محمد حسين الشيخ
استغرق تحول الشعوب الممتدّة من غرب إيران حتى موريتانيا على ساحل المحيط الأطلسي إلى العربية وقتاً، وساهمت فيه ظروف متعدّدة.
كان لكل بلد ظروف وملابسات في الانتقال من لغته الأصليّة إلى العربيّة، ولكن هناك قرار شمل كلّ الولايات، صدر من الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (26 هـ - 86 هـ / 646 - 705م) بتعريب الدواوين الحكوميّة، في البلاد التي لا تتكلّم العربيّة.
فكان هذا القرار بمثابة اشتراط إتقان اللغة العربيّة، لمن يريد أن يُعيَّن في الوظائف الحكوميّة في الولايات التابعة للخلافة، في مصر والشام والعراق والمغرب وغيرها، وحرمان غيره منها.
لو أخذنا مصر نموذجاً ربّما يمكننا أن نصل إلى تصوّرٍ عام حول كيفية انتقال بلاد الخلافة الإسلاميّة، من لغاتها الأصليّة إلى اللغة العربيّة.. فمتى وكيف انتقلت مصر من لغتها القبطيّة إلى العربيّة؟ وما أسباب هذا الانتقال؟ وما ملابساته ونتائجه؟
متى تكلم المصريون العربيّة؟
من دراسة بعنوان "عندما أصبحت اللغة العربيّة لغة القدّيسين - When Arabic Became the Language of Saints" للباحث في علم المصريّات والتاريخ القبطي بجامعة مونستر الألمانيّة صموئيل معوض، يتضح أن الانتقال تمّ بشكل تدريجي؛ حيث بدأ اللسان العربي غريباً بين الأقباط في القرن السابع الميلادي، ثم اختلط تدريجياً باللسان القبطي، لتنشأ مرحلة صراع بين اللغتين على ألسنة المصريين، الذين ظلّوا لقرون مزدوجي اللغة، ثم انتهى الأمر لصالح العربيّة.
هذا الصراع انعكس أيضاً في القرن العاشر الميلادي، على رجال الدين والكنيسة الأرثوذُكسيّة، التي كان يتبعها أغلب المصريين، حيث بدأت تظهر كتابات دينيّة مسيحيّة باللغة العربيّة، ولكن بشكل فردي من قبل بعض رجال الدين.
ولكن الأمر حُسم تقريباً لصالح اللغة العربية في القرن الثاني عشر، حين تُرجم الكتاب المقدّس إلى العربيّة، أي بعد أكثر من 500 عام على دخول المسلمين مصر. ويشير معوض إلى أن الكنيسة اضطُرّت إلى هذا التحوّل، بسبب نموّ اللغة العربيّة التدريجي في الشارع المصري، مقابل تراجع القبطيّة تدريجياً أيضاً.
إذا تتبعنا رحلة انتقال مصر من القبطية إلى العربية، نجد أن هناك مسارين مضى خلالهما هذا التحول، وهما المسار الشعبي، والمسار الديني الكنسي.
لنبدأ بالمسار الشعبي، ونناقش فيه أسباب التحوّل، والعوامل التي أثرت في كيفيّة حدوثه.
أسباب التحوّل إلى العربيّة
بجانب قرار تعريب الدواوين، وفرض اللغة العربية على إدارة الولايات الإسلاميّة، هناك عاملان أساسيّان تسبّبا في تحوّل المصريين إلى اللغة العربيّة، أوّلهما الدين الإسلامي وتشابكه مع الواقع السياسي والاقتصادي لدولة الخلافة، والثاني هو هجرة القبائل العربيّة.
1-الدين الإسلامي كقانونٍ اقتصادي وقوّةٍ سياسيّة
اللغة العربيّة ضروريّة للمسلم، فهي لغة الصلاة والقرآن والطقوس الإسلاميّة عموماً، وبالتالي كان تعلّمها أو شيء منها، شرطاً لاعتناق الإسلام.
