حلم تطبيق الشريعة يحول "الإسلام الأمريكي" إلى أداة عزلة - مقالات
أحدث المقالات

حلم تطبيق الشريعة يحول "الإسلام الأمريكي" إلى أداة عزلة

حلم تطبيق الشريعة يحول

خالد سليكي من أمريكا*

المسلمون الأمريكيون وحلم تطبيق الشريعة

قد يكون هذا العنوان مثيرا للعديد من المسلمين، داخل البلدان العربية. إذ سيكون من الصعب إقناعهم بأن هناك نضالات مريرة يخوضها المسلمون الأمريكيون من أجل تطبيق الشريعة داخل المحاكم الأمريكية والكندية على السواء. بل سيزداد الأمر إثارة حين سيعلم هؤلاء أنه قد تم قطع خطوات في هذا الإطار، وتعتبر كندا، وخاصة مقاطعة أونطاريو، وبعض الولايات داخل الولايات المتحدة الأمريكية من الذين بدأوا في إعمال بعض المواد الشرعية في ما يخص بعض القضايا التي تتعلق بالمسلمين الأمريكيين. وهذا هو الوجه الذي يغيب حين يتم التعامل مع بعض المطالبات من قبل بعض الجماعات والمنظمات الأمريكية التي تكتسي طابع التطرف في مواجهة هذه القضايا. وهو تطرف يقابله تطرف، أحيانا، في المطالب التي يناضل من أجلها المسلمون الأمريكيون كما سنرى. وقد اتسع عبر وسائل الإعلام نقاش وجدل حادين حول قضايا تطبيق الشريعة ومدى قانونيتها وعلاقتها بالقانون والدستور الأمريكيين.

الشريعة كبديل للقانون المدني

من المعلوم أن المعنى الذي يلبسه مفهوم الشريعة هو أنه قانون إسلامي منزل من عند الله، وعلى الإنسان المسلم أن يتبع أوامر الله. والشريعة بذلك هي عبارة عن أوامر ونواه وحلال وحرام. وجميع الأحكام الشرعية تعتمد على الكتاب والسنة والقياس والإجماع. وهي مكونات بقدر ما تشكل مصدرا خصبا وغنيا من أجل ضمان صيرورة الخطاب الشرعي، بقدر ما هي مكونات تساهم في خلق تعدد واختلاف إلى حد التضارب والتناقض والتنافي، بحيث يستحيل، إلا في حالات قليلة جدا، أن يتم إجماع حول مسألة ما. خصوصا في السياق التاريخي الراهن، الذي يتميز بالعديد من التعقيدات، إن علي المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو العلمي. أضف إلي ذلك أن ”الرؤية الأخلاقية“ الإسلامية رؤية تمييزية -حسب محمد محمود- فيها فصل واضح بين المسلمين والكفار، بل إن الأخلاق القرآنية تأسست على هذا المبدأ التمييزي بين المسلم/المؤمن وغير المسلم /الكافر.

والمسلمون، في العموم، يعتبرونها كل ما شرعه الله ”ليخرجهم من الظلمات والجهل والضلال إلى نور العلم والمعرفة والدراية“. والشريعة تعتبر أوسع من مبادئها، حيث تتمثل في مجموع الأحكام الشرعية المثبتة قطعياً والتي لا اجتهاد فيها. إذ تقسم أحكام الشريعة إلى أحكام شرعية قطعية وغير قطعية، أي لم يثبت صحتها ودلالتها، وهي كالتالي: الأمر الواجب: ويتمثل في جملة الفرائض التي أمر عباده بالقيام بها، وإذا عارضوا هذه الأحكام توعدهم الله بعذاب أليم، كالصلاة والصيام والزكاة.

