المصدر: إبراهيم عزت
بسمة مصطفى, محمد جمال و نهلة النمر
١٠ أبريل ٢٠١٧
بدأ أحد السعف بقداس داخل الكنائس الأرثوذكسية المصرية واختتم، مساء الأمس، الأحد، بصلاة على جثامين مُزقت إلى أشلاء في طنطا.
خلال قداس أحد الشعانين بكنيسة مارجرجس، أكبر وأقدم كنائس مدينة طنطا بمحافظة الغربية، وقع انفجار مدوي داخل قاعة الصلاة صباح أمس. عَصَفَ التفجير بالمصلين داخل كنيستهم في يوم يحملون فيه السعف لإحياء ذكرى دخول المسيح إلى القدس إيذانًا ببدء أسبوع الآلام السابق لعيد قيامة المسيح.
بعد ثلاث ساعات من تفجير طنطا فَجَّرَ انتحاري نفسه أمام بوابة الكنيسة القبطية أقدم الكنائس بالإسكندرية، وأول كاتدرائية للأقباط الأرثوذكس، والتي كانت مقرًا لإقامة بطريرك الكرازة المرقسية، قبل تأسيس كاتدرائية العباسية في العام 1969.
شهدت الكنيسة، أمس، ترأس البابا تواضروس الثاني لقداس بمناسبة أحد الشعانين، الذي يقام يوم الأحد الأخير قبل عيد القيامة. جرت العملية على البوابة لأن الانتحاري لم يتمكن من عبور البوابة التفتيش المعدنية.
رصد «مدى مصر» مشاهدات ليوم الألم في كنيستي طنطا والإسكندرية. ما جرى بعد التفجيرين، وحكايات الموت والبحث عن الأشلاء الدموية في محيط كنيسة مارجرجس ومسيرات الغضب حول المرقسية.
طنطا: موت جديد في عيد
تجلس سيدات يتشحن بالسواد على عتبات كنيسة مار جرجس بمدينة طنطا. يتحدثن وعيونهن شاردة من مشاهد الرعب التي عايشوها.
تقول واحدة من السيدات الجالسات على عتبات مار جرجس بطنطا لـ «مدى مصر» : «شفت أشلاء إخواتنا متقطعين أول ما جيت على الكنيسة»، وتتابع سيدة أخرى، بينما يشوب صوتها البكاء، أنها رأت أمعاءً مُعلَّقة على المقاعد المُحطَّمة. تصمت السيدة لتفتح حقيبتها وتخرج منها قطعًا متناثرة لزي أحد الشماسين، كان قد لقى حتفه من جراء الانفجار.
«كرسي الباباوية انفجر فجأة. والجثامين أصبحت عبارة عن أشلاء متناثرة في كل مكان. ومن ضمن الضحايا كهنة وشماسين»
حتى لا تدوس الأقدام على الأشلاء
لم يتوقف توافد أصدقاء وأهالي القتلى والمصابين والمتضامنين على أبواب كنيسة طنطا الأكبر منذ التفجير، رغم إغلاق الأبواب لحين اكتمال تنظيف ساحتها.
كان العمال يبنون المدافن على جانبي الكنيسة، التي شهدت قداسًا على جثماين وأشلاء ضحايا التفجير في وقت متأخر من مساء الأمس.
يقول الشماس بكنيسة مار جرجس، صليب صبحي، لـ «مدى مصر» إن :«كرسي الباباوية انفجر فجأة. والجثامين أصبحت عبارة عن أشلاء متناثرة في كل مكان. ومن ضمن الضحايا كهنة وشماسين».
لم تعلن الداخلية رسميًا عن طبيعة تفجير طنطا، بينما أعلن بيان منسوب إلى تنظيم ولاية سيناء عن حدوث التفجيرين نتيجة انفجار سترتين ناسفتين.
داخل الكنيسة كان الجميع يمشي بحذرٍ حتى لا تخطو أقدامهم على الدماء المتناثرة. مقاعد محطمة وآثار لدماء في كل مكان، على الأرض، والجدران، وحتى السقف.
تقوم سيدات فجعتهن الحادثة بجمع بقايا متعلقات ضحاياهم. تشتمل حصيلتهن على أحذية وقطع من الثياب ومناديل مُلطَّخة بالدماء، ثم يبدأن في تقبيلها واحتضانها.