واعتناق الإسلام لم يكن دائماً أمراً طوعياً، فقد كان في أوقات بمثابة إنقاذ من التمييز والتحقير، ومن دفع الجزية التي فرضتها الإمبراطوريّة الإسلاميّة على كلّ من لا يدين بدينها، وبالتالي، يمكن الجزم بأن هناك أناساً تحوّلوا إلى الإسلام كي لا يدفعوا الجزية، على الأقل، ومن ثم تعلّموا "العربيّة".
يقول المؤرّخ المقريزي (1364م - 1442م) في كتاب المواعظ والاعتبار، متحدّثاً عن أسامة بن زيد التنوخي مسؤول جمع الخراج من مصر، في عهد الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك (تولى الحكم من 720 - 724م : 101 - 105هـ:(
"اشتدّ مُتَوَلّي الخراج على النصارى وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديديّة، فيها اسم الراهب واسم ديره وتاريخه، فكل من وجده بغير وسمٍ قطع يده".
ويُضيف: " ثم كبس الديارات وقبض على عدّة من الرهبان بغير وسمٍ، فضرب أعناق بعضهم، وضرب باقيهم حتى ماتوا تحت الضرب، ثم هُدِمَت الكنائس وكُسرت الصلبان، ومُحيت التماثيل...".
وتواترت المصادر التي حكت عن ثورات الأقباط ضد الولاة، الذين غالوا عليهم في جباية الضرائب والجزية، بدءاً من انتفاضات أقباط الصعيد (جنوب مصر)، حتى أقباط الشمال، وعلى رأسهم "البشموريين".
وزمنياً امتدّت هذه الانتفاضات من عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (حكم بين عامي 105هـ/724م و125هـ/743م)، حتى عهد الخليفة العباسي المأمون.
جاء المأمون من بغداد، على رأس جيش لإخماد ثورة البشموريين (سكّان منطقة في شمال الدلتا، تقع بين محافظتي كفر الشيخ والدقهلية حالياً)، بعد أن فشل أكثر من جيش أرسله المأمون في إخمادها. وكان يرافقه مترجم قبطي في بعض الأحيان، كي يستطيع الحديث مع المصريين بلغتهم، ويتضح ذلك في حديث المأمون مع سيّدة قبطيّة تدعى مارية، استضافته في بيتها، بحسب رواية ابن إياس في "بدائع الزهور".
كان ذلك في القرن الثالث الهجري (226هـ تقريباً) والتاسع الميلادي (841م تقريباً)، أي بعد 200 عام تقريباً من الفتح الإسلامي (641م) في القرن السابع الميلادي، ونتأكّد منها أن عوام المصريين كانوا حتى هذا التاريخ لا يتكلمون العربيّة، وأن هذا التاريخ يمكن اعتباره فاصلاً بين عصرٍ من التمرّد، وعصرٍ من الانصياع للدولة، ومن ثم الانخراط في الثقافة الجديدة.
-2 الهجرات العربيّة
لعبت هجرات القبائل العربيّة دورا كبيراً في تسلّل اللسان العربي إلى المصريين، حتى من قبل ظهور الإسلام، كقبائل "كهلان، غسان، لخم، جذام، وعاملة" التي استقرّت في شمال غرب سيناء، وقبيلة "بلي" التي استقرّت في القُصير، وغيرها من قبائل استقرّ أغلبها شرقي مصر من الشمال إلى الجنوب، بحسب ما يذكر أستاذ علم اللغة الشهير أحمد مختار عمر، في كتابه "تاريخ اللغة العربيّة في مصر".
وبعد الإسلام تضخّمت تلك الهجرات بشكلٍ كبير، فقد توافد على مصر آلاف العرب، بدءاً من أفراد الجيش الذي دخل مع عمرو بن العاص، ثم الجيوش التي كانت تأتي لاحقاً في عهود الأمويين والعباسيين، بالإضافة إلى الهجرات الحرّة.
احتكّ الأفراد والقبائل بالمصريين وشاركوهم عيشهم، وبالتالي بدأ التلاقح بين ألسنتهم وألسنة المصريين، ومع الوقت صارت الغَلَبَة للسان العربي، ولكن بلهجةٍ مصريّةٍ متأثرة باللغة القبطيّة القديمة، بحسب مختار عمر.
