بين الشّهادة والاستشهاد تاه الحقُّ الكتابيّ (مقال ليس طائفيّاً بل مسيحيًّا كتابيًّا) ثلاث كلمات سيئة السّمعة (التّبشير – الشّهادة – الجهاد( - مقالات
أحدث المقالات

بين الشّهادة والاستشهاد تاه الحقُّ الكتابيّ (مقال ليس طائفيّاً بل مسيحيًّا كتابيًّا) ثلاث كلمات سيئة السّمعة (التّبشير – الشّهادة – الجهاد(

بين الشّهادة والاستشهاد تاه الحقُّ الكتابيّ  (مقال ليس طائفيّاً بل مسيحيًّا كتابيًّا) ثلاث كلمات سيئة السّمعة (التّبشير – الشّهادة – الجهاد(

القس/أيمن لويس

الشّهادة
        لما كان هناك اختلاف في المعاني و المفاهيم بالنّسبة للكلمة الواحدة في مجتمعنا بسبب قلّة الوعي أو نقص المعرفة، ولأنّ هذه المفاهيم المختلفة قد تُسبِّب بعض المشاكل ولا سيما إذا كان مفهوم الأكثريّة يختلف، في جوهره، عن فَهْم ومُمارسة الأقليّة لنفس الكلمة، شعرنا أنّ الأمر يلزمه الطّرح لرأب الفجوات وعلاج التّصدعات الحادثِة والّتي قد تحدث في المستقبل. فكم من مصادمات حدثت بسبب هذه المفاهيم الخاطئة وبسبب مزايدة البعض على مفاهيم الآخر بخلاف الحقيقة!

وبخصوص كلمة التّبشير، لا بُدَّ أن نوضِّح الالتّباس عند الأغلبيّة في فَهم هذه الكلمة، ولا بُدَّ أن نحاول أَيْضًا توضيح أبعادها من خلال الفهم المسيحيّ. إنَّ هذا الأمر جُزء لا يتجزّأ من العقيدة المسيحيّة إذ هو وارد بنصوص صريحة في الوحي المقدس. والتّبشير هو حالة حوار ديني لا يُمثِّل تهديدًا أو ازدراءً أو مخططات للتآمر على الآخر إذ رسالة التّبشير هي رسالةُ حب؛ لذا فهو يُمارَس بشفافيّة دون ضغط أو استغلال للطرف الآخر من أيّ نوع، كما أنَّ هذه الممارسة الدّينيّة ليس لها علاقة بأيّ استراتيجيات سياسيّة. مع العلم أنَّ الكنيسة -بسبب ضعفها الرّوحيّ واستخدامها سّياسيّاً من قِبل الأنظمة الحاكمة- قد تنازلت عن هذا الحقّ وهذا التّكليف الالهيّ.

ويحمل هذا الفهْم  رسالة توعية كما يعطي أَيْضًا رسالة عتاب لجمهور المسيحيّين الّذين سلكوا طريقَ الصّمت أمام الاتّهامات الّتي وُجهت لرسالة التّبشير الرّوحيّة، بل وأغرب ما في الأمر هُوَ السّلوك المخزي من بعض القادة الرّوحيّين أو المعنيّين بالشّأن المسيحيّ في مُحاولة للتنصُّل من هذا الحق الكتابيّ وكأنّ التّبشير وصمة عار! وقد كان من الأجدر أن نسعى للإيضاح والتّبصير والتعليم بأنّ الحُكم بالنسبة للتبشير هُوَ نفس الحكم بالنّسبة للدعوة الإسلاميّة.