الأمر المستحب: و هو ما أحب الله أن يقوم به العبد ولكن دون أن يفرضه عليه ودون أن يفرض عليه أي عقوبات بسبب عدم قيامه بذلك. الأمورالمباحة: وهي الأمور التي لا يعاقب عليها الشخص إذا قام بها ولا يعاقب على تركها. الأمر المكروه: وهو كل شيء لا يندرج تحت خانة الحرام، ولكن غير محبب ومن المكروه القيام به، كالطلاق. الأمور المحرمة: قائمة بكل ما ورد فيه نصوص واضحة وصريحة وتم تحريمها، وفي حال قام الفرد بأحد المحرمات فيتوعده الله بعقوبات شديدة في الدنيا والآخرة.

إذن واضح أن المسلم يعتبر الشريعة، خاصة في ما يخص الأحكام القطعية منها، أمرا إلهيا ينبغي تطبيقه بكل السبل، لأن في ذلك ثوابا وتقربا من الخالق.

وهذا يعني أن المسلم لا ينطلق في تطبيقه هذا من خلفية حقوقية أو ما يستوجبه السياق الراهن، من تحولات، بقدر ما يحركه المصدر الإلهي. فالله هو الآمر، والإنسان عبد طيع يؤتمر بإمرته. ولا دخل للإنسان في القانون، ولا دخل للتاريخ، ولا الجغرافيا، وإنما هي أحكام يعرف الله سرها، وهو وحده يعرف صلاحيتها، وما على المسلم إلا تطبيقها وهو غير ملزم بالبحث عن تبرير لها. فهي أحكام صالحة لكل زمان ولكل مجتمع، وتطبيقها هو في صالح الظالم والمظلوم، في الدنيا قبل المحاسبة الأخروية. وفي الأخير هي وجه للإرادة الإلهية المتحققة. وهذا ما تتلاقى فيه كل الاتجاهات الإسلامية، أي المعتدل منها والمتشدد، ما دام أنهما يعتبران ”الشريعة“ قانونا إلهيا وجب تطبيقه على الأرض. ومادام أن حلم ”المسلم“، خاصة الممارسين منهم، هو إعمال القانون الإلهي. بل إن شعار ”الإسلام هو الحل“ يأتي من الاعتقاد الذي ترسخ في الخيال الإسلامي من كون حالة الأزمة التي يتخبط فيها المجتمع الإسلامي، آتية من الغضب الرباني، وهو عقاب سماوي لانحراف المسلمين عن الأحكام الإسلامية، ومن ثم فإن استعادة تلك الأمجاد رهينة باستعادة الحكم الإلهي، وهو شرع الله. أي التحقق العملي للإرادة الإلهية.

ونظرا لخلفية القداسة التي تحيط بالشريعة، فإن البحث فيها يولد قدرا من الإرباك والتساؤلات: فهل يعبر هذا المفهوم عن كل الدين، من عقائد وعبادات ومعاملات، أم تقتصر على المعاملات وحدها؟ وهل تتضمن الحدود فقط ومن ثم يتم إعمال الآيات القانونية، ونقصد ايات الأحكام التي تناهز المائتي آية في القرآن؟ وإذا كانت تعني (الشريعة) الدين برمته، فهل الدين هو القرآن فقط أم القرآن والسنة والقياس وما أنتجه إجماع الصحابة والعلماء من اجتهادات؟ ومن هنا يأتي التساؤل المركزي حول كيفية تطبيق الدين أخلاقيا وقانونيا إلى ممارسة اجتماعية وسياسية؟

إن الإجابات التي أنتجها الخطاب الديني، عبر تاريخ الإنتاج الشرعي، تكشف على قدر كبير من التوتر وعدم الحسم في جل القضايا التي تبقى كل معضلاتها مفتوحة على كل الاحتمالات.

بين تطبيق الشريعة ”والقانون الأمريكي للمحاكم الأمريكية“ تكشف الإحصائيات الصادرة عن PewReaserch Center أن عدد المسلمين الأمريكيين الذي يريدون تطبيق أحكام الشريعة في أمريكا يقدر بـ51٪، وحوالي 60٪ من الشباب. أي إن الشباب المسلم الأمريكي، الذي يمثل مستقبل واستمرارية هذه الأقلية، يزداد إيمانه بتطبيق الشريعة. ومادام أن الإسلام هو الأول عالميا من حيث سرعة الانتشار، فإن النسبة سترتفع في المستقبل.

