منذ أحداث الزاوية الحمراء عام ١٩٧٢، وحتى وقتنا هذا، والاشتباكات والحوادث المؤسفة تتصاعد من حين لآخر ومن مكان لآخر، من قتل ونهب وحرق واعتداء على المسيحيين وتدمير ممتلكاتهم وبيوتهم ومحلاتهم بسبب قيامهم بالصلاة فى منزل يشاع أنه سيتم تحويله إلى كنيسة، وعندئذ يتوافر المبرر لارتكاب كافة الأفعال الإجرامية على اختلاف أنواعها ودرجاتها، مما دعا اللجنة المُشكّلة فى هذا الوقت عام ١٩٧٢ ــ أى منذ أكثر من أربعين عاماً ــ بمعرفة مجلس الشعب برئاسة الدكتور جمال العطيفى، وإيداعها تقريرها موصية الدولة- حلاً لجميع النزاعات الطائفية- بإصدار قانون موحد لدور العبادة.
ومنذ هذا التاريخ والدولة لم تحسم الأمر بشأن كيفية اختيار الأسلوب الأمثل لتنظيم بناء الكنائس وترميمها.
وكان من المتوقع والمأمول أخيراً أن يصدر القانون الجديد الخاص بذلك، بغية حل المشاكل المتراكمة منذ عدة عقود، وتسهيل بناء الكنائس وإزالة كافة القيود والمعوقات إلا أن القانون بالصورة التى تم التصويت عليها فى مجلس النواب ــ بدلًا من أن يكحلها عماها، حسب المثل المشهورــ فجاء صادماً مخيباً للآمال مليئاً بالألغام، مقنناً لكافة التعقيدات، متشدداً فى كل مواده، مضيفاً معوقات لا سابقة لها، ولا تخطر على بال أحد، بجانب استحالة تنفيذها، وعاد بنا إلى عصور المماليك، فالحكومة، ممثلة فى هذا القانون، أقرب إلى منع بناء الكنائس وليس تشييدها، مما يحق لنا تسميته، كما فى عنوان مقالنا، بأنه قانون منع بناء الكنائس استنادًا للآتى:
أولاً: القانون فى حد ذاته، حسبما تضمنته نصوصه، جاء متناقضاً متعارضاً مع العديد من مواد الدستور مهدرًا لمبادئ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص المنصوص عليها فى المادتين 9 و53 من الدستور، مما يبطله ويعرّضه للعوار الدستورى، وقد نصت المادة الأخيرة على أن المواطنين لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللغة، كما نصت المادة ٦٤ على حرية الاعتقاد، وكذلك حرية ممارسة الشعائر الدينية، وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية، كما حظرت المادة ٨٩ كل صور العبودية والاسترقاق والقهر.
فلماذا رغم وجود تلك الباقة من النصوص الدستورية المثالية، يصدر قانون خاص ببناء الكنائس دون غيرها من دور العبادة، أليست بيتاً من بيوت الله يُذكر فيها اسم الله مسبحاً ممجداً، وأين قوانين البناء الخاصة بدور العبادة الأخرى، وهل إذا طلبت الطائفة اليهودية بناء معبد سيجاب طلبها فوراً، لعدم وجود قانون منظم أو مانع لذلك، أم أن ذلك يستلزم مسبقاً إصدار قانون خاص ببناء المعابد متضمناً إجراءات الترخيص وشروط البناء ومحتواه من الداخل والخارج.