أمّا بخصوص كلمة الشّهادة، وبعيدًا عن التّحليل اللُّغويّ للكلمة بحسب المعاجم. ما الذي يتبادر لذهن القارئ أو المستمع للوهلة الأولى عند سماع هذه الكلمة؟ تتباين  المفاهيم في مجتمعنا من جهة هذه الكلمة تبايُنًا شديدًا، فهناك مفهومان لهذه الكلمة:
المفهوم الأوَّل للكلمة: فالمعنى السّائد لدى جمهور المسيحيّين هُوَ أنّ المُبشّر هو الشخص الشّاهد على الحقُّ، وكُلُّ مسيحيّ مُطالبٌ أن يُقدِّم شهادته عن عمل نعمة الله -من خلال المسيح- في حياته، لأنّ الإيمان المسيحيّ ليس دينًا ولا طقوسًا ولا فرائضَ بل هُوَ حياة. إنَّ المسيح يُغيِّر حياةَ الإنسان الّذي يُؤمن به فيملأ قلبه سلاماً. إنَّ المسيح ليس مجرّد نبي قدَّم رسالته وذهب إلى حال سبيله، بل هُوَ ما زال حيًّا ويتراءى لمؤمنيه ويعمل فيهم. لذا وجب على كُلّ مسيحيّ مؤمن أن يكون شاهدًا عن عمل المسيح في حياته وهذا عملًا بقوْله: "وتكونون لي شهودا في أورشليم والسّامرة وإلى أقصى الأرض" (أعمال الرُّسل 1: 8).  ونجد أنَّ الكلمة وردت بهذا المعنى -وبِكُلِّ مصادرها مثل "شهد، شاهد، شهود، يشهد"- في الكتاب المُقدَّس 242 مرّة تقريباً، وهذا هُوَ المعنى الأول الّذي يتبادر إلى الذهن المسيحيّ عند سماعه لهذه الكلمة، ومن هُنا يتّضح لنا أنَّ كُلّ مسيحيّ حقيقيّ ينبغي أن يكون مُلزمًا ومُلتزِمًا بالتّبشير والكرازة والشّهادة.

الشّهادة والوحي: كما أنَّ مدوني الإنجيل والكتاب المُقدَّس ما هُمْ إلا شهودٌ لله وعن الله والرّب يسوع المسيح لعَمَله ومُعاملاته وأقواله، وللإيضاح فإنَّ إنجيل المسيح هُوَ عمل الله لتتميم خطة الخلاص. أيّ أنَّه الجانب العمليّ الّذي عَمِله الله مُتجسِّدًا في المسيح يسوع، وما كتّابُ الإنجيل إلا شهودٌ سطروا الوحي مسوقين من الرّوح القُدس "الّذي كان من البدء، الّذي سمعناه، الّذي رأيناه بعيوننا، الّذي شاهدناه ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة". (يوحنّا الأولى 1:1- 3 )، إذ "يسوع هذا أقامه الله ونحن جميعًا شهودٌ لذلك" (أعمال الرُّسل 2: 32).  وأَيْضًا الجانب الخاص بالسّلوك والأخلاقيّات المسيحيّة في الرّسائل ما هُوَ أَيْضًا إلا شهادة عن عمل المسيح الحيّ في حياة الرّسل. إنّ الله أقرّ مبدأ الشّهادة فجعل الوصيّة بأهميّة وجود شاهِدين أو ثلاثة شهود للحُكم على الأمر. والعجيب أنّ الله لم يستثنِ نفسه من وصيته فجعل كلمتَه ورسالتَه مُوثَّقه بشهادة شهود. لأجل هذا نرى أنَّ المسيح لم يكتب إنجيلًا لكنه كان هو بنفسِه الإنجيل، ثُمَّ أقام المسيحُ الرُّسلَ شهودًا لهذا الإنجيل، فنجد أنَّ المسيح كان يُعلِّم بالرّوح ولم يختلِ في مكان ليتلقّى الوحي في كهف أو ما شابه. فبدايةً من عهد السّيد المسيح انتهى أمر تلقّي الوحي بالنّموذج الّذي كان مُتّبعًا مع الآباء والأنبياء، وموسى -على سبيل المثال- كان يصعد فوق الجبل للاختلاء ثُمَّ ينزل للشعب بالوصيّة والوحي.