وكما سبق أن طرحنا حول فهم الشريعة، وما المقصود بها، فإن المراكز الإسلامية تسوق لخطاب يقدم الشريعة كبديل للقانون الأمريكي، أي كقانون إلهي، يجد فيه ”المسلم الأمريكي“ الذي يحيا على إيقاع التهميش والعزلة، هويته واختلافه. إذ يصير الاعتقاد بتطبيق الشريعة، حقا من حقوق الأقلية الإسلامية، ومطلبا من مطالب نضالاتها، لأنها بذلك تعبر عن رفض لاشعوري لحضارة يجدها لا تعبر عن وجدانه، بل يرى فيها مصدرا لاغترابه، رغم انتمائه القانوني لأمريكا.

غير أن الحديث عن ”الشريعة“ في أمريكا يختصر -في عمومه- في قضايا الأحوال الشخصية راهنا. أي ما له صلة بقضايا الزواج والطلاق والنسب وعلاقة الرجل بالزوجة. في حين لا أحد يجرؤ -حتى اليوم ولو ظاهرا- على الحديث عن الحدود -مادام أنها غائبة في جل البلدان الإسلامية إذا ما استثنينا: السعودية والسودان-. في حين يعرف الأمريكيون أن مفهوم الشريعة هو قانون إسلامي، مليء بالعنف بدءا من العنف ضد المرأة وصولا إلى معاملة ”الكافر“. ومادام أن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يحسم في الأسئلة التي طرحناها أعلاه، ولم يرسم حدودا واضحة لمفهوم الشريعة، ومادام أن المفهوم ”زئبقي“ وقابل لحمل كل المعاني، ومادام أن التاريخ الشرعي هو تاريخ يكشف عن هيمنته على مجالات العبادة والمعاملات، فإن الآخر، وهو في ذلك تحركه استراتيجيات سلطوية، يوظف هذا الاعتقاد المنتشر بين المسلمين الأمريكيين، ليروج لفهمه ويزيد من تأليب الفئات الاجتماعية التي تشكل الأغلبية في محاولات منه من أجل الزيادة في التهميش والإقصاء.

ففي الوقت الذي نجد فيه مطالبات، في العديد من الولايات، بإعمال أحكام الشريعة في بعض القضايا التي ترتبط بالمسلمين الأمريكيين، بل واقتناع بعض القضاة، في بعض المحاكم، بتطبيق احكام الشريعة خاصة في العلاقات بين الأزواج، نجد أن هناك من بدأ يوسع من دائرة مطالبه. إذ نجد هناك مطالبات من قبل بعض المسلمين الأمريكيين، في بعض الولايات، من قبيل ”من حق سائق الطاكسي المسلم أن لا يحمل في سيارته شخصا أعمي برفقة كلبه الذي يقوده في الطريق“ لأن ”الكلب“ نجس في الاعتقاد الإسلامي! كما نجد في ولاية كولورادي أن من مطالب الأقلية الإسلامية التي تحققت كانت هي التلفظ أثناء ترديد النشيد الوطني ”الله“ عوضا عن ”God“، وحق المسلمين الذين يشتغلون في النقدية“ أن لا يبيعوا لحم الخنزير للزبناء. هذا وقد اقتنعت حكومة أونطاريو في كندا بتعدد الزوجات لدي المسلمين، بل إن الحكومة الكندية ترسل مساعدات للرجل المتعدد بحسب عدد الزوجات اللواتي تحت كفالته.

