حسين الوادعي:
شائعة جدا تلك الفكرة القائلة إننا، من أجل محاربة التطرف والإرهاب، يجب أن نعرف الناس بـ”الدين الصحيح”. لكن، هل المشكلة فعلا في تعريف الناس بالدين الصحيح؟ أم أن المشكلة تكمن في فكرة “الدين الصحيح” نفسها؟
أحد أهم الدروس التي تعلمناها من تاريخ الأديان، هو عدم وجود تفسير واحد وثابت للنص الديني. فـ”النص الخام” لا ينطق بنفسه وإنما يُنَطِقه الرجال حسب وعيهم وعصرهم.
فما دمنا لا نستطيع النفاذ إلى “النص” إلا عن طريق “التفسير”، يصبح الحديث عن “دين صحيح” حديثا إشكاليا؛ فأي تفسير من بين عشرات التفسيرات المطروحة يمكن اعتباره “الدين الصحيح”؟
عندما يحضر الإيمان بتفسير واحد ووحيد، تنتفي فكرة “حرية العقيدة”؛ لأن الحرية تقتضي الاختيار بين أكثر من بديل، بينما الدين “الصحيح” لا يعرف أي بديل آخر، وإلا لما كان صحيحا
حين يغيب الوعي بالمسافة بين “النص” و”التفسير”، أو بين “الدين” و”الفكر الديني”، أو بين “الديانة” و”المذهب”، تهرع كل جماعة لتدعي أن عقيدتها أو مذهبها وحده هو “الدين الصحيح”، وأي تفسيرات أخرى هرطقة وزندقة يجب أن تنتهي بحد السيف.
كانت فكرة “الدين الصحيح” الوقود المحرك لأغلب الصراعات الدينية، سواء داخل الدين الواحد أو الأديان المختلفة. وكان أتباع كل مذهب يحاولون فرض مذهبهم بالقوة على أتباع المذاهب الأخرى ما إن يستتب لهم الحكم.
لنتأمل أكثر في تبعات فكرة “الدين الصحيح”: أغلب المتطرفين وأغلب الحركات الإرهابية أتت من ذلك الإيمان الخطر بوجود تفسير وحيد وثابت وأبدي للنص الديني. فهي بذلك تكتسب الغرور المقدس الذي يجعلها قادرة على ارتكاب أبشع الفظائع، بضمير بارد من أجل فرض ما تعتقده “دين الله”.
الخوارج على سبيل المثال كانوا من أوائل الجماعات التي آمنت إيمانا أعمى بامتلاكها التفسير الوحيد الممكن للنص. كان إيمانها الأعمى وقود الوحشية والدموية نادرة المثال التي جعلتها تقتل الأطفال وتبقر بطون الحوامل وهي تبكي من تقوى الله وتقضي ليلها ونهارها في التعبد وقراءة القرآن.
عندما يحضر الإيمان بتفسير واحد ووحيد، تنتفي فكرة “حرية العقيدة”؛ لأن الحرية تقتضي الاختيار بين أكثر من بديل، بينما الدين “الصحيح” لا يعرف أي بديل آخر، وإلا لما كان صحيحا؛ لأن (الحق لا يتعدد) كما كان يقول المتكلمون القدامى!!
خارج هذا المعيار الذاتي، من الصعب التحدث عن أي معيار خارجي أو تاريخي آخر لـ”صحة” الإسلام أو المسيحية أو اليهودية.
في أوروبا مثلا، استمرت الحروب الدينية المسيحية 100 عام، ولم تنته إلا بعد ان اكتسب الأوربيون الروح العلمانية وتخلوا عن فكرة “الدين الصحيح” لصالح فكرة حرية العقيدة و”التدين الشخصي”.
شخصية التدين تعني أن الدين يعود للمجال الخاص والشخصي للفرد، الذي يحق له أن يعتنق الدين الذي يشاء وأن يفهمه كما يشاء، دون أي ضغط خارجي.
كما تنتهي، مع حرية الاعتقاد، وظيفة الدولة في الرقابة على السلوك الديني وتنتهي إلى الأبد فكرة الجهاد أو بتعبير أكثر وضوحا، فكرة “الحرب الدينية المقدسة والدائمة من أجل فرض الدين الحق على الآخرين بقوة السيف”.
المشكلة الثالثة التي تضعها أمامنا فكرة “الدين الصحيح”، هي معيار الصحة. عندما تتأمل في الأديان، تكتشف أنها جميعا لا تملك أي دليل عقلي أو علمي أو تاريخي على صحتها. من أين يكتسب المؤمنون قوة الايمان بصحة دينهم؟ إنه اليقين الذاتي الداخلي للفرد المؤمن وللجماعة المؤمنة. ولأن هذا المعيار “ذاتي وداخلي”، فإنه لا يعطي الجماعة أي حق في فرض خيارها الديني على الآخرين. معيار صحة نبوة محمد هو أنه كان مؤمنا أشد الإيمان أنه نبي مرسل من الله، وكان أتباعه مؤمنون إيمانا أعمى بصحة نبوته ووحيه.
خارج هذا المعيار الذاتي، من الصعب التحدث عن أي معيار خارجي أو تاريخي آخر لـ”صحة” الإسلام أو المسيحية أو اليهودية. كون معيار “صحة” الأديان معيارا داخليا، فهذا يجعل كافة الأديان والمذاهب في نفس المستوى من الصحة والموثوقية، ما دامت جميعها تهدف للوصول إلى الله. فأنا مسلم مثلا، ومعيار صحة إسلامي هو إيماني الداخلي الذاتي بأنني على الدين الصحيح. خارج هذا، ليس لدي أية أدلة علمية أو تاريخية على صحة ديني الإسلامي. لذلك، لا يحق فرضه على الآخرين أو الادعاء أنه وحده “الدين الحق”.
إنطلاقا من هذا، أعود إلى السؤال المطروح في بداية هذا المقال، لأقول إن الحديث عن الدين الصحيح ليس الطريق الصحيح لمحاربة التطرف؛ خاصة أن داعش والقاعدة وأنصار الله وغيرهم من حركات الإرهاب الديني يدعون أنهم يمثلون الدين الصحيح.
الطريق الصحيح لمحاربة الإرهاب هو الإيمان بحرية العقيدة والتدين، وأن كل الأديان والمذاهب تمتلك نفس الدرجة من الصحة والموثوقية، ما دامت لا تعتدي على حريات الآخرين ولا تحمل السلاح ضدهم.
فلننس فكرة الدين الصحيح ولنركز على حرية الاعتقاد.
ـ حسين الوادعي كاتب وباحث يمني