محمد المحمود:
تحت وطأة ضرورات التعايش المشترك التي فرضها الواقعُ التواصلي الحديث، تكثر اليوم دعواتُ التسامح التي ترى ضرورة تجاوز الخلافات وإرث الصراعات بين المذاهب الإسلامية داخل دائرة الإسلام، وأيضا، بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، أو حتى من غير المؤمنين بأي دين.
تجاوز الخلافات المطلوب هنا يكون بالطبع، وِفْقًا لتوجهات المُنَظِّرين وظروفهم الموضوعية، بأحد مسارين: إما بالصمت عن وقائع الخِلاف والكف عن ذكر تلك التصوّرات التي تقع على حدود التمايز العقدي والفقهي، وإما بتقديم نقاط الالتقاء المشترك، الفكري والعملي، بوصفها سقفًا أعلى لإئتلافٍ تضامني بين المُخْتلفين.
تكثر اليوم دعواتُ التسامح، وتتصاعد نبرتها، وتتعدّد مجالاتها، وتُعقد لها المؤتمراتُ والندواتُ، وتجتمع لأجلها الهيئات الإفتائية، والمؤسسات الدعوية، وتصدر عنها البياناتُ تلو البيانات، والتوصيات تلو التوصيات، بل وربما تصدر عنها بعض التشريعات القانونية. ولكن، بعد كل هذا الزخم التسامحي المعلن مُتعدِّد الفعاليات، لا نجد لذلك أثرا عمليا في الواقع؛ إلا عند أولئك المقتنعين بها سلفا، أو عند أولئك "البسطاء الطيبين" الذين من طبعهم التسامح؛ مهما كان صخب الأدبيات الإقصائية رائجا في محيطهم الاجتماعي.
هكذا يبدو الحال؛ وكأن دعوات التسامح تُحَاول أن تُقْنِع من هو مقتنع بها، وكأنها تُخَاطِب نفسها. بينما الجماهير الكبيرة، والأغلبية الساحقة من عموم المُتديّنين مُسْتَهلِكون لخطاب آخر، مُقتَنِعون به أشد الاقتناع، ولا يكاد "خطاب التسامح" المعلن هذا، خطاب ذو طابع ترويجي، يؤثر فيهم شيئا.
وهنا يأتي السؤال المحوري الذي يُشَكِّل الفكرة المركزية لهذا المقال: لماذا يكون خطابُ الكراهية والإقصاء مُقْنِعا لعموم المُتَديّنين في العالم الإسلامي؛ بينما خطاب التسامح يبدو وكأنه "فاصل إعلاني" لعلاقات عامة عابرة؟
السبب كبير جدا، وربما هو غامض، حيث يبدو وكأنه مُعَقَّد لِتَعدّد أبعاده وَحَيْرة مُرْتَادي عوالمه، ولكنه، في الحقيقة، بسيط جدا لمن يمتلك شجاعة مواجهة "الحقائق المكروهة".
هذه "الحقائق المكروهة" ليست أكثر من حقيقة: أن التراث الإسلامي في زخمه الأكبر المُشَرْعِن لواقع المسلمين اليوم ينهض على مخزون هائل من مقولات النبذ والإقصاء والتحقير للآخر المختلف، وصولا إلى الضليل والتكفير. هذا لمن هم داخل دائرة الانتماء الإسلامي، فما بالك بغيرهم!
ماذا يعني هذا التوصيف؟ يعني بكل وضوح، أن مقولات النبذ والإقصاء...إلخ، تنهض على أساس راسخ تتشرعن به في وَعي عموم الجماهير، بينما مقولات التسامح وأدبيات قبول الاختلاف، تفتقد للحد الأدنى من المشروعية التراثية المُمْتدّة لأكثر من ثلاثة عشر قرنا.
وليست المشكلة هنا فحسب، وإنما المشكلة حقا وبدرجة أساسية ـ تكمن في أن أصحاب مقولات التسامح المعاصرين يأخذون مشروعيتهم الدينية حصرا من تأكيدهم المتواصل على الانتماء الولائي العقائدي لتراث الإقصاء، بل ولِتُراثِ الإقصاء في أشد صوره نبذًا ونفيًا وإقصاء.