ولعل القضية الشهيرة، التي شكلت مادة دسمة في الإعلام الأمريكي لتلك الشابة المسلمة التي تقدمت بطلب عمل في محلات لبيع ملابس معروفة بتقليعتها ذات الإيحاء الجنسي. والتي تلزم عمالها بأن يلبسوا وفقا لنمط معين. فالتجأت الشابة إلى المحكمة بدعوي عدم تكافؤ الفرص واتهام الشركة بممارسة الميز على أساس الدين، لأنها ترتدي الحجاب كحق شرعي. وقد أصدرت المحكمة حكما لفائدتها، مما اضطر الشركة إلى تغيير العديد من قوانينها الداخلية، بل وأسلوبها في الترويج لسلعها. وفي ولاية نيوجيرزي، اتهمت سيدة مغربية، زوجها بالتحرش والاغتصاب، فالتجأت إلى المحكمة طالبة اصدار حكم ”الإبعاد“ ضده، لأنها ترى أن زوجها يمارس عليها عنفا رمزيا وجنسيا. لكن المحكمة اقتنعت بأن ثقافة ودين الزوج يسمحان له بالاستمتاع بزوجته جنسيا متى شاء، ورضاها غير مطلوب. وهكذا رفضت المحكمة طلب الزوجة.

مقابل هذا الحضور ”الإسلامي“، الذي تغذيه تحركات نشطاء إسلاميين، سواء أفرادا أو جماعات، حقوقيون أو رجال دين. وفي ظل الوضع العالمي الذي ”تعيشه الصورة الإسلامية“ سواء دينا أو معتقدين بهذا الدين، كان من الطبيعي أن تظهر حركات مضادة لهذا التوجه. سواء عن قصور في الفهم، أو عن خلفيات إيديولوجية“ محكومة بالفهم الإسلاموفوبي لكل ما له صلة بالإسلام والمسلمين. ولعل خير ممثل لهذا التيار هو دايفيد ياروشالمي D.Yerushalmi، وهو محام من بروكلاين، بنيويورك الذي يعتبر الشريعة ”التهديد الأكبرللحرية في الولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا قام بصياغة مشروع قانون القوانين الأمريكية للمحاكم الأمريكية“ سنة 2009، يسعى من خلاله إلى إقناع المحاكم الأمريكية بضرورة إعمال القانون المدني الأمريكي ورفض أي قوانين أجنبية“، والذي تم إقراره كقانون في بعض الولايات الأمريكية، التي بلغ عددها الأربع حتى الآن، وهي: تينيسي ولويزيانا وأريزونا وكانساس. وقد عرفت هذه الحركة تعاطفا واسعا داخل المجتمع الأمريكي، عرفت امتدادات لها داخل الخطاب السياسي الرسمي، ولعل أهمها ما صدر عن ميت رامني، في نقاش دار في يونيو 2011، حيث قال: ”لن تطبق الشريعة في محاكمنا، إن هذا لن يتحقق أبدا“. غير أن هذا الاتجاه الرافض لنطبيق الشريعة في المحاكم الأمريكية يلقى جدالا دستوريا عميقا. بحيث إن ما يعرف بنظرية ”تنازع القوانين“ وتطبيق

أحكام القوانين الأجنبية في بعض القضايا التي راجت في المحاكم الأمريكية له جذور تاريخية تصل إلي المائتي عام. أضف إلي ذلك وجود محاكم تعتمد القوانين الشرعية اليهودية، في بعدها الديني، بل إن العديد من المحاكم، وفي العديد من الولايات، هناك محاكم يهودية أو بالأحري ”تحكيم“ يفصل في المنازعات بين المواطنين الأمريكين المنتمين لهذه الديانة فيما يخص القضايا التي تكون موضوع نزاع بين الأطراف. ولهذا نجد أن هذا المشروع يواجه العديد من العراقيل، خاصة ذات الطابع الدستوري. وهو ما جسدته بعض الأحكام الصادرة عن بعض المحاكم الأمريكية، على اختلاف دراجاتها، وفي مختلف الولايات الأمريكية.

