الأخ رشيد
يصلني هذا السؤال المتكرر من عشرات المسلمين: "لماذا تنتقدون الإسلام دون باقي الأديان؟" بل إن بعضهم يكمل ليسأل: "لماذا لا تنتقدون اليهودية أو البوذية أو الهندوسية؟ ألا يوجد في هذا العالم غير الإسلام؟ أليس انتقادكم له دليلًا على أنه الدين الصحيح؟ فالشجرة المثمرة هي التي ترمى بالطوب." هكذا تنتهي الكثير من الرسائل التي أتوصل بها، وكأن هناك مؤامرة على الإسلام. والكل في العالم ينتقد الإسلام فقط. وللرد على هذا السؤال المتكرر أحتاج إلى أن أتناوله من زوايا مختلفة.
زاوية السؤال نفسه:
هذا السؤال مبني على فرضية أن الإسلام هو الدين الوحيد المعرض للنقد، وهذه فرضية خطأ. فكل الأديان تتعرض للنقد. فقد تعرضت المسيحية وما زالت تتعرض إلى اليوم لنقد شديد من أشخاص كثيرين، منهم الأدباء والمفكرون ومنهم أناس عاديون. بل تتعرض للنقد من المسلمين أنفسهم من دون أن يعترض المسيحيون. فقد كفّر القرآن المسيحيين وجعلهم مشركين، وتعرضت عقيدتهم في المسيح للنقد القرآني، حيث قال: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم"(المائدة 17). كما أن الغالبية العظمى من المسلمين تعتقد بتحريف الإنجيل، وببُطلان عقيدة الصلب والفداء. ومع ذلك لم يقل المسيحيون: "لماذا تتعرض المسيحية وحدها للنقد؟" وتعرضت اليهودية أيضا للنقد عبر العصور، وما زالت لذلك حتى الآن. بل هناك مفكرون يهود تركوا اليهودية وانتقدوها علانية مثل اسبينوزا ومردخاي كبلان وغيرهم. وهناك يهود اعتنقوا المسيحية وتركوا التيار التقليدي في اليهودية وصاروا يدعون باليهود المسيانيين، أي اليهود الذين اتبعوا المسيح. فكل الأديان الأخرى تتعرض للنقد. لكن عدم اطِّلاع السائل على ما ينشر في العالم من نقد لكل هذه الأديان يجعله يعتقد أن الإسلام هو محور كل نقد ديني موجود. وبالتالي فإن ما بُني على باطل فهو باطل. فإذا كان الافتراض خطأ، فبقية السؤال خطأ أيضًا. وليس الإسلام محور الكون. وكل الأفكار الموجودة في العالم، بما فيها الأديان، قابلة للنقد . فالمقدس هو مقدس عند من يؤمن به. أما الذي لا يؤمن به فهو حر في انتقاد الفكرة أو العقيدة التي يراها معيبة. ولا ينبغي في رفضه لها أن يتعرض للأذى أو للإرهاب المعنوي والجسدي. وهذا أمر متعارف عليه في منابر الرأي الحر في البلدان المتحضرة. وينبغي أن يتعرض الإسلام، شأنه في ذلك شأن الأديان الأخرى، للنقد حتى نعرف غثه من سمينه.
زاوية السائل:
يتكلم السائل اللغة العربية، وجل ما يطلعه هو باللغة العربية. وبالتالي فإن اطلاعه محصور في ما يراه من فيديوهات وما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي من نقد للإسلام، فيعتقد أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتعرض للنقد. وهو لا يرى الناطقين بالعربية ينتقدون اليهودية أو البوذية مثلا. لكن ما يغفله السائل أن أغلبية المتحدثين باللغة العربية مسلمة، وبالتالي من الغباء أن يوجه شخص نقده إلى أتباع الهندوسية أو البوذية باللغة العربية، لأنهم ببساطة لا يتحدثون العربية ولا يفهمونها. فالذين ينتقدون هذه الأديان يصوغون نقدهم بلغات متداولة عند أتباعها، مثل اللغة الهندية أو الخميرية أو اللغة اليابانية. فمن الطبيعي أن أتوجه بنقدي للإسلام إن كنت أتحدث العربية لأني أعلم يقينا أن أغلبية المشاهدين ستكون مسلمة. وأما نقدي للهندوسية باللغة العربية فسيكون بلا معنى وبلا قيمة، لأنه لن يجد المتلقي الذي من المفترض أن يحدث التغيير عنده.
