت البيض الأوروبيين إلى البلاد الجديدة في ما بعد، بدأ المستعمرون البيض في اقتياد جماعات واسعة من الإفريقيين السود من منطقة غرب إفريقيا، واسترقاقهم للعمل في استصلاح الأراضي والمزارع.
ويذكر المؤرخ كامبيز غانياباسيري في كتابه "تاريخ الإسلام في أمريكا... من العالم الجديد إلى النظام العالمي الجديد"، أن نحو ثلاثة ملايين إفريقي اقتيدوا قسراً إلى الأمريكتين.
في تلك الفترة التاريخية المهمة، بدأ التواجد الإسلامي عملياً في أميركا، وذلك لأن الكثيرين من الإفريقيين السود كانوا يعتنقون الديانة الإسلامية في موطنهم الأول. ورغم عدم وجود تحديد دقيق لنسبة المسلمين من بينهم، يذهب البعض إلى القول إن عدّة آلاف من المسلمين أُحضروا إلى أمريكا، فيما يقول آخرون إن العدد أقل من ذلك، ويقدّر أحد المؤرخين نسبتهم بـ30%من إجمالي الأفارقة الذين اقتيدوا إلى الأرض الجديدة، كما يذكر جورج هـ. جون في كتابه المترجم إلى العربية بعنوان "ليست النصرانية ولا الوثنية... الإسلام ينتشر في أوساط العبيد الأفارقة في الأمريكتين".
ويرجّح غانياباسيري في كتابه المذكور أن نوعاً من التحول في الهوية أصاب الأرقاء المسلمين عقب وصولهم إلى العالم الجديد. ويفسر ذلك بإصرار السادة البيض وقتها على سلب المستعبَدين أية هوية تميّزهم وقد تعيق انتظامهم في حياتهم الجديدة التي يقتصر دورهم فيها على العمل كـ"عبيد" وخدم ليس إلا.
ولذلك، لم يكن من الغريب أنه ومع حلول نهايات القرن التاسع عشر، نجد أن أحفاد المسلمين الأفارقة المستعبدين كانوا قد فقدوا كل اتصال لهم بالإسلام، كما فقدوا اتصالهم وارتباطهم بجذورهم في بلادهم الأصلية.
إسلام المهمّشين
في بداية القرن العشرين، وقع تحوّل كيفي مهم، بسبب تأثيرات الهجرات البشرية الكثيفة التي قدمت إلى أمريكا من جنوب ووسط آسيا والشرق الأوسط وشرق أوروبا، وكلها مناطق جغرافية تحتشد فيها المؤثرات الإسلامية.
وراح الإسلام يلعب دوراً في أوساط بعض فئات الأمريكيين الأفارقة المهمشين اجتماعياً. ونستطيع تحديد الفترة الواقعة بين ثلاثينيات وسبعينيات القرن العشرين كفترة زخم دعوي إسلامي في أوساط الأمريكيين الأفارقة، وهو الأمر الذي بدأ في التراجع بشكل تدريجي في ما بعد لأسباب متعددة، منها تصاعد العمليات الإرهابية التي ينفّذها مسلمون متطرفون من جهة، ومنها قوة حركة الحقوق المدنية غير المسلمة بين أصحاب البشرة السمراء.
شكّل الإسلام في تلك المرحلة مكوّناً هوياتياً يميّز أصحاب البشرة السمراء الباحثين عن الخروج من التبعية للرجل الأبيض. ولذلك ليس غريباً ما نجده من كلام للناشط الإسلامي الشهير مالكوم أكس وهو يحكي في سيرته الذاتية عن الظروف التي اعتنق فيها الإسلام.
يقول إنه عندما دخل المسجد في ديترويت للمرة الأولى، وجد رجل الدين يقف أمام لوح وقد رسم على أحد أطرافه العلم الأمريكي وتحته كلمات عبودية وألم وموت ومسيحية وعلامة الصليب وصورة رجل أسود مشنوق، وفي الجهة الأخرى رسم صورة النجمة والهلال وتحتها كلمات إسلام وحرية وعدالة ومساواة.
وفي ما يُشبه تلك الحادثة، ذكرت مجلة "تايم" أن الحدث المباشر الذي دفع بطل الملاكمة كاسيوس كلاي (محمد علي كلاي) إلى إشهار إسلامه، كان كاريكاتير نُشر في إحدى الصحف، ويصوّر كيف يعذّب أحد السادة البيض عبده الأسود ثم يهرع لأداء طقوس التعبد المسيحية، وهو ما يشير إلى أن اعتناق الإسلام في تلك المرحلة تحديداً كان نوعاً من الثورية على دين المؤسسة الحاكمة.