فهل فشل هذه الحركة، وبعد سبع سنوات من ”النضال“ يعتبر انتصارا للمطالبين بتطبيق الشريعة في أمريكا؟ أم هو حماية لأقلية برهنت عن طريق الممارسة أن الشريعة عندها لا تعني إقامة الحدود، أي أن تطبيق الشريعة عند المسلم الأمريكي لا تدخل في القانون الجنائي، وتنحصر في الأحوال الشخصية؟ وهل تطبيق الشريعة في هذا الباب داخل المحاكم الأمريكية يعتبر احتراما لمبادئ الدستور وحقوق الأقليات الدينية والثقافية، أم إن الشريعة -في ذاتها- تعبر عن انتهاك واضح لحقوق ”الإنسان“؟ وهل تطبيق الشريعة في باب الأحوال الشخصية يعتبر عتبة لمدخل استراتيجي توظفه الجماعات الإسلامية من أجل التحايل على القانون الأمريكي لتحقيق مكاسب والمحافظة على امتيازات

مصلحية لدى الرجل المسلم؟

أزمة المقدس: في الحاجة إلى أسئلة تعتبر ”الشريعة“ هي الحاضنة الأساسية للمشروع اللاهوتي لدى المسلمين. وهم في ذلك لا ينشغلون بالعقيدة بقدر ما هم منشغلون بالقواعد التي أنتجها أسلافهم. ففي الوقت الذي يواجهون واقعا مختلفا، يقتضي منهم البحث في ”العقيدة“ والرفع بمستوى أسئلتها إلى الدرجة التي تصبح فيها قادرة على التحاور مع سياقها العام، يرى المسلمون أن الخطاب الشرعي ”محكم الصنع“ ودورهم ينحصر في إعمال أحكام هذا الخطاب المنتج، واجتهاداتهم لا ينبغي أن تتجاوز ما أجمع عليه سابقوهم (السلف الصالح.(

ففي الوقت الذي تناضل فيه المنظمات الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني على امتداد العالم الإسلامي، من أجل إقرار مدونات قانونية مدنية تعتمد الخلفية الحقوقية العالمية المتعارف عليها دوليا، وفي الوقت الذي يدور فيه نقاش حول ”العلمانية“ وفعاليتها في الرقي بالمجتمع السياسي، نجد المسلمين الأمريكيين يناضلون -غالبيتهم حسب الإحصائيات- من أجل إعمال أحكام الشريعة في أمريكا.

إلى جانب الأسباب التي ذكرناها أعلاه، فإنه يمكن تقسيم المنادين بتطبيق الشريعة إلى صنفين كبيرين: أحدهما إسلاموي مسيس، متشدد يرى في الإسلام الحقيقة المطلقة ومن واجب المسلم تطبيق أحكام الله. وهذا النمط قليل وتشير الإحصائيات إلى أنه لا يتجاوز العشرة بالمائة. أما الصنف الثاني فهو لا يعرف ماذا يعني ”بالشريعة“ خصوصا إذا كنا نعلم أن ”الشريعة“ كمفهوم يظل غير واضح في العموم، لدى عامة الناس. ومن ثم فإن المناداة بتطبيقها يدخل في باب رد الفعل ضدا على ثقافة ومجتمع يراه مناقضا له.

إنها مسألة هوية ثقافية، لكن ضمن هذا الصنف يمكننا أن نميز بين اتجاهات، أهمها ذلك الذي يرى فيه أصحابه أن الشريعة ينبغي أن تطبق في مجال الأحوال الشخصية. خصوصا إذا علمنا أن القوانين الأمريكية في هذا المجال هي نقيض واضح لكل أحكام الشريعة، التي تمثل مصدرا كبيرا للتمايزات بين الرجل والمرأة، بل ومكرسا ومحرضا على هذا، خصوصا حين يتعلق الأمر بالتعدد (تعددالزوجات) الذي يجرمه القانون الأمريكي. أضف إلى أن الإسلام لا يجرم اغتصاب الزوج لزوجته، ولا الزواج من القاصر أو اغتصابها. في الوقت الذي نجد أن القانون الأمريكي يطبق أشد العقوبات على هذه الجرائم.