كل داعية تسامحٍ تقليدي يتبجّح اليوم بدعاوى التسامح؛ إنما يقف على قمّة هرمٍ كبير من تراث إقصائي خطير. هذا الداعية ـ وأمثاله من مؤسسات وتيارات وأحزاب وأفراد، يُرِيد منك أن ترى طرفَ إصبعه المشير إلى فضيلة التسامح، المشير إلى التسامح في اضطراب واضح، وأن تُغْمِضَ عَيْنيك، في الوقت نفسه، متجاهلا ذلك الهرم التراثي الإقصائي الذي يقف عليه كيما يصل صوته إلى جماهير المتدينين. إنه يقول بطرف لسانه، على حين ظرفٍ اضطراري، وربما إكراهي، شيئا طارئا، بينما يقول شيخه وشيخ شيخه...إلى الشيخ السابع والأربعين في السند المقدس، شيئا آخر مختلفا تماما. فمن يُصدّق، وبمن يثق عُمومُ المُتديّنين؟
قبل خمسة عشر عاما كنت أحاوِرُ مجموعةً من المتديّنين، وأحاول إقناعهم ببعض مقولات التسامح التي تتضمّن الحدَّ الأدنى من التعايش بسلام بين طوائف المسلمين. وكي أكون مُقْنِعا، استعنت في تأكيد تلك المقولات التسامحية ببعض ما صدر عن شيخ أزهري تمتّع بقدر من الانفتاح التسامحي (طبعا، متسامح في حدود رؤيته التراثية، واستشهادي به للإقناع به، لا للقناعة به)، ولكن هؤلاء المتدينين لم يقتنعوا باستشهادي، وقالوا صراحة: هل نقتنع بالكلام الطارئ لهذا الشيخ أم نقتنع بكلام ابن كثير وابن حزم وابن تيمية وأحمد بن حنبل والشافعي وسفيان الثوري وأبي زرعة وابن عيينة والبربهاري...إلخ ؟ قالوا لي، بكل عناد: هل كل هؤلاء الكبار على خطأ، بينما هذا الشيخ الأزهري المعاصر هو الذي وقع على الصواب بعد أربعة عشر قرنا؟
كان من الواضح أن اعتراضهم يَستند على رؤية لها مشروعيتها في حدودها. اعتراضهم مشروع، بل ومشروع جدا؛ من حيث كون تراث كل هؤلاء محل تمجيد وتعظيم، بل وتقديس، وهذا الشيخ الأزهري يُقِرُّ ويَعترف بقداستهم. هذا الشيخ الذي خرج برأي يُخَالف فيه أهم مقولات أسلافه المعتبرين، فعل ذلك؛ دون أن يُفنِّد مشروعية أقوالهم، ولو في حدود موضوعه الخاص: النبذ والإقصاء.
تراث الإقصاء هو السائد. فالإمام الشافعي ومركزيته في التراث السني لا تخفى على أحد. عندما اختلف مع بعض المسلمين في بعض المسائل الدينية؛ قال فيهم : حكمي في أهل الكلام: أن يُضْربوا بالجريد والنعال، ويُحْمَلوا على الإبل، ويُطَاف بهم في الأسواق والعشائر، يُنَادَى عليهم ويُقَال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على علم الكلام.
أحمد بن حنبل الذي يُطلِق عليه المتعصبون له لقب (إمام أهل السنة)؛ عندما اختلف مع الحارث المحاسبي، أحد رجال الدين السنة المُتَزهّدين، قام أحمد بهجره، بل ودعا الناس إلى هجره وعدم مجالسته، وحذّر من الأخذ عنه ومن قراءة كتبه، حتى تجنّبته العامة، ومارس عموم الحشوية بحقه أشد درجات الإقصاء؛ اتباعا لتعليمات أحمد. ولهذا عندما مات الحارث لم يحضر جنازته إلا أربعة فقط؛ لأن الهجر والإقصاء كان يعني النبذ في الحياة وبعد الممات؛ إمعانا في النفي والتحقير والتجريم.
ما فعله أحمد بن حنبل مع رفيقه في المذهب السني، الحارث المحاسبي، ليس شيئا عابرا، ليس حدثا ظرفيا، ليس خطأ خاصا، بل هو منهجية عامة في الإقصاء، منهجية عامة سيتصبح هي السائدة في التراث؛ وإلى يومنا هذا. قال ابن قدامة في المغني: "قال أحمد: أَهْلُ الْبِدَعِ لَا يُعَادُونَ إنْ مَرِضُوا، وَلَا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ إنْ مَاتُوا. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ".
وفي الإبانة لابن بطة نقرأ هذا الخبر أو الأثر: رأى يونسُ بن عبيد ابنَه خرج من عند صاحب هوى [يقصد: من عند أحد رجال الدين المختلفين معه في بعض التفاصيل الهامشية]، فقال: يا بني! من أين جئت؟ قال: من عند فلان. قال: يا بني لَأن أراك تخرج من بيت خنثى أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان، ولأن تلقى الله يا بنيّ زانيا سارقا فاسقا خائنا أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان.