منظمة أمة الإسلام... بداية راديكالية
لعل من أفضل السبل لدراسة ماضي وواقع الأمريكيين الأفارقة، هو الرجوع إلى واحدة من أهم المنظمات الإسلامية الأمريكية، "أمة الإسلام"Nation of Islam.
نستطيع أن نلاحظ ثلاث مراحل مفصلية في طريق تطور تلك المنظمة، ويمكن عن طريق دراستها تشخيص واقع المسلمين الأفارقة في أمريكا منذ بدايات القرن العشرين وحتى الوقت الراهن.
بحسب ما ورد في كتاب أشهر الفرق الأمريكية المعاصرة المنتسبة إلى الإسلام وأثرها العقدي، للباحث فهد السنيدي، تضعنا بداية الحراك الإسلامي بين الأمريكيين الأفارقة أمام شخصية نوبل درو علي.
ولد تيموثي درو في ولاية نورث كارولاينا عام 1886، وبدأ حياته كعبد عند بعض الملاك البيض، وفي سن العشرين هرب إلى الشمال الأمريكي المعادي للعبودية، وبعد استقراره في نيويورك اعتنق الإسلام متأثراً بما سمعه عنه من بعض المهاجرين الآسيويين.
وعام 1913، أسس درو جماعة معبد المورية، الذي اشتق اسمه من اسم المور وهو لقب كان يُطلق على البربر والمغاربة. ولا تتوافر معلومات دقيقة كثيرة عن حجم انتشار تلك الجماعة في المجتمع الأمريكي حينذاك.
وعام 1925، أسس درو معبده الأكبر في مدينة شيكاغو، وأدخل بعض التعديلات على العقيدة الإسلامية، ويذكر فهد السنيدي بعضها مثل تسميته لنفسه بالنبي، وربطه للشيطان بالرجل الأبيض.
النقلة الحقيقية تمت بعد ذلك على يد واعظ ديني مسلم هو والاس فرد محمد. وبحسب ما ورد في كتاب الرسول لكارل إيفانز، فإن والاس الذي وُلد عام 1893، عمل على نشر الإسلام بين الأمريكيين من ذوي البشرة السمراء على وجه الخصوص، فأسس منظمة أمة الإسلام وتركزت نشاطاته في مدينة ديترويت حيث بنى عام 1930 "المعبد رقم 1".
شكلت أفكار والاس انحرافاً فكرياً عن الخط الإسلامي التقليدي. فبحسب ما ورد في كتاب "رسالة إلى الرجل الأسود" لمؤلفه إليجا محمد، فإن والاس كان يدّعي أنه المهدي المنتظر، كما أشاع بين أتباعه أنه تجسيد للذات الإلهية.
وفي عام 1934، اختفى والاس فجأة، دون أية مقدمات، ليخلفه في قيادة المنظمة صديقه إليجا محمد.
ويذكر كلود أندرو، في كتابه "حياة إليجا محمد"، أن الزعيم الثاني لمنظمة أمة الإسلام، كان من خلفية مسيحية، وأنه بعد قيادته للمنظمة، استطاع أن يطور أداءها وأن يحافظ على الأفكار والمعتقدات التي نشرها ودعا إليها سلفه، وأضاف في الوقت نفسه بعضاً من الأفكار الجديدة، ومنها تسميته نفسه بالرسول وإسباغه نفسه بصفتي العصمة والتنزيه.
مالكوم أكس... إصلاح الحركة
ولد مالكوم ليتل في ولاية نبراسكا، عام 1925، وبدأ حياته كغالبية الأمريكيين من أصحاب البشرة السمراء، بالعمل في بعض الوظائف المتدنية وممارسة عدد من الأعمال غير القانونية، فأُدخل السجن لمدة سبعة أعوام كاملة.
مالكوم أكس بجانب إليجا محمد
وبعد الإفراج عنه، عام 1953، تواصل مع منظمة أمة الإسلام، والتقى زعيمها إليجا محمد، وأعجب بأفكاره، ولم يمضِ وقت طويل حتى أضحى مالكوم، الذي حمل اللقب أكس، واحداً من أهم دعاة المنظمة على الإطلاق.
في تلك الفترة، كانت آراء مالكوم تتطابق مع تعاليم إليجا محمد بشكل حرفي، وكانت الركيزة الأساسية التي يبني عليها الداعية الشاب خطاباته، هي إثارة الحماسة ضد الرجل الأبيض.
وبحسب ما ورد في سيرته الذاتية، اعتاد مالكوم على شد انتباه الأمريكيين الأفارقة بخطابات من نوع: "أريدكم عندما ترون رجلاً أبيض أن تتذكروا أنكم ترون الشيطان وأن تتذكروا ما فعله بأحبائكم الذين شيّد على عاتقهم أغنى دولة عرفها التاريخ الحديث".
