علي أبو الخير:
بعد الجدل والنقاش الحاد بين كلٍّ من الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، والدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، وبعد أن هدأت التعليقات حول ما حدث، رأينا أن نكتب تعريفًا عن المذهب الأشعري، الذي يدين به الأزهر الشريف، وبالتالي الحديث حول الصراع بين العقل والنقل، وهو صراع لا يخبو، بين أهل الرواية وأهل الدراية، بين التجديد والتقليد، ولا نعتقد أنه يخبو، ولكن الأمل يظل قائمًا في فصل الدين عن السياسة؛ لتشكيل وتأسيس الدولة المدنية الحقيقية، مع ملاحظة أن أهل النقل دائمًا ينتصرون؛ لأنهم في النهاية يريحون ضمائر المؤمنين، حتى لو كان إيمانهم مجرد أشكال ومظاهر للإيمان دون الجوهر، ولذلك لم يعِش أي مذهب عقلي على المستوى؛ لأنه لم يؤسس مذهبًا فقهيًّا، إلى جانب اعتماد أهل النقل على السلطات لخضوع المؤمنين لسلطانهم، وهو اليمين الديني القائم على الطاعة، طاعة ولاة الأمور من أول رب أسرة حتى القائم بالملك أو الرئاسة.
أوّل ما يقابلنا هو مصطلح "أهل السنة والجماعة"، وهو يعني المسلمين من أهل السنة فقط، وهو أيضًا ما يمكن اعتباره كتفًا قانونيًّا للشيعة والخوارج بالمنطق الرياضي؛ ولكنه كتف دموي بالمنظور السياسي المتأسلم، والمصطلح تمت صياغته في العصر العباسي؛ للتفريق بين مدرستَي الخلافة السنّية والإمامة الشيعية، وكان لابد من صياغة تمنح الخلافة شرعية دينية، ولكن داخل هذا الإطار الشرعي الديني، حدث خلاف حاد بين العقل والنقل داخل البيت السنّي، عندما اعتمد الخلفاء العباسيون المأمون والمعتصم والواثق مذهب المعتزلة العقلي، واضطهدوا علماء السنة؛ لإجبارهم على القول بخلق القرآن، أشهرهم الإمام أحمد بن حنبل، الذي قيل عنه إمام أهل السنة، ولكن الحنابلة ردوا الصاع صاعَين للمعتزلة، بعد أن تمكنوا منذ خلافة الخليفة المتوكل، فطاردوا وقتلوا وسجنوا المعتزلة جميعًا، وخمد أي صوت للعقل، وبناء على النقل بدأ اضطهاد باقي الطوائف من شيعة وإباضية وزنوج وحدث تفريق بين العرب وغير العرب من المسلمين؛ فبدأ الانهيار يدب في أركان الدولة الإسلامية، فحدثت ثورات وانشقاقات وتأسيس إمارات.
في ذاك الوقت، ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري، الذي وُلد عام 260هـ وتوفى عام 324هـ، وزعموا أنه كان من المعتزلة أربعين عامًا ثم انقلب عليهم، وأسس مذهبه الأشعري، وزعموا أنه تتلمذ على يد شيخ المعتزلة أبي علي الجبائي، الذي ولد عام 235هـ وتوفى عام 303هـ، وهنا نلاحظ عدم الدقة في التاريخ والمذهب نفسه؛ لأن المعتزلة كانوا قد اختفوا تقريبًا، ولم يكن أحد منهم يستطيع تدريس الاعتزال، هذا فضلًا عن أن مدة الأربعين عامًا مدة مبالغ فيها لو كان الأشعري على مذهب الاعتزال؛ لأنه مات وعمره 62 عامًا، عاش فيها بمذهبه الجديد عشرين عامًا، وبالتالي لا يمكن تصديق أنه ظل عمليًّا أربعين عامًا إلا لو افترضنا بفذلكة أنه كان من المعتزلة قبل أن تحمل أمه به، كما لا يؤثر عن الأشعري أنه ألّف كتابًا للدفاع عن المعتزلة طوال الأربعين عامًا، مثل أوائل المعتزلة كواصل بن عطاء والكندي؛ فالقصة كلها ملفقة تلفيقًا سياسيًّا، من أجل الهجوم على المعتزلة أصحاب العقل، أو أحرار الإسلام كما أطلق عليهم الدكتور أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام".
ظهر الأشعري في العصر العباسي الثاني، وهو عصر الضعف، وعاصر ثلاثة من الخلفاء، الأول هو المعتضد، توفى عام 289هـ، وهو زوج قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون، فأفلس الدولة بجهاز عروسه، وأفقر خزانة مصر، عندما أجبر خمارويه على الإنفاق على قطر الندى في رحلتها من مصر إلى العراق، أما الخليفة الثاني فهو المقتدر توفى عام 320هـ، الذي منع بيع كتب الفلاسفة والاعتزال وما شاكلها ومنع القصاصين والمنجمين من القعود في الطريق، والخليفة الثالث كان القاهر، الذي كان كما ذكروا أهوج، سفاكًا للدماء، قبيح السيرة، كثير التلون والاستحالة، وتوفى عام339 هـ. ولم يؤثر عن الأشعري أنه انتقد أي خليفة منهم، رغم سيرهم الملوثة المدونة في كتب التاريخ؛ فكان حليفًا سياسيًّا قبل أن يكون فقيهًا دينيًّا.