المسار الكنسي الديني للتحول إلى العربيّة
خلال المرحلة الانتقاليّة من القبطيّة إلى العربيّة، كانت هناك لغتان تتصارعان داخل مصر، ولكن الكنيسة كانت لا تزال على لغتها الأصليّة، واتسمت هذه الفترة بـثلاث سمات، عدّدها صموئيل معوض في دراسته، كالتالي:
-1تراجُع الأدب المكتوب باللغة القبطيّة في القرنين الثامن والتاسع؛ ففي كلا القرنين، لا يُعرف سوى كاتب واحد مشهور؛ فنجد المطران زكريا من سخات ( 725م) في القرن الثامن، والبابا مارك الثاني (799-819) في القرن التاسع.
-2يتحدث الباحث عن نسخ المخطوطات القبطيّة القديمة، على أنه نتيجة للتدهور الأدبي الذي طال القبطيّة، بالاعتماد على نظرية شائعة تقول بأن التمسّك بالتراث يزداد في فترات التدهور، ولكنها نظرية تحتاج إلى تحديث، خاصة في ضوء الدراسات الجديدة عن إنتاج الموسوعات والمصنفات.
وفي هذه الفترة نُسخت اثنتين من أغنى المخطوطات القبطيّة في الفترة في مكتبات اثنين من الأديرة القبطيّة الشهيرة، وهما ما يسمى بـ"الدير الأبيض" في سوهاج، ودير "رئيس الملائكة ميخائيل" في الفيّوم.
3-كتابة العربيّة بالحروف القبطيّة؛ فاللغة العربيّة هي لغة سامية تختلف كلياً عن اللغة القبطيّة، وكحلّ وسط مؤقّت، قام الأقباط بكتابة النصوص العربيّة ولكن بالأحرف القبطيّة لجعلها قابلة للقراءة، ولا تزال بعض شظايا المخطوطات شاهدة على هذه الظاهرة.
ومن المثير للاهتمام أن الأقباط في الوقت الحاضر، الذين لا يستطيعون فهم أو قراءة القبطيّة في الغالب، يستخدمون نصوصاً قبطيّة مكتوبة بأحرف عربية.
وتحتوي معظم الكتب القبطيّة الليتورجية (الطقوسيّة الدينيّة) التي تُستخدم بانتظام في الكنيسة القبطيّة على ثلاثة أعمدة، يحتوي كل منها على نصّ مكتوب بلغة مختلفة: نصّ قبطي، نصّ عربي، نصّ قبطي مكتوب بحروف عربيّة.
في القرن الثاني عشر أصبح من الواضح أن القبطيّة لم تعد اللغة الليتورجيّة (الطقوسيّة الوحيدة)، لأن روّاد الكنيسة لم يعودوا يفهمونها بشكل جيد. هذه الحقيقة دفعت البابا غبريال الثاني بن تريك ( 1131-1145 (، الذي كان يُتقن اللغة العربيّة بفصاحة كما القبطيّة، ويترجم وينسخ من القبطيّة إلى العربيّة، إلى تشجيع الكهنة على تعليم أبنائهم اللغة العربيّة، وحثّ المسيحيين عموماً على تعلّمها، في قرار ربما كان الأخطر على القبطيّة، والأكثر حسماً لصالح اللغة العربيّة.
مقاومة قبطيّة
ما سبق دفع المثقفين الأقباط، خاصّة في القرن الثالث عشر (المعروف بعصر النهضة القبطيّة)، لوضع كُتب تشرح قواعد اللغة القبطيّة، في محاولة للحفاظ عليها.
بدأت هذه الكتابات بالأساس في القرن العاشر، لكنها ازدهرت في الفترة من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر، من خلال سلسلة من المؤلفين، اشتهر منهم الوجيه القليوبي، يوحنا السمنودي، الأسعد ابن العسال، أبو شاكر ابن الراهب، أبو البركات بن كبر.
وجميعهم كانت لغتهم العربيّة ركيكة، وبها خلط أحياناً بين العاميّة المصريّة والفصحى، رغم أنهم كانوا علماء ولغويين، فإن كانت لغة هؤلاء بهذا الشكل فقد كانت لغة العوام (العربيّة) أكثر سوءاً، تأثراً بلغتهم القديمة، بحسب الدكتور أحمد مختار عمر.