عقب اغتيال جون كينيدي في نوفمبر 1963، تعرّضت علاقة مالكوم بمنظمة أمة الإسلام للتوتر، بعدما أدلى بتصريحات إعلامية، فُهمت على أنها شماتة بموت الرئيس الأمريكي الأسبق، ما دفع بإليجا محمد إلى طرده لتدارك الغضب الجماهيري ضد المنظمة.
وبحسب ما ورد في سيرته، تعرّف مالكوم في تلك الفترة على بعض المصريين الذين قدّموا له عدداً من الكتب الإسلامية المكتوبة باللغة الإنكليزية، وشجعوه على أداء فريضة الحج.
رحلة الحج تلك أثرت تأثيراً عميقاً في نفس مالكوم، وعبّر عن ذلك بقوله: "الشوارع تكتظ بحجاج من كل حدب وصوب، يلهجون بالدعاء ويرتلون القرآن، مشهدهم جميل لم تبصر له عيني نظيراً وهذا الجو لم يسبق لي أن شعرت به".
بعد الحج، زار مالكوم، الذي غيّر اسمه في ذلك التوقيت ليصبح الحاج مالك شباز، عدداً من الدول العربية والإفريقية، وبدأ خلال تلك الرحلة في تغيير أفكاره عن الإسلام، فترك العديد من أفكار ومعتقدات أمة الإسلام، وانتهج النهج السني المنتشر في البلاد المشرقية.
وعقب رجوعه إلى الولايات المتحدة، بدأ مالكوم بتغيير خطابه تجاه البيض، وروى في مذكراته: "لقد فتح الإسلام الصحيح عيني على أن إدانة كل البيض كإدانة كل السود، شيء خاطئ".
كان من الطبيعي أن يثير "الاتجاه التصحيحي" الذي انتهجه مالكوم غضب منظمة أمة الإسلام، خصوصاً بعدما أسس مؤسسة المسجد الإسلامي، وانضم إليه العديد من أعضائها.
اغتيال مالكوم أكس
وفي 21 فبراير 1965، اغتيل مالكوم أكس على يد مجموعة من أعضاء أمة الإسلام، وذلك أثناء إلقائه محاضرة في مدينة نيويورك.
الاستقرار والسكون
بعد اغتيال مالكوم أكس، ترك جماعة أمة الإسلام الكثيرون من المنسبين إليها، واتجهوا للانخراط في الجماعة السنية التي أسسها مالكوم قبل وفاته، بينما بقي أمر أمة الإسلام بيد إليجا محمد حتى وفاته هو الآخر عام 1975، ليخلفه في قيادتها ابنه والاس الذي تسمّى بمحمد وارث الدين محمد.
ويذكر فهد السنيدي أن وارث الدين متأثر بمنهج مالكوم أكس، وعمل على إعادة الحركة إلى الخط الإسلامي، فغيّر اسم جماعته إلى البلاليين، تيمناً بالصحابي بلال بن رباح، كما غير اسم المعابد إلى المساجد، وجعل لقب الإمام يحل محل رئيس المعبد.
دفعت تلك الاصلاحات التي قام بها وارث الدين بعض أنصار المنهج القديم إلى الانشقاق تحت قيادة لويس فرخان محمد، الذي احتفظ لجماعته باسم أمة الإسلام.
حدد فرخان محمد، الذي ينظر إليه أتباعه على أنه نبي ولا يزال يؤمن بأن والاس فرد محمد هو المهدي المنتظر الذي أعاد الإسلام إلى أمريكا، أهم أهداف منظمته في المساواة بين الأمريكيين وقبول الإسلام، والتصدي لمواقف اليمين المسيحي التي تناصب المسلمين في الشرق الأوسط العداء وتناصر إسرائيل، حسبما يرى.
وعمل زعيم أمة الإسلام، الذي يدير منظمته من مقرها الرئيسي في شيكاغو، على المشاركة في الحراك الاجتماعي والسياسي الدائر في الولايات المتحدة، والذي كانت أبرز صوره تظاهرة المليون شخص التي دعا إليها عام 1995 واستطاعت أن تنال قدراً كبيراً من الاهتمام الاعلامي وقتها، بعد أن شارك فيها ما بين 400 و800 ألف شخص، بحسب بعض التقديرات.
حالياً، يبلغ عدد المسلمين الأمريكيين من أصحاب البشرة السمراء المولودين في الولايات المتحدة نحو 450 ألف شخص، ليسوا كلهم من أحفاد "العبيد" فبعضهم وصل إلى البلاد لاحقاً. ويبلغ عدد أعضاء أمة الإسلام أو المتعاطفين معها ما بين 25 إلى 100 ألف شخص.