بسمة مصطفى
قبل شهور أغلق نبيل صابر، 42 عامًا، منزله ومحل الحلاقة الذي يقتات منه وترك أبناؤه مدارسهم بمدينة العريش، ونزحوا جميعًا إلى بورسعيد ضمن عشرات الأسر القبطية التي تركت المدينة وتشتت في محافظات مختلفة بعد تكرار استهداف مسلحين للمسيحيين هناك ومقتل عدد منهم.
خلال هذه الفترة اضطر نبيل إلى العودة لمدينته مرتين لاستخراج بعض الأوراق اللازمة لتمكين نجله من أداء الامتحانات في مدارس بورسعيد. كُتبت السلامة لنبيل في المرة الأولى، لكن في الثانية كانت نهاية حياته، حيث عاد لأسرته جثة مثقوبة الرأس والصدر برصاص مسلحين، ليلحق بآخرين من أبناء معموديته لقوا نفس المصير.
قبل مقتله، كان الحال قد استقر بنبيل وأسرته في أحد بيوت الشباب الذي خصصته محافظة بورسعيد للنازحين، بلا مورد للرزق أو مدارس للأبناء، «كل أسرة تسكن غرفة مهما كان عددهم، على أمل تنفيذ تصريحات المحافظ بأن الوضع ده مؤقت لغاية ما يوفروا شقق»، بحسب رضا، شقيق نبيل، خلال لقائه مع «مدى مصر» في منزل الأسرة بالقاهرة حيث دُفن القتيل.
يقول رضا إن ما كان يشغل نبيل في تلك الفترة هو إنقاذ مستقبل ابنه التعليمي، فتقدم بطلب إلى الإدارة التعليمية في بورسعيد للسماح لنجله، الطالب بالصف السادس الابتدائي، بأداء الامتحانات، إلا أن موظفي الإدارة طالبوه ببيان نجاح من الإدارة التعليمية بالعريش.
مكرم كامل*، نازح قبطي آخر إلى بورسعيد كان دائم التردد على العريش متطوعًا لقضاء احتياجات النازحين، وتصادف وجوده بالمدينة أثناء تواجد نبيل في المرة الأخيرة، يقول إنهم فوجئوا خلال الفترة الماضية بأن مدارس بورسعيد تطالبهم ببيانات نجاح مختومة بختم النسر كشرط لأداء أبنائهم الامتحانات، ويضيف مستنكرًا: «في ظروف زي ظروفنا، مين عليه مسؤولية التنسيق بين الإدارات والهيئات الحكومية، إحنا المعرضين للقتل ولا الدولة؟».
رغم ما ينطوي عليه الذهاب للعريش من مخاطر، لم يجد نبيل سبيلًا سوى تنفيذ أوامر الإدارة، وهو ما قد كان، وعاد سالمًا إلى بورسعيد معتقدًا أنه أدى المهمة بنجاح، لكن موظفة الإدارة كان لها رأي آخر: «إحنا عاوزين البيان مختوم بختم النسر»، بحسب مكرم، الذي أضاف أن نبيل توسل للموظفة: «أنا قبطي نازح ولو رجعت العريش ممكن أموت».
لم يُجد التوسل في تغيير موقف الموظفة التي أصرت على طلبها كما ذكر نبيل لمكرم، قالت الموظفة: «ما لناش دعوة، دي إجراءات، وكده ابنك إما هيسقط سنة أو هتضيع عليه كافة درجات تفوقه التي حصل عليها في التيرم الأول».
الأمر نفسه أكده زكي صموئيل*، قبطي آخر نزح من العريش إلى القاهرة، لكنه اضطر إلى العودة للعريش كي يتمكن أبناؤه من أداء الامتحانات في مدارسهم بعد تعنت الإدارة التعليمية بالمنطقة التي يعيش فيها في القاهرة، «طلبوا مني أجيب بيان نجاح مختوم بختم النسر، وإلا الأطفال هتسقط سنة، يعني لو ابني في خمسة ابتدائي، مش هيدخل الامتحان ويبدأ العام الجديد من الصف الرابع الابتدائي»، يقول زكي.
ويضيف زكي لـ «مدى مصر» عبر الهاتف أنه أقام في القاهرة لمدة شهرين قبل عودته للعريش: «وصلنا القاهرة في فبراير اللي فات، وطول فترة وجودنا في القاهرة مفيش مسؤول واحد سأل فينا عشان احتياجاتنا من سكن وفرص عمل وغيره».
يقول زكي إن الكنيسة ساعدته في الحصول على شقة يبلغ إيجارها 800 جنيه، بالإضافة إلى تكاليف المياه والكهرباء، لكنه ظل طوال فترة إقامته بالقاهرة بلا عمل، وأصبح يعيش على الاقتراض من أقاربه والإعانات التي تصل لهم.
حاول زكي الاستعانة ببطاقة التموين لتخفيف أعباء توفير احتياجات أسرته، لكن بقالو التموين رفضوا صرف السلع له: «عاوزين مننا نروح العريش نجيب لهم ورق إضافي عشان يصرفولنا».
سوء أوضاع النزوح دفعت زكي للعودة إلى العريش رغم الخطر الذي يهدد حياته: «رب هنا، رب أي مكان، وغصب عني، يا إما أرجع بعيالي يمتحنوا، يا إما مستقبلهم هيضيع».
وبينما اضطر زكي للعودة إلى العريش من أجل أبنائه، قرر نبيل صابر أن يخوض المحاولة حتى آخرها، فانصاع لأوامر الموظفة وعاد مرة أخرى للعريش ليحصل على تلك الدائرة الزرقاء الصغيرة «ختم النسر» فوق أوراق نجله، لكنه ختم حياته هناك.
روى شقيق نبيل لـ «مدى مصر» نقلًا عن جيران شقيقه بالعريش مشهد القتل: «ملثمين على موتوسيكل (دراجة نارية) وقفوا قدام محله ونادوا عليه.. يا نبيل.. ولما التفت ضربوه بالرصاص».
أما مكرم فيقول إن نبيل اتصل به فور علمه بوجوده في العريش؛ كان ذلك قبل واقعة القتل بخمس دقائق، حيث أبلغه نبيل بتمكنه من استخراج الورقة المطلوبة، وأنه ألقى نظرة على المنزل وقام بفتح المحل، مؤكدًا له أنه في اليوم الثالث سوف يتوجه إلى بورسعيد.
بعد قليل من هذه المحادثة، انهالت الاتصالات على هاتف مكرم للسؤال عن نبيل الذي كان هاتفه مغلقًا، فعاود الاتصال به، لكنه فشل في الوصول إليه، فتوجه مباشرة إلى محل الحلاقة ليجده غارقًا في دمه. شهود عيان بالمنطقة أخبروا مكرم تفاصيل عملية القتل كما رواها شقيق نبيل.
أفقدت الصدمة زوجة نبيل النطق، ودخل ابنه، تلميذ الصف السادس الابتدائي، في نوبة بكاء؛ هكذا وجدهما مكرم حال زيارته لهم بعد عودته إلى بورسعيد.
مستقبل أبناء نبيل، الذي حاول تأمينه بـ«ختم النسر»، أصبح الآن في مهب الريح، بعد أن فقدوا عائلهم الوحيد، وربما لن يستطيعوا استكمال مسيرتهم التعليمية بعد الآن، «مين هيصرف عليهم؟»، يتساءل شقيق نبيل، مطالبًا الدولة بالتكفل بالأسرة.