تحدي الأصولية الأوروبية - مقالات
أحدث المقالات

تحدي الأصولية الأوروبية

تحدي الأصولية الأوروبية

منذ وقوع هجمات باريس في يناير ونوفمبر من العام الماضي، وكذلك هجمات بروكسل اللاحقة، بات الحديث عن تفاقم النزعات الأصولية العنيفة في صفوف شباب من الجاليات المسلمة الأوروبية، موضوعاً مطروحاً بقوة في صفوف المتخصصين في الدراسات المتصلة بالتطرف والعنف والإرهاب في القارة العجوز، حيث افترقت مقارباتهم وقراءاتهم لخلفيات هذا التهديد الجديد، بل إن التناقض والتعارض فيما بين الأكاديميين والباحثين الأوروبيين المهتمين بظاهرة الأصولية بلغ حداً ظهر معه ما يشبه «حرب التأويلات»، بين هؤلاء الخبراء والمتخصصين، الحقيقيين أحياناً، والمدعين المزعومين الموهومين أحياناً أخرى كثيرة! ولعل من أبرز من اهتم بتحدي العنف الإسلاموي الجديد المستعرب الفرنسي الشهير «أوليفييه روا» الذي أصدر مؤخراً كتاباً بعنوان: «الجهاد والموت»، عرض فيه رؤية من منظور أعمق بكثير من بعض التفسيرات الأخرى الرائجة في وسائل الإعلام، والمستندة بالأساس على ترسانة واسعة من الصور النمطية المزمنة. ولعل مما يزيد من قيمة كتاب «أوليفييه روا» هذا كون مؤلفه يعد أحد كبار الخبراء المعترف بهم عالمياً المتخصصين فيما يسمى الإسلام السياسي، كما أنه يعد أيضاً أحد أبرز الأكاديميين المتمرسين في مجال الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية على صعيد الغرب ككل، وقد أصدر من قبل كتباً أخرى بالغة الرواج والأهمية منها «الإسلام المعولم»، و«الجهل المقدس»، و«زمن الدين دون ثقافة»، و«بحثاً عن الشرق الضائع»، وهذا الأخير عبارة عن حوارات.

ويؤكد المؤلف منذ البداية أن تحدي التطرف والعنف الذي تواجهه الآن فرنسا، وبلدان أوروبية أخرى، ناجم عن حدوث شرخ اجتماعي عنيف راحت ضحيته شريحة محسوسة من الشبان من أبناء الجيل الثاني من المكون السكاني ذي الأصول المهاجرة، زيادة على عدد آخر من المهتدين الجدد إلى الإسلام من ذوي الأصول الأوروبية، حيث وقع هؤلاء وأولئك ضحايا لحزمة ظروف معقدة كثيرة أدى تفاعلها إلى انفصالهم عن بقية النسيج السكاني الأوروبي، وارتمائهم في حبائل التطرف والفهم المغلوط للدين. وأكثر من ذلك تأثر بعضهم عبر الإنترنت بأشد جماعات الإرهاب والعنف خطورة كـ«القاعدة» و«داعش» وغيرهما من التنظيمات الإرهابية. ومع اتساع عدد الشبان الأوروبيين المسلمين المتأثرين بجماعات التطرف الدموي وجدت دولهم نفسها فجأة أمام تحدٍّ من نوع جديد تحول بسرعة إلى كارثة ماحقة عبّرت عن نفسها في أحداث صاخبة دامية كهجمات نوفمبر 2015، وكذلك هجمات يناير، وهجمات بروكسل.. الخ.

ولعل من أهم ما ركز المؤلف على بيانه في كتابه الواقع في 175 صفحة حقيقة أن هؤلاء المتطرفين الشبان الأوروبيين هم في أغلبيتهم الساحقة من ذوي الفهم المحدود للغاية لنصوص الدين الإسلامي، حيث إن إلمامهم بها يقارب الصفر، حتى لو كانوا يزعمون التحدث اسمياً ولفظياً فقط باسم الدين، والدين في جوهره وفي تسامحه بعيد كل البعد مما يلوكون من مقولات متعصبة، وما يستبطنون من مواقف رافضة للتعايش مع الآخر، بل مع بقية المجتمع ككل. وهذا الجيل من المتعصبين الدينيين الجدد لا يمثل مع ذلك من مجمل المسلمين الفرنسيين والأوروبيين سوى آلاف قليلة بين ملايين كثيرة. وهو جيل دخل في حالة قطيعة مع بقية مكونات المجتمع الأخرى، وتمتد نظرته التكفيرية والانعزالية إلى المسلمين أنفسهم من ذوي السلوك المتدين المعتدل والفهم السليم لنصوص الدين.

وكمثال على بعد هؤلاء المتطرفين من الإسلام يؤكد الكاتب أن كثيرين منهم لا يعرف عنهم أصلاً التردد على المساجد إلا نادراً، وما حصّلوه من معرفة بالقرآن الكريم وأحكام الدين ضئيل للغاية، والنسبة الأكبر منهم تفاقم تطرفها عبر مسار شبه متكرر يبدأ من الجنوح وارتكاب جرائم حق عام عادية تدفع بالسلطات لاحتجازهم في السجن، وهناك يتعرفون على بعض المتطرفين الذين يجدون الوقت الكافي في مراكز الاحتجاز لغسل أدمغتهم والتغرير بهم، وإقناعهم بأشنع وأبشع الأفكار المتطرفة، وأكثرها بعداً عن الإسلام في معناه ومقاصده الصحيحة السامية. وهذا المسار بشقيه المنحرف والمتطرف هو الذي حول بعض هؤلاء الشبان إلى آلة قتل همجي لا تشبع ولا ترتوي من الدماء. والأغرب والأعجب من ذلك أن بعضهم إذ يقترفون كل هذه الشرور يظنون أنهم يقدمون للإسلام خدمة، في حين أنهم يشوهون صورة الدين في عيون أبناء وطنهم من الأوروبيين غير المسلمين، ويدمرون أيضاً أسس وقواعد لعبة العيش المشترك، وقيم التسامح والتساكن الإنساني التي حث عليها الإسلام دين السلام. وفي المجمل تتميز مقاربة «روا» لظاهرة الراديكالية الأوروبية الجديدة، التي يسميها البعض أيضاً «ردْكلة الإسلام»، في أنه لا أساس دينياً، بالمعنى الصحيح، لتطرف المتطرفين الأوروبيين، ولا دخل للدين الحق في انحراف هذه الموجة من الشبان العنيفين الدمويين، وإنما أدت لظهورهم عوامل منها فشل سياسات الاندماج، والتهميش والفقر في صفوف الجاليات الأوروبية من أصول مهاجرة، وفوق ذلك الجهل المطبق بالنصوص الدينية، وخاصة من قبل أفراد هذا الجيل الثاني من الأوروبيين ذوي الأصول المهاجرة، الذين لا يتقنون العربية، ولا يعرفون من ثقافة الإسلام سوى بعض القشور السطحية، ولذلك فهم يضرُّون الإسلام والمسلمين قبل أن يضروا الآخرين.

حسن ولد المختار

الكتاب: الجهاد والموت

المؤلف: أوليفييه روا

الناشر: سويْ

تاريخ النشر: 2016

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث