استحق أبو حيان التوحيدي حياة أفضل من تلك التي عاشها، فعقله المتنور وثقافته العظيمة كانا جديريْن بكل فروض الإجلال والتوقير من قِبَلِ معاصريه وأهل زمانه، لكن هؤلاء ضنوا عليه بهما، فعاش حياة قلقة مُرة، انتهت به آخر الأمر إلى التفكير في إحراق كتبه ومصنفاته. فماذا أراد بحرقه لأعماله؟
سفيان الصمدي
لقد أراد أبو حيان التوحيدي، بحرقه لأعماله، قتلَ نفسه مرتين؛ لأنه كان مدركا أن أعماله ومصنفاته قطعة من نفسه وعقله، وثمرة تفكيره وتجاربه وبحثه الطويل عن المعرفة، فقرارُه التخلصَ منها إذن، ولا شك في ذلك، قد نضَجَ في نفسه بعد تفكير طويل ومكابدة شديدة وألم عظيم.
فصول كثيرة في أعماله التي نجت من المحرقة، تكشف مقدار شقائه واغترابه وقنوطه وبرمه بالحياة وبالناس، حتى من كانوا أندادا له في الثقافة والذكاء. ولعل سبب ذلك لم يكن فقرُه وعوزُه ووضاعةُ أصله فقط، بل أيضا، وهذا مؤكد؛ حساسيتُه المفرطة واعتدادُه الشديد بنفسه وعقله، لذلك نجده لا يعمر طويلا، كغيره من مثقفي ذلك الزمان، في مجالس الوزراء والسلاطين التي كانت قبلة يؤمها العلماء والمثقفون للإثراء والاغتناء بما يجود به أصحابها، لأنه لم يكن كغيره يستسيغ الحط من كرامته إذا ناظر وجادل وانتصر، في الوقت الذي كان فيه غيره في تلك المجالس يتعرض للإذلال والإهانة بحق أحيانا، وبغير وجه حق في أحايين كثيرة.
قبل إقدام التوحيدي على حرق كتبه، وكان ذلك في أواخر حياته، كانت مؤلفات أخرى كثيرة انتشرت واشتهرت باسمه، فذاعت بين الناس إلى أن وصلتنا فحُقِّقت ونُشِرت. كثيرٌ منها اعترف به وصرح بنسبته إليه كالإمتاع والمؤانسة وأخلاق الوزيرين والصداقة والصديق، وبعضُها ألفه منسوبا إلى غيره، خوفا من بطش الناس بسبب ما تضمنته من آراء وأفكار ومواقف غاية في الجرأة، وهذه الكتب هي التي تكشف بصدق شخصيةَ أبي حيان المنفعلة والمندفعة والماقتة لكل قيم وأعراف مجتمعه. وكتابه الرسالة البغدادية من جملة الكتب التي ألفها التوحيدي ونحَلَها غيرَه، نحله لشيخ أديب سماه أبا المطهر محمد بن أحمد الأزدي.
والكتاب عموما حكاية تدور في مجلس واحد استغرق يوما بليله ونهاره، بطلها رجل آخر سُمّي أبو القاسم أحمد بن علي البغدادي، رجل اجتمعت فيه كل الصفات المتناقضة والخصال المتباينة: “شيخ بلحية بيضاء، تلمع في حمرة وجهٍ يكاد يقطر منه الخمر الصرف، عيارا، نعارا، زعاقا، شهاقا، طفيليا، رصافا قصافا، مداحا، قداحا، ظريفا سخيفا، نبيها، سفيها.. همازا، لمازا، صديقا، زنديقا…”
يقتحم هذا الرجل مجلسا لا يعرفه فيه أحد، بلا إذن ولا دعوة، مظهرا أمارات الورع والخشوع والتقوى، مرسلا نفسه على سجيتها في الوعظ والأمر بالمعروف، لكن ينبهه أحد الحاضرين أن ليس في “المجلس سوى من يشرب وينيك”، وهنا يشهر أبو القاسم لسانا من نار يشوي به وجوه الحاضرين بسباب مُمعِنٍ في الخلاعة والرقاعة والوضاعة، وهذا الإمعان لن تجد له مثيلا في ثقافتنا العربية قديمها وحديثها.
فهذا الكتاب يكشف عن توحيدي جديد مختلف تماما عن التوحيدي الذي عرفناه في مؤلفاته الأخرى، فهو رغم حبه الشديد لبغداد وعادات أهلها، ينتقدهم نقدا شديدا، ويشنع عليهم وعلى غيرهم تمسكهم بمواضعات لا نفع فيها.
وقد هاجمه كثير من التراجمة ونسبوه إلى الزندقة والإلحاد بسبب ما نحله غيره من رسائل ومؤلفات، لكن آراءهم فيه لم تمنع التوحيدي من أن يتبوأ مكانة عظيمة بين مثقفي القرن الرابع الهجري الأكثر شهرة بين قرون الإسلام الأربعة عشر.
إن شخصية التوحيدي الحقيقية، والتي طالما حرص على إخفاء ملامحها في مؤلفاته التي نسبها إلى نفسه، هي امتداد لشخصية أبي القاسم البغدادي الخيالية، تقمصها وبث أفكاره وآراءه من خلالها، والاقتباس التالي كاف لمعرفة أي نوع من الناس كان أبو حيان:
“ويقول: ويحكم، ألا ترتاحون إلى المكارم؟
فيقال: يا أبا القاسم، إيش نقول، إيش نعمل؟
فيقول: تكونون ناسا فيهم خير ومروءة، ولا تكونون بهايم.
فيقال: يا أبا القاسم، وكيف نكون ناسا؟
فيقول: وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون، إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء.. أبيع الدر في أصحاء الآجرِّ، كأنهم حُمُر مستنفرة، فرت من قسورة، صم بكم عمي فهم لا يعقلون…
فيقال: يا أبا القاسم، آخره قل لنا.
فيقول. وتقبلون مني؟
فيقولون: نعم.
اقبلوا ما آمركم به، وانتهوا عما أنهاكم، عنه، قابلوا قولي بالطاعة، فإنني ناصح لنفسي والجماعة. مَن كان منكم له مال فلا يتوقع به حادثا يسرع إليه، ولا يخلفه لوارث لا يترحم عليه. ومن كان منكم فقيرا فليتقرض ويستدين، ولا يبال بكثرة الغرماء والمطالبين، افتنُّوا في أكل الطيبات، وشرب المسكرات، وسماع المطربات المحسنات ونيك السواذج والمغنيات، نيكوا من قيام، وصلوا من قعود، نيكوا الأحرار، ولا تعفُّوا العبيد، نيكوا سرا وعلانية، نيكوا المملوكة والحرة، والزانية والمستورة، نيكوا ما دامت أيوركم تقوم، فإن قيامها شيء لا يدوم، نيكوا الصغار والكبار، نيكوا الأحراح والأجحار، نيكوا الصبايا الناهدات، والعجائز الهرمات والغلمان الصِّباح، والمشايخ القِباح.. تمتعوا بالجواري والغلمان، تنعموا بالصبايا والولدان، لا تتخذوا من الإخوان إلا من لجَّ في خلع عَذاره، ووصل بالمجون ليله بنهاره، ليست له صائبة تؤويه، ولا زوجة تحظر عليه وتؤذيه، قد أرسل أيره يمينا وشمالا، ينيك حراما وحلالا؛ فذاك العاقل الأريب، والفتى النجيب، استخلصوه لأنفسكم صديقا، واتخذوه أخا وشقيقا… هذه والله ــ نصيحة رجل يريد بكم الخير…”