فإصدار قانون خاص ببناء الكنائس وحدها نوع من التمييز الصارخ ضد مواطنين مصريين يتمتعون بكافة حقوق المواطنة، قبل أن يكونوا مسيحيين يحق لهم ممارسة شعائرهم الدينية، وإقامة دور عبادتهم دون عائق أو قيد، وألا يعد أيضاً إصدار تراخيص البناء بالشروط التعسفية المذلّة الواردة بالقانون من موافقات جهات إدارية، وإحصاء سكانى وتحديد المساحة، نوعاً من القهر والعبودية المنهى عنها بالمادة ٨٩ من الدستور لفريق من المصريين؟
ثانياً: أيضاً جاء القانون معيباً مبهماً غامضاً فضفاضاً زئبقياً يحوى كل عيوب التفسير والتأويل، وجاءت كل مواده غير محكمة وتنقصها الدقة، وعُرضة لجميع الاجتهادات والتأويلات، مما يُعرضه للبطلان والانعدام على الوجه الآتى:
(أ) يلزم لإصدار ترخيص ببناء أو ترميم كنيسة تقديم طلب إلى المحافظ مستوفياً البيانات والمستندات، فلماذا الكنيسة وحدها فى حاجة إلى طلب للسيد اللواء الوزير المحافظ، ونادراً ما سيوافق، وغالباً سيرفض بعد أن يستطلع بالطبع، وإن لم يرد بالقانون رأى الجهات الأمنية، وعلى رأسها جهاز الأمن الوطنى ــ وكأنك يا أبوزيد ما غزيت ــ الذى اعتاد بداءة عند حدوث أى حادث مؤسف أو خلاف بين مصريين مختلفى الديانة، وصفه بأنه حادث فردى، ومنعاً لوجع الدماغ يبادر بإغلاق الكنيسة أو البيت المشبوه بإقامة صلاة به وتعيين حراسة عليه، ولا أعرف سبباً لهذا العداء المزمن المتوارث بين جهاز الشرطة والكنيسة وتابعيها، بل لا أدرى حتى الآن العلاقة بين الشرطة والكنيسة إلا إذا اعتبرناها إحدى الجهات المشبوهة والتى يتعين وضعها تحت الملاحظة والرقابة surveillance and probation.
وإذا ما افترضنا رفض المحافظ، وهو الغالب بعد استطلاع رأى الجهاز الأمنى من قاعدته لقمته، فقد خلا القانون من إجراء سريع للتظلم من القرار كلجنة مُشكّلة من وزير الحكم المحلى، أو من ينوب عنه، ومندوب عن الكنيسة، وآخر من المجلس القومى لحقوق الإنسان مثلاً، للبت فى التظلم خلال شهر على الأكثر من تاريخ رفض الطلب، أم يتعين الزج بالكنيسة للتظلم من القرار واللجوء لمحاكم القضاء الإدارى، والتوهان فى أروقة المحاكم بدرجاتها المختلفة، والمتخمة أصلاًَ بالقضايا، وعندئذ قد يمتد النزاع لعشرات السنين يقف خلالها كل نشاط كنسى، من صلاة يومية وعقد زيجات والصلاة على الموتى... إلخ، يحتاج إليه منكوبو الحظ المقيمون بالمنطقة المراد إنشاء الكنيسة بها، لاسيما إذا بعدت عن الكنائس الأخرى وتعذر الوصول إليها إلا بمشقة شديدة، خاصة فى النجوع والقرى.
فهل التداعى أمام المحاكم يليق بكرامة الكنيسة، وهى جزء من كرامة الوطن والدولة، وهل يُعقل أن يكون هذا ما يبغاه المشرع؟ إننى أربأ بالمشرع عن ذلك.
(ب) نص القانون على أن عدد مسيحيى الطائفة هو المعول عليه فى الترخيص بإقامة الكنيسة، وهذا النص مشوب تماماً بالغموض والإبهام لخلوّه من آلية تنفيذ هذ الشرط، فلم يبين النص ما هو العدد المطلوب حتى ما يكون مستحقاً بالفوز بترخيص ببناء كنيسة، وكيف يمكن تحديد هذا العدد المطلوب وتوافره من عدمه، ومن المختص بالفصل فى ذلك، بينما لا توجد أى إحصاءات رسمية فى كل كفر ونجع وقرية ومدينة عن عدد الأقباط وإخوتهم المسلمين فى كل منطقة، وهذا النص بالذات سيفتح باب جهنم للتلاعب وذكر أى أرقام مانعة للحصول على الترخيص، وما أسهل التلاعب بهذا النص، فهل يمكن الاعتماد على إحصاء الكنيسة مثلاً، إذا قامت هى بهذا الإحصاء أو الاعتماد على العد اليدوى بتمرير أقباط المنطقة أمام المركز «نفر نفر»، وقيام شيخ البلد بحصرهم بنفسه.
(ج) ومما زاد الطين بلّة أن عدد مسيحيى الطائفة، فضلاً عن أنه المعوّل فى الترخيص بإقامة الكنيسة، فقد ربطه المشرع أيضًا بمساحة الكنيسة، فتتسع مع زيادة عدد الطائفة وتنكمش فى حالة نقص العدد.
