بقلم د. عماد بوظو
في آذار/مارس 2001 قامت حركة طالبان في أفغانستان بتفجير وتدمير تمثالين لبوذا يعتبران من أندر الآثار البوذيّة وأضخمها. يعود تاريخ بينائهما إلى النصف الأول من القرن السادس الميلادي في منطقة باميان الّتي كانت تقع على طريق الحرير التاريخي. قبل ذلك، في عام 2000 حظرت حركة طالبان جميع أشكال الصور والرياضة والموسيقى بما في ذلك التلفزيون، وقال وزير الإعلام والثقافة في حركة طالبان جمال قدرة الله إن قرارا "صدر بإجماع 400 رجل دين من مختلف أنحاء أفغانستان بأن التماثيل ضد تعاليم الإسلام". استغرقت عملية تدمير التمثالين عدّة أسابيع واستخدمت فيها أسلحة ومتفجرات مختلفة. و بعدها صرّح الملّا عمر قائلا: "يجب على المسلمين أن يفخروا بأننا حطمنا لهم التماثيل ويحمدوا الله".
في شهر شباط/فبراير 2015 أذاع تنظيم داعش مقطع فيديو ظهر فيه مسلّحون من التنظيم في متحف الموصل وهم يحطمون التماثيل الأثرية التي يصل عمر بعضها لخمسة آلاف سنة، لقطع صغيرة حتّى لا يتم إصلاحها. وفي تسجيل آخر يظهر عنصر من داعش وهو يستخدم مطرقة كبيرة لتحطيم تمثال الثور المجنح في المنطقة الأثرية في المدينة. و كرّر داعش العمليّة ذاتها في مدينة تدمر في سورية بما فيها من أعمدة تاريخية ومعابد ومدافن. وكان مسلحون يعتقد أنهم تابعون لجبهة النصرة قد قاموا بقطع رأس تمثال لأبي العلاء المعرّي في مدينته معرّة النعمان في بدايات عام 2013، وهناك عشرات الأمثلة المشابهة التي حصلت في مناطق وتواريخ مختلفة تدور حول تحطيم التماثيل والقبور وإحراق الصور باعتبارها من المحرّمات في الإسلام.
يستند هؤلاء في أفعالهم هذه على مجموعة من الأحاديث للبخاري ومسلم، منها "أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" و"إن أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم" ومثل "ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرّة أو فليخلقوا حبّة أو فليخلقوا شعيرة"، وفي صحيح البخاري "أشدّ الناس عذابا يوم القيامة المصوّرون" وفي الترمذي حديث يضع المصوّرين مع المشركين و مع الجبار العنيد الذين ينالون أشد العقاب. وهناك حديث يقول "إنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، ولا صورة، و لا تماثيل، ولا جنب"، ويتناول هذا التحريم حسب شرح علماء الحديث كل أشكال الرسم والنحت والحفر النافر لأي كائن فيه روح إنسانا كان أو حيوانا، ولا يقتصر هذا التحريم على المسلمين، أي أن العقوبة تشمل كل رسام أو نحات بغض النظر عن أصله و معتقداته، وأن من الواجب على المسلمين تحطيم هذه الأعمال.
بالإضافة للأحاديث هناك آية واحدة يرى بعض الباحثين أنها تتعرض لهذا الموضوع وهي سورة المائدة 90: (يا أيها الّذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون). يقول بعض المفسرين أنّ الأنصاب كانت حجارا تنصب فوق بعضها يتم التقرّب إلى الله من خلالها في الجاهليّة وتذبح الأضاحي عليها، ولا نجد في هذه الآية ما يدل صراحة على هذا التحريم القطعي الذي تناقلته كتب الحديث، ولا تذكر المراجع الدينيّة أي آية أخرى يمكن الاستدلال منها على تحريم للرسم والنحت أو ما يماثلهما.