زاوية الناقد:
إن من يوجهون النقد للإسلام هم خبراء بالإسلام، وقد تكون الخبرة هنا تجريبية أو أكاديمية أو كليهما. فحين أتوجه بنقدي للإسلام، فإني أنطلق من حقيقة أنني كنت مسلما سابقا. ويعني أن خبرتي الأساسية هي بالإسلام حتى لو كنت قد درست أديانا أخرى بحكم دراستي الأكاديمية. وبالتالي، من العبث أن أنتقد الهندوسية أو اليهودية أو البوذية، إذ لم تؤذِني البوذية في أي شيء، ولم تؤذِني اليهودية في أي شيء. وينطبق هذا على الهندوسية والبوذية وغيرها. والذي يطالب بقطع رأسي لأني تركته وارتددت عنه هو الإسلام. وبالتالي، ينبغي أن يوجه نقدي إلى الشيء الذي يمسنى عن قرب واختبرته في حياتي ودرسته كل هذه السنين. فقوتي هي في خبرتي، ولذلك يكون لكلامي أثر عند المتلقي. أما إذا تحدثت عن البوذية، فخبرتي محدودة وقراءاتي محدودة. وبالتالي، لن تُحدث نفس الأثر عند المتلقي (هذا إذا افترضت أني سأتحدث لغته). فمن غير المعقول أن يطلب السائل من مسلم سابق انتقاد البوذية. فالسؤال هنا عبارة عن مجرد محاولة لتغيير الموضوع لا أقل ولا أكثر، لأن الأسئلة التي أطرحها تزعجه وتقض مضجعه. إذ أفْضل له أن يطالبني بالتركيز على أديان أخرى عوض الإسلام لكي يُخرج الإسلام من دائرة الضوء ومن دائرة النقد، في حين أن على الإنسان المؤمن أن يقبل النقد وأن يستمع إليه. فمن شأن هذا إما أن يقوي إيمانه إن كان نقدا خطأً أو في غير محله، أو سينقذه من الدمار إن كان نقدا صحيحا له ما يدعمه من الأدلة والبراهين.
زاوية الدليل
يطرح السائل سؤالا ولا ينتظر جوابه، بل يتخذه حجة على صدق الإسلام، حيث يقول إن نقد الآخرين للإسلام دليل على صدق هذا الدين، فهو الشجرة المثمرة التي تضرب بالحجارة. واستخدام هذا المثل هنا استخدام خطأٌ، لأن المثل لا ينطبق على الأديان والأفكار، فالشجرة المثمرة لا يضربها الناس لكي ينتقدوها أو يلعنوها أو يشتموها بل لكي يستمتعوا بثمارها، فهل الذين ينتقدون الإسلام ينتقدونه لكي يستمتعوا بثماره؟ لو أرادوا الاستمتاع بثماره لاعتنقوه عوض أن ينتقدوه. ليس كل ما ينتقد هو الحق، فنحن في الحياة اليومية ننتقد أشياء كثيرة لأنها لا تعجبنا أو لا تخدمنا، أو لأنها تضرنا، فهل يعني نقدنا للحكومات أو للأنظمة الديكتاتورية أنها على حق؟ هل يعني نقدنا لانتهاكات حقوق الإنسان في العالم أن المنتهكين على حق، وأنهم شجرة مثمرة تضرب بالحجارة؟ ينتقد القرآن نفسه المخالفين الذين يدعوهم بالكفار والمشركين والمنافقين. فهل هؤلاء إذًا هم الشجرة المثمرة التي ضربها القرآن بحجارته؟ لو طبقنا هذا المبدأ لانعكس بشكل مدمر على الإسلام نفسه. فالإسلام انتقد المسيحية في الكثير من آياته ولم ينتقد البوذية ولا الهندوسية. ولو عكسنا منطق السائل، لقلنا: لماذا انتقد القرآن عقائد المسيحية أكثر من أية ديانة أخرى؟ ألا يدل هذا على أنها هي الحق؟ وبنفس المنطق، لا يمكننا انتقاد الشر لأن الشر في هذه الحالة سيكون هو الحق لأننا ننتقده... وهكذا دواليك ... سندخل في دوامة لن نخرج منها.
الخلاصة: على المسلم أن يتقبل النقد في حق دينه بشكل حضاري وأن يرد عليه بشكل حضاري. فقد ولّى زمن التهديد وزمن الهروب من الأسئلة. فالتكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي وفرت كل المقومات لعصر جديد من الانفتاح والمعرفة، ولن يستطيع المسلمون إيقاف هذا التيار الجارف. علينا أن نتقبل النقد في حق معتقداتنا وأن نجيب بكل رقي وأدب إذا أردنا فعلًا أن ندخل القرن الواحد والعشرين.
About the Author
الأخ رشيد:
إعلامي، وكاتب، درس العلوم الاقتصادية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، المغرب، ثم درس الإعلاميات، بعدها حصل على الإجازة في مقارنة الأديان، وحصل أيضا على ماجستير في العلوم السياسية. قدم الأخ رشيد منذ 2006 برامج تلفزيونية، خاصة برنامج "سؤال جريء" الذي تجاوز 550 حلقة، والآن يقدم برنامج بكل وضوح، وكتب ثلاثة كتب لحد الآن: إعجاز القرآن: دراسة وتحليل، داعش والإسلام: من منظور مسلم سابق، مستقبل الإسلام: أركان الإسلام الخفية.