فما هذه الدقة والتدقيق التى لا مثيل لها، والتى لا سابقة لها من قبل، وهل ضاقت أرض مصر من أن تتسع لبناء كنيسة، وهل إذا بُنيت كنيسة باتساع ما يزيد على النسبة المقررة، يعد ذلك مخالفًا للقانون، ويتعين هدمها أو تجنب ذلك بالتصالح وسداد الغرامة المقررة؟ كما خلا النص من بيان مهم وجوهرى، مما يبطله ويجعله كالعدم سواء، إذ لم يحدد النسبة المطلوبة من عدد السكان منسوبة لمساحة الكنيسة، وما يخص الفرد من صحن الكنيسة، هل هو متر مربع مثلًا، مثل إحصاءات الخارج بالنسبة لنصيب الفرد من مساحة الحدائق، دون ترك ذلك للاجتهادات الشخصية أو المجالس العرفية، ومَن المختص بتقدير توافر أو عدم توافر تلك النسبة، سواء كانت صحيحة أو باطلة.
(د) غير مقبول عقلاً ولا منطقاً، ويتنافى مع جوهر الدين أن تسمح الدولة للمواطن بممارسة شعائره الدينية، بينما تحرمه من دار عبادة يمارس فيها تلك الشعائر بحجة أن عدد سكان الطائفة غير كاف لإقامة دور عبادة، بالإضافة إلى أن هذا الشرط يتعارض مع نص المادة ٦٤ من الدستور، التى كفلت حرية العقيدة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإقامة دور العبادة، فممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة وجهان لعملة واحدة، وكلتاهما متلازمتان لا تنفصلان وغير قابلتين للتجزئة، فيحق لكل مواطن مهما كانت عقيدته السماوية إقامة دور عبادة للصلاة فيها حتى لو كان هذا المواطن فرداً واحداً، فكما يحق له اختيار عقيدته يحق له ممارسة شعائرها داخل دور عبادة دون اعتبار لعدد أفراد الطائفة، قلّ أم كثر، ومن واجب الدولة أن تتيح له ممارسة شعائره الدينية فى دور عبادة مناسبة، حتى ولو استلزم الأمر إقامتها على نفقتها الخاصة فى حالة عدم استطاعة المواطن تغطية نفقتها، ولا ننسى مساهمة الدولة فى شخص الرئيس جمال عبدالناصر فى بناء الكاتدرائية بالعباسية عام ٦٨ بمبلغ مائة ألف جنيه، تزيد على مائة مليون حالياً.
ثالثاً: إن مصر وطننا قائدة ورائدة وقدوة فى منطقتها، بل فى أفريقيا بأكملها، فإذا ما فرّقنا وميزنا بين بناء كنيسة وغيرها من دور عبادة بالتشدد هنا، والتساهل هناك، فماذا سيكون جوابنا لو تمثل بنا الغير من أقطار أخرى ووضعوا هم أيضاً شروطهم التعسفية للتقييد ــ وهى عبارة مهذبة وصحتها المنع ــ لبناء كنيسة أو جامع، حسب هوية كل بلد، ولماذا نعطى الفرصة بأيدينا لهيئات وجماعات حقوق الإنسان المحلية والدولية لنقدنا والتشهير بنا بسبب هذا القانون.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإنى أرى أن هذا القانون سيضر أكثر مما يفيد وسيجلب من المشاكل أكثر مما سيقدم من حلول، ويكفينا ما نعانيه من مشاكل تعليم وصحة وبطالة وغلاء ودولار، وقبل ذلك كله إرهاب داخلى وخارجى ــ هى ناقصة ــ وإن كان لابد من قانون لإنشاء دور العبادة، فالأفضل إصدار قانون موحد لكافة دور العبادة، سواء كان جامعًا أو كنيسة أو معبدًا يهوديًا، وإن كان مقالنا غير كافٍ للاقتناع بوجهة نظرنا، فأضيف إليه مقال الأخ المحب الغيور د.أسامة الغزالى حرب بعموده اليومى بجريدة الأهرام يوم 31- 8- 2016، الذى وصف هذا القانون بأدق وصف بأنه نكسة عام ٢٠١٦.
وإنّى أهيب بقداسة البابا حفاظاً على كرامتك ومكانة الكنيسة القبطية المصرية الأرثوذكسية ــ الكنيسة الأولى فى العالم، والتى ترأست جميع المجامع الكنسية المسكونية والمؤسسة لنظام الرهبنة ــ ألا تتقدم بأى طلب لترخيص بناء كنيسة، فطلبك مقدماً مرفوض مرفوض مرفوض، بعدد مواد القانون، وبعدد ما تضمنته تلك المواد من ألغام، وذلك إلى أن يتم إلغاء هذا القانون ــ السقط ــ أو تعديله وإزالة ما حواه من معوقات.
رئيس محكمة استئناف القاهرة واللجنة العليا للانتخابات الأسبق
المصدر: المصرى اليوم