وفي ذات السّياق عن نفس المفهوم، نجد أنَّ القطاع الآخر -وهو الأكثريّة في المجتمع المصري بل العربي- تعني له الشّهادة (بهذا المعنى) أهميّةً كُبرى؛ فهو أَيْضًا يُقدِّم الشّهادة لدينه وتطالبه عقيدته بذلك. ويُوجد كثيرٌ من النّصوص القُرآنيّة تحضُّ على هذا الأمر، كما نجد الشّهادتيْن اللتيْن بتلاوتهما يتمُّ الدّخول في الدّين. لكن ما يجدر الإشارة إليه أنَّه إذا كان عَمَلُ الشّهادة عند الجانب المسيحيّ يأتي بعد الدّخول في الإيمان، إلا أن الشّهادة هي المدخل الذي يسلكه المسلم إلى الدّين. وهكذا يتّضح لنا أنَّ عقيدة الفريقيْن تأمر بالشّهادة. وأعتقد أنَّه من البديهيات أنَّ جميع الأديان تُنادى بذلك وهذا حقٌّ، لكن من الواضِح والمؤكَّد أنَّ شريحة الأكثريّة في مجتمعنا لا يروق لها مفهوم الأقليّة عن الشّهادة، ولا ترى أنَّ الشهادة حقٌّ من الحقوق العامّة بل تعتبرها تَعديًا على عقيدتها وتُمثِّل تهديداً لمجتمعها الدّيني مع أنَّ الأقليات تسمع شهادة الآخر عن عقيدته طوعًا واختيارًا أحيانًا، وإجبارًا وقسرًا في كثير من الأحايين، ولا تشعر الأقليّات بتهديد أو غضب إذا كانت شهادة الأكثريّة عن دينها تتمُّ في إطار الموعظة الحسنة، دون تطاول أو ازدراء، وليس لأنَّها أقليّة. ولكن لأنَّها تعلّمت ثقافة حريّة الفكر والعقيدة، ولأنَّها على قناعه بعقيدتها، ولأنَّ تعليمها الدّيني يمنحها حُريّة الفكر والبحث والاطّلاع والاستدلال.

وهذه هي بعضُ الآيات من الكتاب المقدس الّتي تحثُّ المسيحيّ على البحث لطلب المعرفة: "تضلون إذ لا تعرفون الكتب" (متَّى 29:22)، "فتشوا الكتب" (يوحنّا 39:5)، "قارنين الرّوحيّات بالرُّوحيّات" (كورنثوس الأولى 13:2)، "امتحنوا كُلّ شيء. تمسكوا بالحسن" (تسالونيكي الأولى 21:5)، "أيُّها الأحباء لا تصدقوا كُلّ رُوح بل امتحنوا الأرواح هل هِيَ من الله، لأنَّ أنبياءَ كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم" (يوحنّا الأولى 4: 1)، "قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هوشع 6:4).

أمّا المفهوم الثّاني، (وهُوَ يُفهم على النّحو المُستنبط من الاستشهاد)، أيّ الشّهيد الّذي أنفق حياته ثمنًا لقضيّة ما أو لتمسُّكه بعقيدته و إيمانه، وحتى في هذا المفهوم عن الشّهادة -على هذا النّحو- فنجد تبايُن في فَهْم وتطبيق هذا المعنى من حيث المبدأ والمفهوم:
فبالرّجوع للكتاب المُقدَّس نجد أنَّ الاستشهاد في الفكر المسيحيّ، بلفظه الصّريح، قد وَرَدَ ثلاث مرّات فقط في العهد الجديد، ولكن هناك مواقف وأقوال قريبة من الاستشهاد. على سبيل المثال: ما حدث في استشهاد القديس استفانوس (أعمال الرُّسُل 7: 54 ) واستفانوس هو أوَّل شهيد للإيمان المسيحيّ، ثُمَّ توالت الأحداث فاستشهد معظم الرّعيل الأوّل من الرّسل القديسين وقادة الكنيسة الذين قدَّموا حياتهم وهُمْ فرحين، لأنَّهم حُسبوا مُستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه (أعمال الرُّسل 5 : 41 ). ولهؤلاء الشّهداء إكليل المجد إذ يشهد عنهم ولهم الكتاب المُقدَّس قائِلا "ولما فتح الختم الخامس، رأيتُ تحت المذبح نُفوس الّذين قُتلوا من أجل كلمة الله، ومن أجل الشّهادة الّتي كانت عنده" (رُؤْيا 6: 9). وكما سبقت الإشارة، لا نجد للكلمة في معناها الثّاني أيَّ ذِكر أو إشارة بالكتاب المُقدَّس؛ كلمة الله الّذي يُمثِّل الدّستور المعصوم للعقيدة المسيحيّة، سوى ثلاث مرّات، فالاستشهاد ليس جُزءًا من العقيدة أو من تكوين الشّخصيّة المسيحيّة على الإطلاق، كما هُوَ الحال في الإسلام الذي يدخل الجهاد في أركانه الأصيلة. والمسيحيّ لا يسعى للاستشهاد لكن إذا فرضت الظّروفُ عليه هذا الأمر فهو من أقوى مواقف امتحان الإيمان وهو مَوْت لا إرادي. لذا نستطيع أن نقول إنَّ هذه الكلمة دخيلة على الفكر المسيحيّ إذ فرضتها الظّروف وقساوة الإنسان، فبدأت تظهر في كُتب التّاريخ الكنسيّ نتيجة الاضطهاد الّذي كان يتعرّض له المؤمنون، و لأنّ الرسالةَ المسيحيّة سمحة فإنَّ مفهوم الاستشهاد لدينا يقتصر على صمود وتمسُّك المؤمنين بعقيدتهم وعدم إنكارها وعدم جحد أسس الإيمان (وهِي ألوهيّة المسيح وموْته وقيامته) مهما كان الألم أو المصير وإن كان الثّمن دفع حياته بسبب تمسُّكه بإيمانه أو الدّفاع السّلميّ بالحوار عن عقيدته، وقد قدَّم المسيحُ لنا اعلاناتٍ نبويّة عمّا سوف يُواجه المسيحيّين من شرور الخطاة، وقدَّم لنا تعليمًا عن كيفيّة التّعامُل مع هذه الظّروف. وجميع هذه التعاليم الّتي قدَّمها المسيح لم تكن دعوة لطلب الاستشهاد أو لتمجيد الموت، ولكن كانت دعوةٌ لعدم الخوف من الموْت لأنَّ لنا حياة أبديّة، ومن هذه الآيات:
- "قد كلّمتكم بهذا ليكون لكم فيّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثِقوا: أنا قد غلبتُ العالم" (يوحنّا 16: 33).