اعترضت مراكز إسلاميّة مختلفة على تدمير حركة طالبان تماثيل باميان، وكان أهمّها زيارة وفد من المؤتمر الإسلامي برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي لأفغانستان لمطالبة حركة طالبان بالتوقّف عن تدمير ما تبقّى من التماثيل، و قد أوضح لهم القرضاوي أنّ تحطيم "صنم" بوذا سوف يترتب عليه أخطار تحدق بالأمة كلها وخاصة الأقليات المسلمة التي تعيش بين البوذيين، وخاطب حركة طالبان بقوله: "بعد معاداة الغرب لماذا تعادون الشرق وهم كثرة وأنتم محتاجون لهم سياسيا واقتصاديا". هذه الحجج التي ساقها القرضاوي لم تكن اعتراضا من حيث المبدأ على تدمير التماثيل، غير أنّه تساءل أمامهم لماذا لم يتم التعرّض لكل الأوابد والآثار الكبيرة في مصر والعراق وسورية وكل البلاد التي دخلها المسلمون ولماذا أبقى عليها الصحابة الأوائل و تابعوهم؟. لكن هذه التساؤلات لم تكن كافية للشيخ القرضاوي ولا غيره للتشكيك بصحة هذه الأحاديث التي لا تتماشى حدتها مع محافظة المسلمين على آثار الحضارات السابقة. و إذا استمرّ التعامل مع هذه الأحاديث باعتبارها صحيحة فلن يكون من المستغرب تكرار حوادث تحطيم التماثيل والرسوم.
أضاف اختراع التصوير الفوتوغرافي في القرن التاسع عشر تحدّيا جديدا لرجال الدين المسلمين حول موقف الشرع من هذا الفن الجديد، وقد وصل أغلبهم في النهاية إلى نتيجة مفادها أن الصور الشخصية للوثائق الرسمية مثل شهادات السوق أو وثائق إثبات الشخصية لا مفرّ من استخدامها على مبدأ الضرورات تبيح المحظورات، أمّا صور الذكريات والأفراح وأمثالها فكثير من الفقهاء يرون أنها حرام بما فيها صور الراحلين من العائلة، ويجب إتلافها حسب رأيهم. وعندما أتى بعدها التصوير السينمائي والتلفزيوني والذي يوثّق الأشخاص خلال حركتهم وفعالياتهم المختلفة، استمر قسم من علماء المسلمين على فتاويهم السابقة وهي أنّ الأساس في حكمها هو التحريم إلّا للضرورات. وذهب بعضهم إلى واجب تحطيم أجهزة التلفزيون وأمثالها درءا للشبهة. واليوم لا نعرف رأي السادة العلماء بأجهزة التليفون المحمول الّتي يقوم فيها كل شخص بتوثيق فعالياته ومشاهداته عبر الصور الثابتة والمتحرّكة عدّة مرات في اليوم الواحد، وتجعله بالتالي حسب هذه الأحاديث مرتكبا لإحدى الكبائر ومشمولا باللعنة. ثمّ إذا كان السبب وراء تحريم النحت والتصوير هو استنكار محاولة الفنّانين مضاهاة خلق الله، فما هو حكم صناعة واستخدام الإنسان الآلي أو الروبوتات التي تتطور مهاراتها يوميا وتقوم بخدمات متنوعة وفي بعض المجالات لا يمكن للإنسان الاستغناء عنها؟
رغم كل هذه التطورات الكبيرة لم نلمس حتى اليوم ما يدل على وجود رغبة لدى المراكز الإسلاميّة الكبرى في مراجعة وإعادة قراءة كتب السيرة والحديث ومناقشتها بروح العصر وإغلاق الباب أمام التفسيرات والفتاوى المتطرّفة والغريبة التي تصدر بكثرة هذه الأيّام. ومن المفارقات أنّ أغلب الدول الإسلاميّة التي يصدر رجال الدين فيها الفتاوى القاطعة بتحريم الرسم والتصوير هي نفسها التي تنتشر صور زعمائها في كل شوارعها وساحاتها ووسائل إعلامها، ويقوم نفس رجال الدين فيها بتبجيل هؤلاء الزعماء في خطبهم وأحاديثهم و يقولون لأتباعهم إن طاعة هؤلاء الزعماء واجب عليهم.