رُهَاب نقد التراث - مقالات
أحدث المقالات

رُهَاب نقد التراث

رُهَاب نقد التراث

محمد المحمود:

 

أقام "الأزهر" أواخر الشهر الماضي مؤتمرا عالميا لتجديد الفكر والعلوم الإسلامية. هكذا كانت الواجهة الإعلانية عن المؤتمر الأزهري العالمي. والأزهر ـ كمؤسسة دينية سنيّة ـ يعده كثيرون من أكثر المؤسسات الدينية الإسلامية اعتدالا؛ فضلا عن كونه ـ في نظر الأغلبية الساحقة من المسلمين ـ هو المرجع الإسلامي، أو هو الممثل الشرعي لرأي الإسلام/ المسلمين.

مكانة الأزهر هي مكانة دينية إسلامية سامقة (تضارع مكانة الفاتيكان للمسيحيين الكاثوليك)، تعزّزت بفعل العراقة وبفعل التاريخ الطويل الذي لا تُكْتَسب القداسة إلا من خلاله، ومن خلال الدور المحوري له في تغذية كثير من بقاع العالم الإسلامي بالفقهاء/ الدعاة/ الباحثين في العلوم الإسلامية على امتداد القرن الميلادي المنصرم/ القرن العشرين.

لا ريب أن الأزهر يُمثّل خطا إسلاميا تسامحيا؛ قياسا ببقة المؤسسات الدينية التقليدية المنتشرة في العالم الإسلامي. أقول: قياسا ببقية المؤسسات؛ وإلا فهو ـ في الأصل، وفي المُؤدّى النهائي ـ مؤسسة دينية تقليدية، يمتاح مجمل تصوراته الحاكمة من تراث ماضوي قروسطي، يحمل خصومة ـ ضمنية ـ لمجمل التصورات الحداثية التي تحكم عالمنا الحديث.

هل يمكن التجديد/ التطوير؛ دون إعمال معاول الهدم/ التفكيك في البُنَيّات الصَّلْدة للموروث الديني القديم، هذا الموروث الضخم الذي يأخذ بتلابيب الوعي الإسلامي اليوم؟ هنا، لن أذكر: ابن المبارك، ومالك، والثوري، وأبا زرعة، وابن عُيَينة، وابن حنبل، والبربهاري، وابن بطة، وابن تيمية...إلخ النسق التقليدي المُصْمَت تقليدا، ثم أسأل بتعجّب: هل يمكن التجديد من خلال هؤلاء؟ وإنما سأسأل ـ في مدى أقل/ أهون انغلاقا/ جمودا على التقليد؛ مقايسة بالأول: هل يمكن أن يكون الشافعي، والأشعري، والجويني، وأبي حامد الغزالي، وابن حزم، مرجعية تجديدية في عالمنا الإسلامي الذي يُحاول إقامة علاقة تواصلية/ تثاقفيّة/ تسالُميّة ـ وربما تحالفية ـ مع العالم في أعلى نماذجه تطوّرا/ حداثة، أي مع العالم في سياق "حداثة ما بعد الحداثة"، مع الحداثة الفائقة التي تُشَكّل "المشروعية الثقافية للعالم المتقدّم/ نظام وعي العالم الحر" في مطلع القرن الحادي والعشرين.

حقيقة؛ لم يلفت نظري ما جاء في هذا المؤتمر من دعوات وتوصيات تضمنتها الكلمات والبيانات، فهي لم تخرج عن نطاق المعتاد في مثل هذه المؤتمرات الرسمية التي دائما ما تعجز ـ بحكم طبيعة المؤسسة، وطبيعة المشاركين، وبحكم البيروقراطية التنظيمية ـ عن قول/ إحداث ما يمكن الرهان عليه في تجديد نمط الوعي الديني السائد في العالم الإسلامي.

لكن، ما لفت نظري، أكثر من أي شيء، هو كلمة الإمام الأكبر/ شيخ الأزهر. لا أقصد تلك الكلمة المُعَدَّة/ المكتوبة سلفا التي ألقاها بصفته الرسمية كراع للمؤتمر، وإنما أقصد ـ وهي الأهم ـ كلمته المقتضبة المُرْتجلة التي ألقاها ردا على كلمة رئيس جامعة القاهرة، الذي بدا ـ ونسبيا أيضا ـ أكثر تطورا وانفتاحا من الأول في رؤيته لماهية التجديد المنتظر من رجال الدين الإسلامي.

إن العبارة اللافتة/ الخطيرة التي ختم بها شيخ الأزهر كلمته المرتجلة هي قوله: "لكن أرجوكم ابحثوا عن مشكلة غير التراث". هكذا تكلّم الإمام الأكبر، بعد أن أبدى ضيقه ـ على نحو غير مباشر في معظم كلامه ـ من ربط "تجديد الفكر والعلوم الإسلامية" بضرورة "نقد التراث"، على نحو يشي بأنه يتصور نقد التراث كعدوان/ كتآمر على الإسلام.

واضح أن شيخ الأزهر يعي أبعاد هذا النقد التراثي، ويدرك أن المؤسسة الدينية التي يقف على قِمّة هرمها ستتهاوى عروشها فيما لو قطع "نقد التراث" شوطا حقيقيا في مضمار التجديد الحقيقي. وبالتالي، فالتجديد الذي يقصده شيخ الأزهر ويرتضيه هو تجديد الآراء الفقهية في أبعادها الجزئية، هو مجرد الاختيار من بين مقولات التراث، أي اختيار القول/ الرأي/ الفتوى الأكثر ملاءمة لواقع حال المسلمين، أو لمتطلبات تجميل صورة الدين الإسلامي عند الآخرين؛ ليكون التجديد ـ وفقَ هذا التصور ـ تجديدا تراثيا في نهاية المطاف.