- "ولا تخافوا من الّذين يقتلون الجسد ولكن النّفس لا يقدرون أن يقتلوها، بل خافوا بالحري من الّذي يقدر أن يهلك النّفس والجسد كليهما في جهنم" (متّى 10: 28).

- "من يُحبُّ نفسَه يهلكها، ومن يُبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبديّة" (يوحنّا 12: 25).

- "لأن ليّ الحياة هِيَ المسيح والموت هُوَ ربح" (فيلبي 1: 21).

فمن مجموع هذه الآيات لا يُقدّم لنا الوحي عقيدةً استشهاديّة لنُسلِّم أنفسنا للمَوْت، لكنه يقدِّم لنا عقيدة روحيّة أنَّه علينا أن نحيا في القداسة للرب لنموت عن العالم وأعمال الجسد، ولا نكُف عن الخدمة مهما واجهنا من آلام وضِيقات وإن وَصَل الألم إلى حدِ الاستشهاد والموت؛ فنحن لا نخاف الموت. لأنَّه في المقابل، قدّم لنا المسيح والتّلاميذ تعليمًا يُعظّم من قيمة الحياة. فقد علّم المسيح تلاميذه ما مفاده "اهربوا وقت الخطر". قال المسيح: "ومتى طردوكم في هذه المدينة (فاهربوا) إلى الأخرى. فإنّي الحق أقول لكم لا تكملون مُدُن إسرائيل حتى يأتي ابنُ الإنسان" "(متّى 10: 23). كما كانت صلاة المسيح في بستان جثيماني: "إن شئتَ أن تُجيز عنّي هذه الكأس" تعبيرًا عن عدم الاستمتاع بالموْت على الصّليب، بل تعبيرٌ عن الألم الذي كان يَود لو تخلّص منه لولا أنّ الصّليب رسالةٌ حتميّة. والتّلاميذ جميعًا كانوا يتجنّبون الموْتَ ولا يطلبونه، وإذا قُبض على أحد منهم كانوا يُصلّون لأجل إنقاذه لا لأجل نواله الاستشهاد. هذا هُوَ التّوازن الفكريّ والمنطقيّ وعدم التّطرُّف الّذي جاء به المسيح في رسالته.