طواف داخل المستشفيات
بعد التفجير مباشرة رَقَدَ المصابون في أروقة عدة مستشفيات منها: طنطا الجامعي، والمنشاوي، والأمريكان. وقد تنوعت الإصابات بين حروق وجروح قطعية وأخرى متهتكة. بينما استقرت أجساد المصابين لتخضع لمحاولات عاجلة لإنقاذها في أقسام العظام، وعمليات جراحة المخ والأعصاب، والقلب والصدر، والجراحة العامة، حسبما يؤكد نائب قسم الجراحة بالمستشفى الجامعي.
«هو فين؟ يعني خلاص، مش هنشوفه تاني. وبنته الخمس شهور دي هتعيش إزاي من بعده؟ تعالى يا بيشوى وحشتنا يا بيشوى»
كان مدير الاستقبال بمستشفى المنشاوي، الدكتور سمير صبحي، قد قال لـ «مدى مصر» بالأمس: «استقبلنا 8 حالات وفاة، و13 حالة لمصابين، بينما تمّ تحويل 7 حالات إلى مستشفى القصر العيني بالقاهرة نتيجة لحالتهم الخطرة»، مؤكدًا على أن الإصابات كانت في أغلبها حروقًا وكسورًا.
كان وزير الصحة قد أعلن، أمس الأحد، عن نقل 11 مصابًا من مستشفى المنشاوي بطنطا إلى معهد ناصر، وجميع الحالات المصابة بمستشفى طنطا الجامعي إلى القصر العيني الفرنساوي بالقاهرة. فيما بلغت الحصيلة النهائية للضحايا اليوم، بحسب وزارة الصحة، 28 قتيلًا، و78 مصابًا.
تحمل عربة الإسعاف واحد من المصابين، والذي يبلغ من العمر 50 عامًا، فيما تقول زوجته لـ «مدى مصر»: «زوجي مريض قلب وأول ما شاف اللي حصل أغمى عليه، ودلوقتي مصاب بارتجاج في المخ».
في محيط مشرحة مستشفى طنطا الجامعي تحتضن أم ابنتها الشابة، التي لم يمر على زواجها إلا عامًا ونصف العام، وقد صارت أرملة من جراء التفجير.
تحاول الأم تهدئة الأرملة الشابة في حين لا تكف الأخيرة عن الحديث: «هو فين؟ يعني خلاص، مش هنشوفه تاني. وبنته الخمس شهور دي هتعيش إزاي من بعده؟ تعالى يا بيشوى وحشتنا يا بيشوى».
يقول هاني منير ميخائيل لـ «مدى مصر»: «جثة ابن عمي اختفت معالمها تمامًا، وهو شاب يبلغ من العمر 35 عامًا، ولديه طفلين صغيرين».
يوضح نائب رئيس قسم الجراحة بمستشفى طنطا الجامعي لـ «مدى مصر» أن الفئات العمرية للمصابين متنوعة وتشمل رجالًا ونساءً وأطفالًا. كما يشير طبيب المستشفى الجامعي إلى أن الشظايا المتواجدة داخل أجسام الضحايا عبارة عن أجسام صلبة، وقد حصل الطب الشرعي على عينات منها للتعرّف على طبيعتها.
وسط تواجد مكثف للأمن في المشرحة تعلو آثار الدماء ملابس بيشوى صموئيل الذي كان ينقل الأشلاء والمصابين من داخل الكنيسة. فَقَدَ بيشوي زوج أخته في الحادث؛ كان شماسًا وتوفى عن عمر 40 عامًا، وقد ترك ولدًا وبنتًا في عمر الزهور، يقول بيشوي لـ «مدى مصر» إن «التفجير كان في أول صف، ولم يتبق من قريبي إلا نصف الرأس وساقين مقطوعتَين». يتهم بيشوي الدولة وقوات الأمن بالتقصير في حماية الكنيسة، خاصة أنها كانت قد شهدت تفكيك قنبلة قبل عشرة أيام.
كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أعلن، مساء أمس حالة الطوارئ بعد استيفاء الخطوات القانونية المطلوبة لسريانها، وذلك عقب اجتماعه مع مجلس الدفاع الوطني. كما أقال وزير الداخلية مجدي عبد الغفار، عصر الأمس، اللواء حسام الدين خليفة مدير أمن الغربية من منصبه.