هكذا، يزجر رجلُ الدين النموذجي في التراث الأثري ابنَه عن التسامح، مُبَيّنًا له كيف يكون مجرد "التسامح العابر" مع المُخَالفين "جريمة كبرى أو ذنبا كبيرا"، حتى ولو كان التسامح هنا مجرد الجلوس معهم. وإمعانا في تجريم التسامح، يُضَخِّم له حجم المعصية التي ارتكبها بمجرد جلوسه مع مخالف، حتى يصبح هذا التسامح العابر البسيط (زيارة المختلف في تفصيل ديني) أشدّ إثما أو جُرما من ارتكاب أكبر وأشنع المعاصي في التصوّر الديني الإسلامي (الزنى واللواط والسرقة والخيانة)!!!
ومرة أخرى، هذا ليس رأيا عابرا لرجل دين عابر، بل هو مَنهجيّة مُتَوارَثة بوصفها أهم شروط الصفاء الديني أو العقدي. قال ابن قدامة في لُمعة الاعتقاد: "ومن السنة: هجران أهل البدع ومباينتهم. وقال أحد الأعلام الكبار في التراث: وإذا رأيت الرجل رديء الطريق والمذهب، فاسقا فاجرا، صاحب معاص، ضالا، وهو أهل السنة فاصحبه، واجلس معه فإنه ليس تضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل مجتهدا ـوإن بدا متقشفا محترقا بالعبادةـ صاحب هوى، فلا تجالسه، ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه ولا تمشِ معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته فتهلك معه.
لاحظ أن كل ما سبق هو مُفَاصَلةٌ وإقصاءٌ داخل المذهب الواحد، داخل المذهب السني. بل لقد وصل الأمر، بعد تصعيد الآراء إلى معتقدات، إلى الإقصاء المتبادل داخل التيار السلفي الأثري الذي كان من قبل يُفاصِل مع الآخرين. ولهذا، يتحسّر السلفي الأثري، ابن قتيبة على رفقائه السلفيين الذين بدأ بعضهم يُقصي بعضا بسبب مسألة هامشية جدا، فيقول: "إلى أن كادهم الشيطان بمسألة لم يجعلها الله تعالى أصلا في الدين، ولا فرعا، في جهلها سعة وفي العلم بها فضيلة، فنمى شرها، وعظم شأنها حتى فرقت جماعتهم وشتتت كلمتهم ووهنت أمرهم وأشمتت حاسديهم وكفت عدوهم مؤنتهم بألسنتهم وعلى أيديهم فهو دائب يضحك منهم ويستهزئ بهم حين رأى بعضهم يُكَفّر بعضا، وبعضهم يلعن بعضا ورآهم مختلفين وهم كالمتفقين ومتباينين وهم كالمجتمعين"، ثم يذكر كيف بدأ بعضهم يختبر بعضا في هذه المسائل الهامشية جدا، وكيف أصبحوا يُقِيمون عليها "الولاء والبراء".
هكذا يبدو التراث، التراث الذي يَسكت عنه اليوم دعاةُ التسامح؛ دون أن يقولوا شيئا ذا بال بحقه. نحن وإياهم أمام سؤال حاسم: هل ما قاله وفعله هؤلاء الرموز الكبار في التراث الديني صواب أم خطأ ؟ لا يمكن أن يكون كل ما قاله هؤلاء صوابا، ثم يكون "التسامح العابر" لدعاة التسامح المعاصرين صوابا أيضا. الضدان لا يجتمعان، والمُتديّن يقرأ ـ ويُقْرَأ له في سياق تقديسي ـ كلَّ ما سبق وأمثاله من الأدبيات التي تمتلئ بها كتب التراث على امتداد مجلدات كاملة، فهل يهدم كلَّ هذا التراث فتوى مستحدثة أو عابرة، هي أقرب إلى "التصريح الصحفي" في ندوة علاقات عامة؟ أم لابد من نقد هذا التراث وتفكيكه والكشف عن المغالطات والتعصّبات، وتحليل دوافعها الذاتية والموضوعية: التاريخية والمجتمعية، ثم وصمها صراحة؛ دون تزييف من توفيق أو تلفيق، بأنها أخطاء كارثية، وأوهام قاتلة، لا سند لها من مشروعية النصوص الأولى؟