إنَّ رسالة المسيح رسالة سمحة، ولأنَّها فِعلاً عقيدة سمحة فلا نجد فيها أيَّ إشارة تُنادي أو تحفِّز المؤمنين على قتل من يضطهدهم، كما لا نجد أيَّ تحريض لمواجهة مُسلّحة مع هؤلاء المضطهدين، بل على العكس يقول السّيد المسيح له المجد " أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الّذين يُسيئون إليكم ويطردونكم " (متّى 5: 44)، وبهذا يكون السّيد المسيح قد أنهى عَهْدَ عين بعين وسِن بسن، لأن هذا المبدأ يُؤدي لخلْق مُجتمع من العميان. لقد كان السّماح به في المرحلة الأولى للإعلان الإلهيّ وفق شريعة موسي لقُربه لطبيعة الإنسان بعد السّقوط والبدايات الأولى، أمّا بدءًا من عهد المسيح ووصيّة العهد الجديد نقرأ "وأما أنا فأقول لكم: لا تُقاوموا الشّر" (متّى 5: 38). ومن هُنا تنهي الوصيّة عن نزعة الانتقام خُصوصًا إذا كانت الآلام نتيجة للإيمان، كما يُؤكِّد مرّة أُخرى في رسالة رُومية قائِلًا "لا تنتقموا لأنفسكم أيُّها الأحباء بل أعطوا مكانًا للغضب. لأنه مكتوب لي النّقمة أنا أجازي يقول الرّب، لا يغلبنّك الشّر بل أغلب الشّر بالخير" (رومية 12: 19-21). إنّ قضيّة السّلام الاجتماعي وأمن الأفراد من الجوانب الأساسيّة في رسالة العهد الجديد.
من الشّهادة إلى الاستشهاد: وفي غمار هذا العرض يكون من اللازم أن نتطرّق لشهادة يسوع المسيح (واستشهاده، إن جاز لنا أن نسمّي موتًه استشهادًا)، فيسوع هو النّموذج الأوّل لجمهور المسيحيّين وهو مُلهِم حياتهم. إنّه الشّاهد للنور الإلهيّ وشهادته حَقَّ لكوْنه الله الظّاهر في الجسد بهدف تجسيد صُورة الله للإنسان، وهو أَيْضًا شهيد خطيّة الإنسان. والخوض في هذا الفكر السّامي يطول، فسنكتفي بهذا التّنويه الّذي يجعلنا نفهم منهج شُهود المسيح وإصرارهم على الشّهادة لرسالة الخلاص حتى وإن ترتَّب على ذلك ما سوف يواجههم من تعنُّت السُّلطات والمحاكم المُعاديّة لحريّة العقيدة والاعتقاد، وقد حَدّثنا السّيد المسيح عن ذلك في أقواله وتعاليمه "فانظروا إلى نُفوسكم، لأنَّهم سيسلمونكم إلى مجالسَ وتُجلدون في مجامعهم، وتُوقَفون أمام وُلاة وملوك، من أجلي، شهادةً لهم. وينبغي أن يُكرَز أَوَّلًا بالإنجيل في جميع الأمم" (مرقس 13: 9 – 10)، (متّى 10: 18، لُوقا 21: 13 – 14). وعَبْر التّاريخ -منذ ظهور المسيحيّة- وبسبب الشّهادة ليسوع المسيح كم لاقى المؤمنون من آلام وكم عانى القديسون حتى الاستشهاد. دائمًا وأبدًا يتوقّع شُهود الإنجيل أنَّه من الجائز أن يكون ختم شِهادتهم هُوَ الدّم المسفوك. وما الاستشهاد سوى شِهادة الإيمان الممهورة بشهادة الدّم. ويُعتبر سِفْر الرّؤيا -وهو الفصل الأخير من فصول الكتاب المقدس- بحقّ كتاب الشّهداء، الّذين اقتفوا أثر الشّاهد الأمين الصّادق؛ ربّ المجد يسوع المسيح، لذا يبدأ أَيْضًا تقويم الكنيسة القبطيّة المصريّة بشهر الشّهداء ورأس السّنة القبطيّة هُوَ احتفال النّيروز (عيد الشّهداء).

أمّا الفريق الآخر في مُجتمعنا؛ فريق الأكثريّة، فيفهم الكلمة في إطار مختلف عمّا يفهمه فريق الأقليّة. ولتوضيح ذلك نكتفي بنموذجيْن من الأحاديث:

1. حديث رقم 4509 صحيح الجامع: "من مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد... الخ)