ومن أجل أن تكتمل الصورة، فقد ظهر مصطلح الجماعة مع مصطلح أهل السنة؛ حيث ظهر مصطلح أهل السُّنة والجماعة، بحيث بات على كل المسلمين عدم الانشقاق عن الجماعة، واستتبع ذلك إحياء ونشر الأحاديث التي تحرض على ضرورة طاعة الأمراء والخلفاء والسلاطين، وعدم مفارقة الجماعة الإسلامية، وإذا مات المسلم وهو لم يبايع خليفة، تكون ميتته كمن مات على الجاهلية.
ورغم اقتناعنا بأن الأشعري لم يكن معتزليًّا، لكن يُحسب له أنه ظهر وسيطًا بين العقل والنقل، فابتعد عن الحشويين القدامى، أو الوهابيين الجدد، وحاول التوفيق بين النص والعقل، وهو منطق التأويل، فبينما يقول الوهابيون إن الله له يد ورجل وعين وساق، يتأول الأشعري بأن تلك الألفاظ تدل على القدرة والشدة والأمر الإلهي، كما يُحسب للأشعري أنه لم يطلق فتاوى التكفير على مَن خالفه الرأي، وترك الأمر لله في الآخرة وليس في الدنيا، وهو أمر حميد في كل الأحوال.
ولكن هذا ليس فقط سبب انتشار المذهب الأشعري، فقد أسفرت السنون في ما بعد على انتشاره في العقيدة انتشارًا كاسحًا، فقد نشأ المذهب في حاضرة الخلافة العباسية "بغداد"، وبرعاية الخلفاء والوزراء ورجال الدولة كلهم، ومن أبرز هؤلاء الوزير "نظام الملك" الذي تولى الوزارة لسلاطين السلاجقة، الذين حكموا باسم الخلافة، وأسسوا الدولة التركية الحالية، فتولى "نظام الملك" الوزارة لإلب أرسلان وملكشاة مدة ثلاثين سنة، ومنهم نور الدين محمود زنكي، أما صلاح الدين الأيوبي، الذي قضى على الدولة الفاطمية، فقد نشر وأجبر الناس على اعتناق المذهب الأشعري في العقيدة، والمذهب الشافعي في الفقه، يقول المقريزي: "وأما العقائد، فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر كالمدرسة الناصرية، بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عرفت بالشريفية"، ثمّ اعتمد المماليك بعد الأيوبيين على الطرق الصوفية وهي أشعرية العقيدة أيضًا، ودام الأمر في أثناء الخلافة العثمانية، ومن أسباب انتشار المذهب الأشعري أن كثيرًا من العلماء اعتمدوه ونصروه؛ خصوصًا فقهاء الشافعية، مثل، دون ترتيب، البيهقي والإسفراييني والشيرازي والجويني والقشيري والبغدادي والغزالي والرازي والسيوطي والعز بن عبد السلام.. وغيرهم كثير، ولم يكن هؤلاء أشاعرة فقط، بل كانوا مؤلفين ودعاة إلى هذا المذهب، وقد ألَّفوا كتبًا عديدة، وتخرج على أيديهم عدد كبير من التلاميذ، وفي العصور التالية كان لتبنِّي كثير من دور العلم والجامعات عقيدة ومذهب الأشاعرة دور في نشره، ومن أهمها الجامع الأزهر في مصر، بما له من مكانة علمية في العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي ما زال قائمًا حتى اليوم، يدافع عنه شيوخ الأزهر وشيوخ الطرق الصوفية معًا؛ بحيث صار تقديس المذهب الأشعري فريضة على المؤمنين، وهو ما أسفر عن صدام بين الخشت والطيب.
ومن الضروري القول إن انتشار الفقه السلفي الوهابي خلال الأربعين عامًا الماضية أثّر على الفكر الأشعري، غزا جوامع الأزهر والزيتونة والقرويين، وانتشر معه فكر التكفير وظهرت جماعات القاعدة وبوكو حرام وداعش.. وغيرها؛ كلها تزعم أنها تمثّل سيرة السلف الصالح، لكن الوهابية بدأت تموت في ديارها وتخمد في أطرافها، فعاد دور الأشاعرة من جديد لحراسة التراث النقلي، صحيح أنه ليس تراثًا تكفيريًّا محضًا؛ لكن أيضًا يقود إلى الجمود، وهو ما لا يريده أحد من مثقفي الأمة دون فقهائها..