وبمرور الوقت، أصبحت المعرفة بالقبطيّة من قبل البطاركة ورجال الدين ذات جودة خاصّة، أكّدها المؤرخون الأقباط، بسبب المؤلفات اللغويّة القبطيّة للعلماء المذكورين. من ناحية أخرى، أثبتت المصادر غير الأدبيّة من القرنين العاشر والحادي عشر أن مصر في ذلك الوقت كانت لا تزال ثنائيّة اللغة؛ ففي هذه الفترة لدينا رسائل مكتوبة باللغة القبطيّة الصعيديّة الجيدة، وكذلك العربيّة، والمثير أن بعض هذه الوثائق القبطيّة كتبها مسلمون، بحسب صموئيل معوض.
ولكن هذه النهضة القبطيّة لم تستطع إيقاف اللغة العربيّة عن تقدّمها في الشارع المصري، بعد أن صارت هي اللغة الأولى بالنسبة له.
التأليف المسيحي (العقائدي) بالعربيّة
من المعروف أن المطران ساويرس ابن المقفع (تـ987م) هو أول عالم لاهوتي قبطي كتب أعماله باللغة العربيّة، حيث كان كاتباً محترفاً قبل أن يصبح راهباً.
ويبدو أن كتاباته بالعربيّة لم تكن بسبب التحوّل الذي بدأ يظهر على اللسان المصري إلى لغة المسلمين فقط، بل كان السبب الأهم هو الدفاع عن المسيحيّة ضد ما يروّجه المسلمون عن ما يصفونه بالانحرافات التي طالت المسيحيّة.
ويركّز الإنتاج الأدبي للأقباط (عموماً) في ظلّ الحكم الإسلامي، على ثلاثة مواضيع رئيسية، هي: دحض تحريف الإنجيل، وشرح الثالوث على أنه متوافق مع وحدانيّة الله، والدفاع عن فكرة تجسيد ابن الله (المسيح)، بحسب معوض.
وفي هذه الأغراض كان ساويرس ابن المقفع رائداً، واستدعى منه ذلك أن يترجم الكتابات الدينيّة للباباوات، من اللغة القبطيّة واليونانيّة إلى اللغة العربيّة، وصياغة مصطلحات جديدة.
في كتابه "مصباح العقل"، يقدم ساويروس ابن المقفع الإيمان المسيحي بالتفصيل، من الثالوث والتجسّد، إلى الصلاة والصوم، والزواج، هذا العمل، كما هو معتاد في ذلك الوقت، يبدأ بسؤال من صديق يطلب من ساويرس أن يوضّح ويبيّن العقائد المسيحيّة أمام "خصوم" الدين المسيحي، بحسب معوض.
ساويرس لم يهاجم عقيدة المسلمين، ولكنه كان يدحض الهجوم الإسلامي على العقيدة المسيحيّة، ولم يذكر في كتابه أنه يردّ على المسلمين، ولكنه يشير إلى كتاب آخر له بعنوان "المجالس"، يوثّق جلساته مع المسلمين ونقاشاته معهم.
وفي كتابه "المجامع" يقول ساويرس إنه لا يقصد ولا يخاطب معارضي الدين المسيحي، ولكنه جهّز الكتاب ردّاً على الأسئلة التي يمكن أن يطرحوها. المثير أن ابن المقفع في الأعمال المذكورة، يدحض عقائد الملكييّن والنساطرة المسيحييّن، باعتبارهم مهرطقة، ويستخدم عبارات إسلاميّة وقرآنيّة في رده عليهم.
الكتاب المقدّس.. متى كتب بالعربيّة؟
كانت الكتابات الطقوسيّة التي تستخدم في الصلوات، وعلى رأسها الكتاب المقدّس نفسه، على درجة كبيرة من الأهمية، ويشير صموئيل معوض إلى أن إرهاصات ترجمة الكتاب المقدّس والكتابات الطقوسيّة إلى العربيّة، بدأت تحبو في القرن العاشر، بترجمة بعض الأجزاء من الإنجيل، واعتمد في هذه الفترة بشكل كبير على الترجمات العربيّة السابقة للكتاب المقدّس، التي قدّمها الملكيّون (من اليونانيّة)، والسوريّون (من السريانيّة)، واليهود المصريّون )من العبريّة).