2. حديث رقم 6799 "حدّثنا سعيد بن عفير، حدّثني الليث، حدّثني عبد الرّحمن بن خالد عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد بن المسيّب أنَّ أبا هُريرة قال سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والّذي نفسي بيدِه لولا أنَّ رِجالا يكرهون أن يتخلّفوا بعدي ولا أجد ما أحملهم ما تخلفتُ لوددت أنَّي أُقتَل في سبيل الله ثُمَّ أحيا ثُمَّ أُقتل ثُمَّ أحيا ثُمَّ أقتل ثُمَّ أحيا ثُمَّ أقتل". ومن هنا، ومن نصوص أُخرى تتشكّل عقيدة الاستشهاد الدّينيّة عند المسلم، ففي واقعنا المُعاصِر نجد أن هذا الأمر يحمل إِرباكا وتشويشًا؛ فهناك من يرى أن الشّهادة تكون واجبة لمن خرج للجهاد في سبيل الله، وهناك جمهور آخر يُؤمن أنَّ المسلمين في حالة حرب دائمة مع الكفار لتكون كلمة الله هِيَ العليا. وإن كانت الأوضاع لسبب أو لآخر لا تسمح بالمُواجهة بين المسلمين وغيرهم من البشر، فالأمر لديهم يستلزم الاستشهاد في سبيل الله، حتى وإن كان بتفجير النّفس! والشّهادة هُنا مطلب يسعى إليه الفرد إخلاصًا لله فهي شهوة للموْت. وقد انقسم عُلماء الدّين من حيث اعتبار أنَّ الّذي يُفجِّر نفسه بهذه الطّريقة هُوَ شهيد أم إرهابيّ، فالجهات الدّينيّة الرّسميّة تُصرِّح بأنَّ هؤلاء مُؤمنون لكنهم فئة باغيّة ومُثيرو للذُعر والفوضى، والأكثريّة ترى أنَّهم في سبيل الله قد استشهدوا. وهذا الرّأي الأخير هُوَ الغالب بين عامّة الشّعب والأعلى في الخطاب الدّينيّ وفى شرائط الكاسيت والفضائيّات والمساجد، وقد بدأ ظهور الاستشهاد الجهاديّ بهذا الأسلوب مع تأزُّم القضيّة الفلسطينيّة ثُمَّ أخذ هذا الفكر في الانتشار حتى أصبح ظاهره عالميّة يُعانى منها العالم، وهكذا صارت كلمة الاستشهاد مُخيفة ومُفزعة. وبِقدر ما كانت تحمل كلمة الاستشهاد أو معنى الشّهادة بذاته صُورة العطاء الأكمل والبذل الأسمى، بقدر ما تَمَّ الإساءة لهذا المعنى السّامي.

أخيرًا، ونحن نُقدِّم هذا الفكر، ما نبتغيه هُوَ توضيح الاختلاف بين المسيحيّة من جانب والديانات الأخرى من جانبٍ ثان، لأنَّ هذا الاختلاف يُنتِج سُلوكاً مُختلفًا. إنَّنا أمام مشكلة ليست سهلة، إن كانت الأقليّة الدينيّة ترى أنَّ الشّهادة واجب عليها، لذا يتوجَّب على الكنيسة أن تُدرِك أنَّ مجد استشهادها هو في كرازتها. حتى وإن كانت الأكثريّة ترى أن الشّهادة بهذا المفهوم إنَّما هُوَ تَعَدٍ على دينها وتهديدٌ لعقيدتها. على الأغلبيّة أن تكُّفَ عن اعتبار الموت شرف يستحق السّعي إليه. إنّ هذا الفكر تهديدٌ لأمن ولسلامة البشريّة. وهُنا يُواجهنا سؤال: كيف نصل لحاله من الوفاق تسمح بالتعايش الطّيب؟ هل يمكن أن نصل لحالة من الاتّفاق الضّمني أن يكون لكُلِّ طرف الحقّ في أن يشهد بجرأة لما يعتقد أنَّه الحق؟ هل يمكن أن نجعل أكاليل الانتحار مُجرّد ذكريات؟ إنَّ الله لا يمكن أن يُعِدّ سماءً أو جنةً لكي يسكنها القَتَلة والمجرمين. إنَّ سماوات الله المُحب تنتظر صانعي السّلام، وفاعلي الخير، وعاملي الرّحمة. إنَّ الوصول لهذه الغاية ليس سَهلًا، فهي حُلم يتطلّب مجهودًا مُضنيًا مدروسًا لرفع ثقافة الجمهور ليتعلّم كيف يقبل الآخر. عندما نصل إلى هذه الغاية سوف لا يكون هناك كلمات سيئة السّمعة.

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث