عودة ابو ردينة، ترجمة ابتسام الحلبي
كتاب جديد يتناول سبب فشل الحملات الصليبية، ويعلّم القادة والأمم دروسًا مهمّة في الحروب والاستراتيجيا.
إيلاف: حققت الحملة الصليبية الأولى نجاحًا مذهلًا، واعتبرت الحروب اللاحقة معجزات لوجستية، غير أنّها كانت فاشلة على الصعيد العسكري.
ربما لم يقل نابليون يومًا: "لن تجد في الحرب أندر من الخطة"، وإذا فعل، فهو لم يقصد ذلك. تعبئة السكان لحالة حرب؛ وتجنيد الجيش وتحفيزه وتمويله؛ وإتقان الخدمات اللوجستية المعقدة اللازمة لتجهيز الآلاف من المقاتلين وإطعامهم ونقلهم وإعادة إرسال الإمدادات إليهم ومساندتهم في الأراضي المعادية، أمور لطالما تطلّبت تخطيطًا دقيقًا، وينبغي أن يعرفها أي شخص يعتقد أن آلاف الفرسان المتعصبين عبروا المتوسط في العصور الوسطى لتحرير القدس من دون تخطيط أو تنظيم دقيق.
اندفاع غير عقلاني
في كتابه "كيف تخطط حملة صليبية" How to Plan a Crusade: Religious War in the High Middle Ages (منشورات بيغاسوس، صفحة 432 )، يركّز كريستوفر تايرمان، العالم غزير الإنتاج، على دحض التصور الشعبي بأنّ الحملات الصليبية كانت اندفاعًا غير عقلاني.
ربما يبدو أمرًا منحرفًا الاعتقاد بأن الله أراد تحرير الأراضي التي غزاها المسلمون قبل قرون، وكذلك القضاء على الوثنيين في البلطيق وذبح الهراطقة في جنوب فرنسا وإيطاليا. لكن، في ذلك الوقت، قال رجال الدين المدربين تدريبًا عاليًا أن الجرائم ما ارتكبت بحق المسيحيين فحسب، بل أيضًا بحق المسيح نفسه، وهي جرائم احتاجت عقابًا من المسيحيين ذوي النيات الحسنة.
بمجرد قبول هذه الفرضية من البابوية والهرمية الكنيسة، انتشرت الجهات المجنِّدة وجامعو التبرعات في أنحاء أوروبا الغربية في حملات مصمّمة بإتقان غالبًا ما كانت ناجحة للغاية لتجنيد المحاربين وجمع الأموال لإرسالها واستخدامها ضد العدو. كان رجال الدين المتعلمون في الجامعات جيدين بشكل خاص في تطوير حجج معقدة وعقلانية لدعم الصليبية، ونشروها في التجمعات العامة، والأطروحات والرسائل.
كانت الحروب الصليبية مكلفة: احتاج القادة دفع ثمن الأسلحة والخيول والدروع والإمدادات للحملات الموسعة. حتى الفرسان أو النبلاء الأكثر تديّنًا وإخلاصًا توقّعوا أن يقبضوا مقابل خدماتهم، كما فعل رجالهم الذين يعملون بالأسلحة، وكأمناء مخازن، وطهاة، وخدم، وأسياد سفن، والطاقم الذي اعتُبر ضروريًا للنقل وإعادة الإمداد.
تطلّبوا إقناعًا روحيًا
يفصّل تيرمان النظام المعقد المتّبع لجمع الأموال الضخمة اللازمة: وجاء بعضها على شكل تبرعات مباشرة من العظماء المتواضعين. أولئك الذين أقسموا على حمل الصليب، إذا غيّروا رأيهم أو عجزوا عن تنفيذ وعدهم بسبب السنّ أو العجز أو عدم القدرة العسكرية على القيام بالرحلة، يمكن أن "يبرّئوا" ذمّتهم عن طريق دفع المال نقدًا.
أن يتمكّن الأفراد، بما في ذلك بالطبع الجهات التي تقوم بالتجنيد، من إطلاق مهن رائعة من خلال بيع الحروب الصليبية، هو دليل على السخرية: كان تحقيق النجاح من خلال فعل الخير جزءًا من الصليبية بقدر ما هو جزء من الحملات السياسية اليوم.
لم يكن جمهور هؤلاء الخبراء في الشؤون العامة والمجنِّدين مجرّد نفوس بسيطة، تأثّرت بسهولة لتحمل الصليب: فالنبلاء والفرسان والتجار وعموم الناس المتشككين والصريحين، تطلّبوا إقناعًا روحيًا وعلمانيًا. ومن أهم ما ذُكر هو الغفران، الوعد بالعفو من معاناة التطهير من الإثم، إذا انضموا إلى حملة صليبية معتمدة. ومن بين طرق الإقناع المذكورة أيضًا، الضمانات القانونية لتجميد ديونهم وإعفائهم وأسرهم من الضرائب وحمايتهم من الدعاوى القضائية.
تخطيط معقد ودقيق
منذ العمل الرائد عن الملك الصليبي لويس التاسع من فرنسا، الذي بدأه ويليام جوردان في السبعينيات، اعترف العلماء إلى أي درجة يجب أن يكون التخطيط لهذه البعثات معقّدًا ودقيقًا.
