القدس عاصمة لإسرائيل.. لما التعجب؟ - مقالات
أحدث المقالات

القدس عاصمة لإسرائيل.. لما التعجب؟

القدس عاصمة لإسرائيل.. لما التعجب؟

رامي عزيز

في السادس من كانون الأول/ ديسمبر أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتراف الولايات المتحدة بمدينة القدس كعاصمة لإسرائيل ووجه بالعمل على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وتأتى هذه الخطوة التي اتخذها الرئيس ترامب أولاً تنفيذاً للقانون الذي أصدره الكونجرس في عام ١٩٩٥ والمعروف باسم "قانون نقل السفارة إلى القدس" والذي كان مقرر له أن يتم تنفيذه في مدة أقصاها عام ١٩٩٩م، وثانياً تنفيذاً للوعد الانتخابي الذي تعهد به أمام قاعدته الانتخابية.

ولكن هذا الخطوة التي تجنب أخذها العديد من رؤساء الولايات المتحدة السابقين (كلينتون، بوش الأبن، أوباما) بحجة انه سيكون لها عواقب سلبية على عملية السلام ومصالح الولايات المتحدة في دول العالم العربي والإسلامي، قد أثبتت عدم صحتها فاعتراف ترامب والولايات المتحدة  بالقدس عاصمة لإسرائيل لم يشعل المنطقة ولم يجعل حلفاء الولايات المتحدة من العرب والمسلمين يعلنوا عن مقاطعتهم لها، أو طردهم السفراء الأمريكان في تلك العواصم العربية والإسلامية. واقصى ردود فعل صدرت عن تلك الدول المشار إليها تمثلت في بيانات وتصريحات الرفض والشجب والإدانة، حتى رد فعل الجامعة العربية تمثل في اجتماعها على مستوى وزراء الخارجية وليس على مستوى الملوك والرؤساء، ويمكن وصف هذا الاجتماع بالشكلي والروتيني أكثر من أي شيء أخر.

وإذا ذهبنا للمشهد على المستوى الشعبي في الشوارع العربية سنجد أنه كان بالفعل هناك تظاهرات واحتجاجات في بعض العواصم العربية والإسلامية مثل القاهرة، عمان، بيروت، أنقرة وطهران. ولكن إذا نظرنا لهذه المظاهرات بنظرة متفحصة ومن ورائها سنجد تيارات وأنظمة دينية ذات أهداف سياسية دائماً ما اعتادت أن تتخذ من ذلك الملف ذريعة لإيجاد شرعية وكسب تأييد جماهيري. فالقضية الفلسطينية وملف القدس تحديداً يعد أكثر الملفات التي تستخدمها التيارات السياسية والدينية المعارضة في العالم العربي والإسلامي لحشد التأييد، وتستخدمها الأنظمة كغطاء للتغطية على قضاياه وإخفاقاتها الداخلية.

فاذا نظرنا إلى المشهد في بعض من هذه الدول وهما مصر، لبنان، تركيا وإيران بشكل أكثر تدقيقاً، سنجد أن:

في مصر، يستخدم ذلك الملف من كلا الطرفين النظم الحاكمة من جهة والتيارات الإسلامية والمعارضة من جهة أخرى، فجمال عبد الناصر أستخدم ذلك الملف كثيراً لأثارة مشاعر الجماهير العربية كلها وليس المصرية فقط، عن طريق ترديد الشعارات العدائية المحملة بالكراهية لليهود وإسرائيل والتهديد بإلقائها في البحر وأزالتها من الوجود، وان توقف الخطاب الرسمي للدولة في مصر عن استخدام تلك المصطلحات بعد توقيع أنور السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل. ومع ذلك، ترك النظام تيارات الإسلام السياسي من الإخوان والجماعات الإسلامية تستخدم ذلك الملف تحت إشرافه وبالتنسيق معه، فانا أتذكر التظاهرات الكبرى التي اجتاحت الجامعات المصرية خلال الانتفاضة الثانية في سنة ٢٠٠٠ التي كان يقوم بها طلاب التيارات الإسلامية وعلى رأسهم الإخوان المسلمين بالتظاهر وترديد الشعارات المناوئة لإسرائيل واليهود، وكيف كان يشرف عليها ضباط جهاز مباحث أمن الدولة. وكان النظام يستخدم الإسلاميين كفزاعة من أجل إرغام الولايات المتحدة وإسرائيل على دعمه، وكان الإسلاميين يبحثون عن أي فرصة ولو مشروطة من قبل النظام لإظهار إمكانياتهم العددية والتنظيمية.

ولكن الأن في مصر تغيرت قواعد اللعبة، ولم يسمح النظام الحالي إلا بتظاهرات محدودة عقب صلاة الجمعة الماضية بالجامع الأزهر وواجه محاولات ودعوات أخرى للتظاهر بإلقاء القبض على المتظاهرين وهذا يوضح مدى حرص القاهرة على الحفاظ على استقرار الأوضاع الداخلية بها وتوفيت فرصة التظاهر على المعارضة التي قد تتحول لتظاهرات ضد النظام نفسه.

وفى لبنان يمكن تلخيص المشهد في جملة قصيرة وهي أن الدولة اللبنانية مختطفة من قبل حزب الله أحد أذرع إيران ولا تقدر على التصدي له، وأن قضية القدس تعد فرصة ثمينة لا يمكن أن يضيعها حسن نصر الله للتغطية على الجرائم التي أرتكبها من قتل وإبادة للأبرياء في سوريا تحت شعارات المقاومة الزائفة باسم القدس، حيث كان نصر الله دائما يبرر جرائم حزب الله بقوله " أن طريق القدس لا يمر من جونيه كما يقول البعض.. ولكنهُ يمر بالقلمون والسويداء والزبداني والحسكة".