نعم، التجديد بالتراث/ من خلال التراث. قالها شيخ الأزهر صراحة في دفاعه عن التراث: التراث يدعونا للتجديد، مقولات التجديد موجودة في التراث. وهنا يتضح أن شيخ الأزهر ـ وهو الممثل لوعي الإسلام السني اليوم (والشيعي أيضا، ضِمْنيّا؛ بحكم المماثلة/ تطابق البُنَى الذهنية) ـ يريد تجديدا تراثيا؛ لا تجديدا حداثيا.

التجديد ـ وفق هذا التصور ـ هو تجديد في حدود وعي الأسلاف، في حدود أفق الوعي لرجال عاشوا قبل ألف عام، الخطوات التجديدية لا تذهب بعيدا، بل يجب أن تكون محسوبة وفق ما يسمح به التراث في منطوقه الصريح، لا وفق ما تؤدي إليه منهجيات البحث الحديثة في مجال الفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية التي من شأنها أن تعيد صياغة نظام التصور للفقيه من جديد.

قبل أن ينفي الإمام الأكبر مشروعية نقد التراث، ويؤكد أن المشكلة ليست فيه، ويدعونا للبحث عن أسباب مشاكلنا خارج تراثنا، تحدّث عن تخلف المسلمين الذين باتوا ـ كما قال نصّا ـ لا يستطيعون صناعة "كاوتش" (إطار) سيارة، فضلا عن صناعة السيارة ذاتها، أو صناعة السلاح الذي نُضْطر لشرائه من الآخرين.

والربط في النسق الكلامي هنا بين "فقرنا الصناعي" وبين "تجريد التراث من المسؤولية" يكشف لنا عن طبيعة تصور شيخ الأزهر لـ"ماهية التطور/ التقدم"، حيث نجده لا يختلف في هذا عن الرؤية التقليدية لعموم المتأسلمين الذين يتعمّدون الفصل بين عالمين يستحيل الفصل بينهما: عالم الفكر/ الوعي وعالم التقنيات الصناعية.

فعلى امتداد تاريخ الفكر الإسلامي الحديث اشتغل المتأسلمون على تأكيد أن الحضارة الغربية لها جانبان: فلسفي/ فكري/ روحي، ومادي تقني صناعي، وأن ما يحتاجه المسلمون فقط هو "المادي/ التقني/ الصناعي". ما يعني في تصورهم: إمكانية تحقيق أعلى درجات التقدم والتطور؛ مع بقاء الوعي التراثي/ الديني التقليدي حاكما لنظام الوعي العام.

قبل التأكيد على استحالة هذا الوَهْم/ وَهْم الفصل، نُؤكّد أن التطور ليس هو بناء الجسور والمطارات وناطحات السحاب والتصنيع (ولا أدري لماذا يستحضر المتأسلمون صناعة السلاح في كل حديث عن التطور الصناعي!)، والتقنيات الفائقة، دون تطوّر نوعي في نظام الوعي.

لو كان التطور مجرد تصنيع/ تقنية؛ لكان بإمكان الإنسان الجاهل الهمجي الذي يعثر في الأدغال النائية على كنز أن يشتري أعلى الطائرات تقنية، وأحدث أجهزة الكمبيوتر، وأكثر الهواتف النقالة تطورا، فهل سيصبح بهذا أكثر تطورا من كبار فلاسفة الغرب، أو من حاملي جائزة نوبل، أو من أساتذة هارفرد، أو من أعضاء أهم مراكز البحوث في العالم المتقدم؟!

لا يعي هؤلاء أن التقدم الحقيقي مستحيل؛ دون تغيير نوعي في مجمل التصورات الناظمة لحركة الوعي العام، وأن هذا التغيير النوعي يستحيل دون نقد جذري/ عميق، ومتواصل على مدى زمني طويل، لمجمل التراث الذي يُشكّل ـ بمضامينه الراسخة في أعماق للاوعي / بأنساقه المضمرة ـ نظام الوعي العام لعموم المسلمين، وللعرب منهم على وجه الخصوص.

أفهم أن يُدافع شيخ الأزهر عن التراث في تشكّله التقليدي، أفهم أن يَعدَّ نقد التراث عدوانا على الإسلام؛ لأنه إنما يدافع بذلك عن نفسه في واقع الحال. نقد التراث، تفكيكه من الداخل بأحدث منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة، يُصِيب مصالح المؤسسة الأزهرية ومصالح ممثليها والمنتفعين بها (وأمثالها في العالم الإسلامي كثير) بالعَطَب التام أو العطب الجزئي.

ويزيد الأمر خطورة بالنسبة للأزهريين وعموم التقليديين، أن النقد الجذري/ التفكيك يستحيل أن يجري على أيديهم؛ لأنهم لا يملكون أدواته أصلا، وبالتالي، لن يكون لهم موضع قدم/ موضع فعل/ موقعا من الإعراب في سياق التجديد النوعي الذي يبدأ خطواته الأولى بنقد التراث في كل مناحيه وبكل مستوياته. وباختصار، لا يمكن أن يقوم هذا التجديد الحقيقي إلا على أنقاض التراث القديم، وبالتالي، لن يقوم إلا على أنقاض مصالح سدنة هذا التراث.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*