كان بعض التحديات اللوجستية مألوفًا: كانت الأرستقراطية الأوروبية عبارة عن مجموعة من المحاربين المحترفين لقرون عدة. لكن، في حين أن تحديات شنّ حملات صليبية في شبه الجزيرة الإيبيرية والبلطيق وجنوب فرنسا كانت تشبه تحديات الحرب بين المسيحيين، فإن الحروب الصليبية في شرق البحر الأبيض المتوسط طرحت تحديات لا مثيل لها منذ اختفاء الجيش الروماني قبل 500 سنة.
لم يكن الملوك بحاجة إلى جمع مبالغ هائلة من المال فحسب، وهو أمر فعلوه من خلال فرض ضرائب جديدة، بما في ذلك ما يمكن تسميتها ضريبة الدخل الأولى، بل كان عليهم أيضًا إنشاء بنية تحتية كاملة للإمداد والنقل من أجل دعم جيش بعيدًا عن المنزل لسنوات.
كانوا بحاجة إلى إنشاء مؤسسات محلية قوية لتنظيم ممالكهم، بينما كانوا غائبين لسنوات. كما احتاجوا أيضًا التعاقد على المرور مع المدن الإيطالية (التي كانت الوحيدة التي تملك السفن والطاقم والخبرة لنقل الجيوش عبر البحر) أو التفاوض مع حكام المجر وخاصة الإمبراطورية البيزنطية إذا كانوا يحاولون قيادة جيوشهم عن طريق البر.
وحدات متعددة
تطلب هذا كله حفظ سجلات ضخمة، من اللفافات الخاصة بأولئك الذين أقسموا اليمين (وبالتالي كان عليهم أن يظهروا ليقبضوا أو يدفعوا المال حتى لا يظهروا) وصولًا إلى الأعداد الدقيقة لحدوات الأحصنة، ولحم الخنزير المعدّ للحفظ، والجبن، والفاصولياء، والسهام ومسامير القوس والنشاب اللازمة للجيوش.
يرى تيرمان أن القادة الصليبيين حلّوا المشكلات اللوجستية والمالية: فلم يفلس أي من الحكام، بغضّ النظر عن الكارثة التي اتسمت بها الحملات العسكرية الفعلية. وفي الواقع، أدت الحملات الصليبية إلى تعزيز القوة والامتيازات الملكية بدلًا من تقليصها. لكن، إذا كان التخطيط اللوجستي والمالي للحروب الصليبية ذكيًا، فلا يمكن أن يقال الشيء نفسه عن قيادة الجيش وسيطرته، خصوصًا في الحروب الصليبية في شرق البحر الأبيض المتوسط.
نتيجة لذلك، وبصرف النظر عن الحملة الصليبية الأولى التي وقعت عن طريق الصدفة عندما سمحت الانقسامات بين سوريا ومصر بالاستيلاء البطولي على القدس في عام 1099 وإنشاء مملكة لاتينية، غالبًا ما كانت هذه الحملات الصليبية في أحسن الأحوال بمثابة فشل غير حاسم وكارثي.
كانت الجيوش الصليبية تتكون من وحدات أوروبية تحت قيادات مختلفة، وفي معظم الأوقات تكتنز عداءً متبادلًا؛ في حين أنها كانت نظريًا تحظى بحماية البابوية، لم يكن الموفدون البابويون في وضع يمكنّهم من إملاء الأوامر على الملوك والأرستقراطيين الكبار الذين قادوا الجيوش. كانت النتيجة في كثير من الأحيان ما يمكن المرء أن يتصوره بين الحلفاء إذا لم يكن هناك أيزنهاور لإعداد الهبوط النورماندي وتنفيذه: ناور الملوك والقادة للحصول على حق الصدارة، ونشأت عداوات في ما بينهم فتخلّوا عن البعثات في لحظات حاسمة.
لا خطة
لم يكن لدى القادة فهم واضح لحجم العدو أو قدراته أو موارده. وجاء الذكاء البشري في المقام الأول من البيزنطيين، الحلفاء غير المؤكدين في أحسن الأحوال، الذين كانوا يخشون النيات الصليبية (بحق) واعترفوا بالحاجة إلى التوافق مع القوى الإسلامية في المنطقة.
جاءت معلومات إضافية من مجتمعات التجار الإيطاليين، التي كانت تشارك بنشاط في التجارة مع العالم الإسلامي، متحدّية الحظر البابوي. ظهر ما يشبه الاستراتيجيا الكبرى: في وقت مبكر، أدرك الصليبيون أنّه لا يمكن الاستيلاء على القدس من دون هزيمة مصر.
وفي القرن الرابع عشر، اقترح المبشرّون، مثل وليام آدم، خططًا شاملة، حتى لو كانت اقتصادية وعسكرية وثقافية وهمية، لعزل مصر، وقطع طرق التجارة البحرية، وهزيمتها في ساحة المعركة.
في الواقع، كانت الحملات ضد مصر كارثية، وكذلك بناء شراكة مع المغول في الشرق. كانت الجيوش التي نظّمتها القوى الغربية تواجه عدوًا متفوّقًا عليها من ناحية الثروات والقوى العاملة والتطوّر. ووفقًا لتيرمان، "بقي الخلل الدائم في استراتيجية الحروب الصليبية الإرث البغيض من عام 1099، وهو ضرورة ثقافية حتمية تفتقر إلى احتياطيات مادية كافية للاستمرار، وتعتمد على أيديولوجيا حصرت التجهيزات البراغماتية اللازمة بالظروف المحلية من أجل تحقيق النجاح".
إيلاف