إلى جانب ذلك، إن وضع المهاجر المسلم في أمريكا، مقيد ومسيج بترسانة قانونية تحمي الأطفال والنساء، ،هذا ما يحد من حضوره البطرياركي داخل البيت، وحتما يحد من حريته في ممارسة حياة يراها طبيعية في ما يخص ميولاته نحو الزوجة. خصوصا أن هناك العديد من الحالات التي يلجأ فيها أصحابها إلى التستر على زيجاتهم في بلدانهم الأصلية، وما يخلق لهم من مشاكل في ما يخص الأبناء، واستقدامهم للعيش معهم في المهاجر. كما أن هناك العديد من الحالات التي ربط فيها مسلمون، خاصة من المهاجرين، علاقات غير شرعية مع قاصرات، أو أرغموا زوجاتهم على أفعال، لعل آخرها، ما يتعلق بالحياة الجنسية غير المتوازنة، وممارسة العنف الرمزي داخل البيت، سواء تجاه الأبناء أو الزوجات. وهو ما يتعارض مع القوانين الأمريكية التي يجد نفسه، بحكمها، داخل إطار الاتهام بارتكاب جريمة قد تزج به في السجن أو الترحيل أو تكلف الدولة بتربية الأبناء بعد أن يؤخذوا منه بالقوة.

فالمحرك الأساس من وراء محاولات إعمال الشريعة، لدى فئة من المسلمين الأمريكين وبالأخص المهاجرين منهم، ناتج عن خلفية ”تحايلية“ يراد من ورائها تحقيق مآرب شخصية. لأن الشرع، بطابعه المرن، وبنيته المتسمة بالتطويع، يمكن أن يتم الاجتهاد من داخله وتحقيق توافق لن يكون معارضا للقوانين المدنية المعمول بها في أمريكا.

ما العمل لقد صار الاعتقاد السائد هو أن التشريع فعل إلهي، ومن ثم اكتسب نوعا من القداسة والتعالي. ولهذا يتم فهم الواقع الراهن وفق تأويل قسري حتى يتماشى مع الفهم الماضي ويطابقه، ومن هنا يصير من الممكن استيراد الحلول الماضية لتطبيقها علي مقاس الزمن الماضي. والشريعة تطرح أزمة تأويلية لا يمكن للحاضر أن يكون إلا صورة مشوهة للماضي،ومن واجب المسلم أن يعيد عجلة الحاضر ”الضال“ إلى الماضي الصحيح.

فالإسلاميون لايرفضون القوانين المدنية، متى كانت صالحة لهم. ولكن الظاهر، وما يروجون له، لا ينبع عن رفض، وإنما هم يرفضون هذه القوانين لأنها تجعل من الإنسان مركز العالم، ومركز الفعل الحقوقي ولا دخل لأي قدرة أو لاهوت فيها. ولهذا ترى الحركات الإسلامية في ذلك شركا بالله، أي إن الموروث الرمزي للمقدس يكون مهددا، وهو ما يهدد وجودهم، ومصالحهم، ومستقبلهم ماداموا غير قادرين على بلورة مشروع فكري يقطع مع الماضي قطيعة كوبرنيكية.

والمسلمون، بهذا، خاصة في الغرب، يتناسون أن الخلفية النظرية وعمقها هي الأهم، لأن الأفكار تتجاوز الظرفي والآني وأما الشعارات فتتهاوى نظرا لارتباطها بالعملي السطحي الذي لا يمكنه النفاذ إلى التاريخ والتأثير فيه. ومن هنا -يرى أنس الطريقي- أن المعتدلين والمتشددين وإن اختلفوا من الناحية العملية فإن الخلفية النظرية التي تتحكم فيهم جميعا هي واحدة، وهي تطبيق الشريعة. وهي التي يلتقيان حولها، لأنها تشكل المشروع الذي تأسست عليه الحركات الإسلامية. ذلك أن هذا الشعار الذي يوازيه ”الحل هو الإسلام“ لا يكمن في مجرد تطبيق قانوني يراه المسلم ضرورة لحماية حقوقه في الداخل أو الغرب، وإنما ”هو تعبير عن تأويل ميتافيزيقي كامل للوجود ومنزلة الإنسان فيه“. لأن ”الشريعة“ وخطابها وفهمها، هي نسق متكامل لنظرة الإنسان المسلم إلي العالم. وهذه النظرة هي التي لا يعيها العديد من الإسلاميين، وهي نفسها التي تصبح أداة لإعادة إنتاج الصورة النمطية للعنف والتعدد والاضطهاد في الخطاب الإعلامي الغربي الذي يؤثر في الرأي العام المنتج للنخب السياسية في الغرب.