يتحدث بصعوبة بالغة ليهمس: «ربنا نجانا». بينما تقول زوجته: «لغاية امتى أعيادنا هتتحوّل لجنازات وسواد؟»
الأعياد صارت سوادًا
كان صوت الانفجار شديدًا للغاية، حسبما يؤكد شهود عيان من سكان العمارات المحيطة بالكنيسة لـ «مدى مصر» في طنطا بالأمس. تقول إحداهن: «النهارده كأنه يوم القيامة».
تحكي السيدة أنها صَحَتَ مفزوعة من النوم على صوت الانفجار، ثم فتحت البلكونة لتسمع صراخًا، ورأت الناس تجري حاملة لأشلاء القتلى.
تسكن سيدة أخرى على بُعد شارعين من الكنيسة وتقول لـ «مدى مصر»: «صحيت على السرير بيتحرك بيَا من شدة الانفجار، والنجفة بتتهز وكانت هتقع، وزجاج أبواب البلكونة كان بيترج».
داخل قسم العظام بمستشفى المنشاوي يرقد واحد من المصابين . كان يتحدث بصعوبة بالغة ليهمس: «ربنا نجانا». تتوزع شظايا داخل جسده، حيث تنتشر في كل من ذراعيه الأيمن وساقيه وقد انخَلَعَ كتفه الأيسر، بينما تقول زوجته: «لغاية امتى أعيادنا هتتحوّل لجنازات وسواد؟».
كما توافد على مسجد المنشاوي بطنطا، المجاور لمستشفى يحمل الاسم نفسه، العديد من المُتبرِعين بالدماء. تحوّل هؤلاء المتبرعون إلى مساعدين للمتبرعين الجدد، وقد جاء بعضهم من مدن مجاورة. يقدر أحدهم لـ «مدى مصر» أن عدد المتبرعين داخل المسجد ربما قد بلغ 1200 متبرعًا.
الإسكندرية، هتافات غاضبة ومواجهات مع الشرطة
بعد وقت قليل من تفجير الكنيسة المرقسية في الإسكندرية، خرج عدد من الشباب في مسيرات عفوية، كانوا يحملون لافتات عليها شعارات دينية مسيحية، وهتفوا: «ياللي ساكت ساكت ليه». حينما وصلت هذه المسيرات إلى ميدان المنشية، فَضَّتها قوات الأمن.
تتعالى الهتافات: «طول ما القبطي دمه رخيص يسقط يسقط أي رئيس»، «يا اللي بتسأل إحنا مين إحنا أصل المصريين».. فيما يهتف أحد الضباط: «ما إحنا كمان كظباط بنموت»
خلال المسيرات صاحب أحد الكهنة قوات الأمن ليهدئ الشباب الغاضب. فيما هتف أحد الضباط المُشرِفين على الفَضَّ قائلًا: «ما إحنا كمان كظباط بنموت».
لم تنقطع الوقفات الغاضبة أمام الكنيسة المرقسية بعد الانفجار. وتنوعت هتافات المحتجين بداية من الدعوة للحشد عبر شعارات مثل «يا اللي بتسأل إحنا مين إحنا أصل المصريين» أو هتاف البعض: «يا أبو دبورة ونسر وكاب أنت اللي صنعت الإرهاب» كما تعالى صوت البعض هاتفًا: «طول ما القبطي دمه رخيص يسقط يسقط أي رئيس»، وأخيرًا الإشارة إلى ضرورة تحمل وزير الداخلية مجدي عبد الغفار للمسئولية عن استمرار استهداف الأقباط بعمليات إرهابية عبر هتاف : «شكرًا ع الهدية يا وزير الداخلية» أو «ارحل يا عبد الغفار».
كما طرد المتظاهرون أمام الكنيسة نائب محافظ الإسكندرية، الذي جاء من أجل زيارة المرقسية. استمرت الوقفات رغم محاولات قوات الأمن لفَضَّها إلا أن المتظاهرين لم يغادروا مواقعهم. كما هاجم بعضهم قوات الشرطة بعدما منعت بعض المسيحيين الراغبين في الانضمام إلى الوقفات أمام الكنيسة من المرور.