ولكن أهمّ وأشمل ترجمة مصرية للكتاب المقدّس إلى العربيّة، والتي ترافقت مع تفسير وشرح، كانت في القرن الثالث عشر، وكتبها الأسعد بن العسال، عن ترجمة الراهب بحيرى القبطي التي وضعها عام 1253م.
واستخدم العسال في عمله بالإضافة إلى نصّ الراهب بحيرى القبطي، ترجمات عربية قديمة من اليونانيّة والسريانيّة، ومن كلّ هذه الإصدارات وضع هوامش وتوضيحات، ما جعل عمله من أهمّ الأعمال بالنسبة للأقباط الأرثوذوكس في مصر.
كتابات مسيحيّة أخرى
لم يقف الأمر في الترجمة على اللاهوت والكتابات الطقوسيّة، بل امتد إلى الأعمال التاريخيّة التي اهتمّت بتاريخ الكنيسة نفسها، أو التاريخ الديني المسيحي، والتي حازت اهتمام الأقباط أكثر من التأريخ العلماني، ولعل أوّلها كان عام 1088، حين جمع الشماس السكندري، موهوب بن منصور بن مفرج، النصوص القبطيّة المتعلّقة بـ "تاريخ الكنيسة"، وترجمها إلى العربيّة.
كذلك ظهرت أعمال عن القوانين الكنسيّة، وموسوعات للأعمال الطقوسيّة (الترانيم والأناشيد وخلافه).
تراجع القبطيّة ونهاية العالم
وربما كان من الأعمال التي كُتبت بالعربيّة وكانت في غاية الإثارة هي الأعمال الخاصّة بنهاية العالم.
يقول صموئيل معوض: استغرق الأمر من الأقباط وقتاً طويلاً ليستوعبوا أن العرب ليسوا مجرّد مستعمرين يطمعون في نهب الأراضي، وأن لديهم هدفاً واضحاً وهو نشر دينهم ومن ثم لغتهم.
ولكن حين تيقنوا من ذلك، ومع عجزهم عن تغيير واقعهم بالثورات والانتفاضات، ظهرت لديهم مقاومة من نوع آخر، تمثّلت في كتابات "الرؤى النبوئيّة" الخاصّة بنهاية العالم.
يحتفظ الأدب العربي - القبطي بأمثلة مثيرة للاهتمام لنوعيات نهاية العالم، كتبها مؤلفون مجهولون، قصدوا عمداً أن يخفوا أسماءهم وينسبوا أعمالهم إلى قديسين مشاهير مثل أثناسيوس (328-73)، وصموئيل القلموني (ت 695 (، ربما ليعطوا لكتاباتهم مصداقية بين القرّاء المسيحيين، ولحماية أنفسهم من أي عقاب محتمل من الإدارة الإسلاميّة.
كانت هذه الأعمال في جوهرها محاولة قبطيّة لتقييم الحكم الإسلامي في مصر، وإعادة كتابة تاريخهم (الماضي)، ووصف واقعهم، والتعبير عن رغباتهم للمستقبل.
العمل الرئيسي حول نهاية العالم ينسب إلى صموئيل القلموني، وفكرته الرئيسيّة تقوم على أن تراجع اللغة القبطيّة في مصر، حتى داخل الكنائس والأديرة، هو نبوءة على نهاية العالم، وبناءً على ذلك لابد أن يعود الناس إلى دينهم الحقيقي قبل هذه النهاية.
ومن المثير أيضاً وجود نصّ في رسالة منسوبة إلى الأسقف بيسينتيوس، يتنبّأ فيها (المؤلّف المجهول) بعودة الحكم البيزنطي إلى مصر، والوحدة بين الملوك المسيحيين في بيزنطة وإثيوبيا.
والواقع أن هذه النبوءات كانت بمثابة أماني لكُتّابها، نابعة من واقع قبطي مسيحي حزين، مستغرق في حلم خيالي، يتأرجح بين الحنين إلى الماضي، وامتلاك المستقبل.