وفى إيران الشيعية التي يحكمها نظام الملالى استخدمت القدس ككلمة سحرية للنفوذ في صفوف المسلمين السنة وتسويق إيران لنفسها على أنها الوحيدة القادرة على استعادة القدس من اليهود. وقد ذهب إيران بعيدا حين أطلقت أسم القدس على أحد أهم مجموعات ميلشيات الحرس الثوري، الذي يقوده قاسم سليماني مهندس الحروب الطائفية التي تنهش في المنطقة، والتي زُهقت فيها أرواح مئات الألاف من الأبرياء.

وفى تركيا الأردوغانية الإخوانية، وفى ظل تراجع دور أردوغان وانهيار حلمه في السيطرة على المنطقة بواسطة أذرع جماعة الإخوان المسلمين وتبدد حلمه في عودة الخلافة العثمانية، وجد في تلك الأحداث ضالته للصعود على الساحة كممثل وحامى للإسلام والمسلمين وقضاياهم، دون تقديم أي شيء ملموس في سبيل استعادة القدس على حسب ادعائهم.

ولكن هذا القرار بالرغم من أهميته، لكنه لم يحوز على نسبة من الترحاب والقبول في الأوساط الدولية، وعلى راس قائمة المعارضين يأتي الاتحاد الأوروبي الذي يخشى أن يؤدى مثل هذا القرار إلى تأثيرات سلبية على مسار المفاوضات بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني تلك المفاوضات المتعثرة بالفعل منذ عدة سنوات. ولكن بالنظر بنوع من التأني إلى ذلك القرار سنجد أنه يمكن جنى الكثير من الفوائد التي تصب في صالح مسار المفاوضات بن الطرفين فذلك القرار يعد مثل الصخرة إلى ألقيت في مياه بحيرة عملية السلام الراكدة، بالإضافة إلى أنه عاد مرة أخرى بالقضية الفلسطينية إلى سطح الأحداث بعد أن توارت في السنوات الأخيرة لتحتل مرتبة متأخرة في قائمة اهتمامات المجتمعين العربي والدولي على السواء نتيجة لبروز موضوعات أخرى أكثر الحاحا.

لذا يجب على الفلسطينيين استثمار حالة الزخم التي عادت مرة أخرى بالقضية الفلسطينية لبؤرة الاهتمام الدولي، والمضي قدماً في مفاوضات مباشرة وجادة برعاية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ورعاية عربية أيضاً مستفيدة من حالة التقارب الموجودة بين إسرائيل وأطراف عربية فعالة في المنطقة على رأسهم المملكة العربية السعودية ومصر، والتعامل مع الملفات الأخرى العالقة محل الخلاف بنوع من الإرادة الحقيقة في الوصول إلى حل، مع الأخذ في الاعتبار الحقائق الموجودة على الأرض، وعدم الابتعاد عن ما هو متاح وما يمكن توفيره.

ولكن للأقدام على هذه الخطوة يجب على الطرف الفلسطيني توحيد الفصائل الفلسطينية المختلفة والحصول على تفويض منها بأن السلطة الفلسطينية هي الممثل عن كل هذه الفصائل وأن يتم التأكد على أن ما سيتم التوصل إليها من قرارات نتيجة لتلك المفاوضات سيكون محل موافقة والتزام من جميع الفصائل الفلسطينية.  

أن التعامل الخاطئ مع القضية الفلسطينية من قبل الفلسطينيين أنفسهم والسماح للعديد من الدول والمجموعات استخدام قضيتهم وتصويرها على أساس أنها حرب دينية بين المسلمين واليهود، قد أضر كثيراً بالقضية وإخراجها عن مسارها ودفع بها في مسارات ومتاهات لا طال منها، فإشعال الكراهية والحقد ضد الأخر على أساس ديني لم ولن ينجح في بناء دولة للفلسطينيين ولن يجبر مئات الآلاف من الإسرائيليين الذين كانوا يعيشون في القدس حتى قبل عام 1967 على الرحيل منه أو تركها.

وبالنسبة لمن يحاولون إشعال الأوضاع عن طريق تسويق الأكاذيب حول الأماكن الدينية والمسجد الأقصى، فاعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس كعاصمة لإسرائيل أكد على احترام الولايات المتحدة للوضع الراهن في الحرم الشريف (جبل الهيكل)، وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو صراحة في كلمة له عقب ذلك بانه لن يكون هناك تغيير في الوضع القائم للمقدسات. فمنذ عشرات السنيين ومنذ عودة السيطرة اليهودية على القدس ومئات الألاف بل ملايين من المسلمين زاروا وادو الصلاة في المسجد الأقصى بكل حرية دون أن يمنعهم أحد.

وفى النهاية فالقدس بالفعل وحتى قبل اعتراف الرئيس الأمريكي ترامب بانها عاصمة إسرائيل، وهي تقوم بتلك المهمة، وفيها توجد كل المؤسسات التي تشير وتؤكد بانها العاصمة من البرلمان ومكتب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية، وفى القدس يستقبل كل الرؤساء والزعماء الذين يزورن إسرائيل، وفيها القى السادات خطبها الشهير منذ أربعين عام ولم يلقيه من تل أبيب أو حيفا، أذن فلما التعجب من اعتراف الولايات المتحدة بها كعاصمة أن كانت هي فعلا العاصمة؟ 


رامي عزيز هو باحث ومحلل سياسي مصري، يعمل على درجة الدكتوراه من جامعة روما ويركز بحثه على نشأة وتطور الإسلام السياسي في أوروبا.

منتدى فكرة، معهد واشنطن

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*