يحكي شاب يدعى ماجد لـ «مدى مصر» عن حارس الكنيسة، الذي قُتل بالأمس في الانفجار. كان الحارس الخمسيني المسلم على وشك إنهاء مدة عمله بالكنيسة ليقتل أمام بوابتها.
ذكرى أخيرة
كانت الشرطية أسماء أحمد (29 عامًا) تقيم بشبراخيت بمحافظة البحيرة، وتعمل في ميناء الإسكندرية، وكلفت بتفتيش السيدات قبل دخولهن إلى الكنيسة المرقسية لحضور قداس الأحد.
يقول أحد أقارب أسماء لـ «مدى مصر» إن الأسرة حينما توجهت إلى مستشفى الشرطة بالإسكندرية لم تجد سوى أشلاءً، ويوضح أن زوج القتيلة تعَرّف عليها من ملابسها.
فيما كان أمين الشرطة عصام أحمد الديب ضمن قوات تأمين الكنيسة صباح الأمس، ويتذكر أحد أقاربه آخر ذكرى جمعته بالقتيل: «كان مصلي بينا العصر امبارح (السبت) وعمره ما زعل حد منه». بينما لم يتسلم رفعت الشريف جثمان ولده محمد، المجند بالجيش، إلا بعد العاشرة مساءً، بعد نهاية الإجراءات والحصول على تصريح النيابة. كان محمد يؤدي فترة تجنيده منذ سنة ونصف وقبل نهاية إجازته، قبل يومين من مقتله قال لوالده: «أنا مسافر وربنا يعوض عليّا».
علاقات متوترة
تقع الكنيسة المرقسية في شارع كنيسة الأقباط، أحد الشوارع الحيوية بمدينة الإسكندرية، وقبل أيام من التفجير كانت المنطقة المحيطة بالكنيسة مؤمنة على أعلى مستوى، وتتواجد أعداد كبيرة من قوات الشرطة. كان المرور ممنوع أمامها إلا أن المشهد تغيّر صباح أحد السعف، فقد اختفت العديد من مظاهر التأمين، حسبما يؤكد شهود عيان من المنطقة لـ «مدى مصر».
داخل إحدى المنازل الملاصقة للكنيسة روّت واحدة من العائلات لـ «مدى مصر» وقائع ما جرى أثناء الانفجار.
تقول سيدة مُسنة إنها كانت نائمة وقت حدوثه، لكنها سقطت من السرير على الأرض إثر سماعها لدويه. وجدت أن نوافذ المنزل قد تحطمت، وجانب من بابه كذلك.
بينما تقول شقيقتها لـ «مدى مصر» إنها كانت خارج المنزل وقت الحادث في حين كانت شقيقتها الأكبر سنًا وحدها، وتوضح : «أختي معاقة، مش بتعرف تمشي».
«ليه؟.. ما إحنا عايشين مع بعض، والمسلمين وسطينا ما حدش فينا بيضايقهم».
تسكن هذه العائلة داخل عمارة قديمة متهالكة مجاورة للكنيسة المرقسية. تشكو السيدة قائلة: «إحنا الأسرة المسلمة الوحيدة في العمارة، ما حدش سأل فينا من الجيران ولا اطمن علينا، حتى جاري خبطت أطّمن عليه، رد عليّا باقتضاب رغم إن طول عمرنا علاقتنا جيدة جدا».
قُتِلَ إبراهيم، الشاب الثلاثيني، الذي عاد إلى مصر من إيطاليا في زيارة. كان متواجدًا بالكنيسة المرقسية لحظة الانفجار. قال والده لـ «مدى مصر» : «أهو راح زي اللي راحوا ولا هيحصل حاجة».
أعلنت وزارة الصحة، اليوم الإثنين، عن حصيلة ضحايا الانفجار: 17 قتيلًا، و48 مصابًا.
كان مجدي شقيق إبراهيم يبيع الزهور داخل الكنيسة أثناء الانفجار، وقد تعرض لإصابة في قدمه. يتساءل مجدي في ذهول: «ما هو أنا هاقول مين اللي عملها يعني؟ واحد مسيحي مثلًا؟ واحد يهودي؟»، ويستكمل أسئلته التي لا يتلقى عليها ردودًا: «ليه؟.. ما إحنا عايشين مع بعض، والمسلمين وسطينا ما حدش فينا بيضايقهم».