إن الشريعة، باعتبارها، خطابا قانونيا يتدخل في الكثير من الممارسات والأفعال الإنسانية، تحتاج إلى مقدمات جديدة مبنية على أسئلة مغايرة لتلك التي هيمنت عليها طوال تاريخ تأسيسها وإنتاجها. أي ينبغي فهم العقيدة قبل تعلم القاعدة. لأن الفهم الجديد هو وحده القادر على إخراج العقل الإسلامي من المآزق التي تقيده وتحد من قدرته على الانفتاح والتجدد والتخلص من الفهم القديم الذي تم تجاوزه بتجارب إنسانية أغنت العقل الإنساني. خصوصا أن ماضينا الحضاري يضعنا أمام تجربة غنية، بل إن التجرية الفكرية والثقافية الإسلامية، في مرحلة الإنتاج المعرفي، لم تقف عند القضايا البسيطة، بل تعدتها ليشمل الاختلاف صورة الإله، مثلا، فمنهم من رآه متعاليا، ومنهم من رآه يحل في الذات الإنسانية، ومنهم من رآه مستبدا جبريا، ومنهم من رآه عادلا، بل منهم من ماثل صورة الإله بصورة ومنهم من جرده. ولعل قول ابن حزم معبر إلى حد بعيد حين قال: (في الفصل بين الملل والنحل. ج1- ص.328) «فإما أنهم يستصغرون الله، وإما إنهم يتحدثون عن إله آخر“.

السؤال الذي ينبغي للحركات الإسلامية، وللمسلم الأمريكي أن يجبوا عليه، هو: هل تحققت العدالة الأسطورية التي يصورنها، ومتى تحقق الرفاه والتسامح حتى يكون كل هذا الحلم من أجل إعادة استنساخ التجربة؟ واضح أن الانهيارات والأزمة التأويلية وأزمة الفهم التي يعاني منها العقل الإسلامي، تجعل من المقدس“ إحدى أكبر ملاجئه، خصوصا أن ”المقدس“ يتغذى من رمزيته بصفته نسقا يساعد على تجاوز العدم والإحباط والاغتراب، التاريخي أولا والحضاري ثانيا، إذ يضفي معان على جوانب مسنعصية على علاقات الفرد والجماعة مع العالم.

غير أنه -ونحن نتحدث عن الإسلام الأمريكي- سرعان ما يتحول إلى أداة عزلة ووهم يخرج الجماعة والفرد، على السواء، من عجلة التاريخ والإنتاج المعرفي. فما معني أن يصبح ”المشروع الإسلامي“ في العالم ينحصر في مطالب من قبيل تخصيص قاعة للطلبة المسلمين في إم.آي.تي أو هارفرد لأداء الصلاة؟ وما معنى أن تصبح مطالبهم منحصرة في استبدال لفظة God بكلمة ”الله“؟ لقد جعل علماء الفقه من أنفسهم مشرعين فاجتهدوا من أجل بناء قانوني ملزم، ومع الوقت، ومع انتصار عقل النقل، وإغلاق باب الاجتهاد، صار الدين هو القواعد، وصار التقرب من الخالق لا يتم من خلال الإيمان والضمير الإنساني الباطن في الفرد،وإنما صار لا بد من المرور عبر ”إجراءات“ وقواعد، أي صارت القاعدة هي مدخل العقيدة، والحال أنه ينبغي قلب المعادلة.

هيسبرس

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث