محمد سعيد(*):
تحدث الملك محمد السادس في رسالة وجهها يوم الثلاثاء 13 يونيو 2023 إلى المشاركين في المؤتمر البرلماني الدولي حول “حوار الأديان: التعاون من أجل مستقبل مشترك”، الذي عقد بمدينة بمراكش بين 13 و15 يونيو الجاري، على ضمان الحرية الدينية للمواطنات والمواطنين المغاربة بقوله: “إذا كان الإسلام دين الدولة، فإن دستور المملكة يؤكد على أن الدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”، وهذا لا يحتاج للتأويل من أي طرف كان، فأعلى سلطة في البلاد مؤتمنة على حماية الحرية الدينية لكل مكونات المجتمع المغربي على اختلافها عقديا ودينيا”، وأضاف الملك أن “تكريس التعايش الإيجابي والتفاهم والتعاون حول أهداف إنسانية، يكون رافعة أساسية لتجنب البشرية شرور الفتن والأوجاع والمعاناة”.
فلأول مرة بالمغرب يكون الخطاب الملكي صريحا تجاه المكونات الدينية بحقها في ممارسة شعائرها بلا خوف أو ترهيب، لأن الدولة ملزمة مبدئيا وأخلاقيا بحماية مواطنيها، فنحن مختلفون وسنبقى كذلك، لا يمكننا أن نكون كلاً من الجمع أو جمعاً من الكل، هذه هي سيرورة الاختلاف منذ زمن الخليقة، لذلك يجب علينا أن نستحضر قولة “فولتير” :”قد أختلف معك في الرأي، ولكنني أدفع عمري لتقول رأيك”، وأيضاً قول الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب”، هذا في مسألة الرأي، وهناك مسألة أخرى نختلف فيها، وهي اختلافاتنا الدينية والعقدية، فقد أكون مسلما شيعيا وتكون أنت مسلما سنيا، وقد تكون أنت مسيحيا وأنا يهوديا أولا دينيا، إلى غير ذلك، فثقافة الاختلاف تمجيد لثقافة الحوار – فالخطاب الملكي يسعى إلى التأسيس لأرضية الاختلاف بدل الخلاف بكل مكونات المجتمع المغربي، من مسيحيين ويهود ومسلمين وأحمديين وبهائيين وشيعة، وما إلى غير ذلك من الأفكار والمعتقدات الدينية واللادينية.
ففي واقعنا المغربي نلاحظ طغيان ثقافة الخلاف والإقصاء على ثقافة الاختلاف، فالخلاف لا يستند إلى دليل إنساني عكس الاختلاف الذي نجد له دلائل عديدة ذات مفهوم وقيمة إنسانية، إن “الاختلاف هو الأصل في يقظة الوعي وتجديد الفكر وتطور الحياة” كما يقول “علي حرب”، فالغاية التي يمضي إليها الاختلاف هي تكثير طرق السعادة الإنسانية، وبهذا المعنى كان الاختلاف رحمة ونعمة عكس الخلاف الذي تستنبطه النقمة، وليس من ورائه طائل سوى أنه يؤدي إلى الباب المسدود. لذلك، فإن الخطاب الملكي يصب في هذا المضمار، أي التأسيس لأرضية الاختلاف بين كافة مكونات المجتمع المغربي، فليس من المعقول أن يمنع المسيحيون والبهائيون والأحمديون والشيعة، وغيرهم من إقامة طقوسهم الدينية والتعبير عن انتماءاتهم وكينونتهم، ونقوم بالتضييق عليهم سياسياً وقانونياً وإعلاماً…، ونحجز على حرية الفكر التي تعتبر دعامة أساسية لحقوق الإنسان، إننا بهذا نرهن بلادنا باستقواء التعصب وتضيع الحقوق وسط الصيحات العالية المطالبة بالتأسيس لأرضية الاختلاف.
فقد سبق لرئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بن كيران أن قال باللسان الدارج يوم السبت (11 فيراير 2017) في لقاءه مع أعضاء حزبه بالواليدية: “إلى ما بقيتوش بغيتو الإسلام نمشي فحالتي وما عندي ما ندير عندكم”، فاكتشفنا أن ابن كيران ممثل للإسلام، لأنه يساوي بنفسه وبالإسلام (إما أنا أو بلاش الإسلام)، إنها العقلية الاستبدادية mentalité ومن الصعب أن تتغير بحكم استمراريتها بالتنشئة الاجتماعية، وحتى المدرسة التي يمكن أن تخفف من وقعها تتم محاربتها، لكن في الخطاب الملكي نكتشف أن الملك محمدا السادس هو الممثل الفعلي للإسلام بالمغرب، وبصفته أميرا للمؤمنين، يحرص على ممارسة الشعائر الدينية لغير المؤمنين بالإسلام.
ففي الواقع ابتلينا بآفات خطيرة تكرس للخلاف وتنبذ ثقافة الاختلاف المسؤول، انطلاقا من التعصب لأحادية الرأي والفكرة والعقيدة، وإلغاء رأي الآخر وفكرته وعقيدته، مرورا بظاهرة السقوط في الحوار، واللفظ الجارح سيء العبارة للمختلف، وصولا إلى مستوى التكفير والتخوين، وهكذا نرى بعض الناس يجهلون أو يتجاهلون من حيث لا يدرون أن الحقيقة لا تنفي تعدد النظر في زواياها، لأنها محل اتفاق بالغاية، وموضوع شقاق بالواقع، وما يهم هو مجمل الإمكانيات العملية لجعلها موضوع تطبيق ومواءمة لمصالح الناس، ويمكن القول إن الحقيقة مطلقة على مستوى التصور، نسبية على مستوى التطور، لهذا وجب ممارسة الاختلاف على أرض صلبة من النسبية الاحتمالية، والحذر من السقوط في وثوقية ما، فلا أحد يملك الحقيقة المُطلقة، كما يقول الشاعر:
قل للذي يدعي علما ومعرفة**علمت شيئا وغابت عنك أشياء
في هذا الصدد يقول كذلك الفيلسوف “ليسينغ”: “لو أخذ الله بيمينه الحقيقة المطلقة، وفي اليسرى البحث عن الحقيقة، ومعها الخطأ لزاما، ثم قال لي اختر: إذن، لجثوت على ركبتي ضارعا، وقلت يا رب: بل اليسرى، لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك”، فهذا هو الفرق بين النسبي والمطلق والبشري والإلهي، فمن بحث عن الحقيقة تواضع وتسامح، ومن ادعى امتلاك الحقيقة تعصب فلم يراجع، فهذا هو مفتاح فك أقفال التعصب أم على القلوب أقفالها؟
إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد، لأنه يعمل ضد قوانين الحياة، إذ يدمر الإنسان، لذلك وصل الفلاسفة إلى شيء سموه “الوسط الذهبي”، فكل فضيلة بتعبير “أرسطو” هي وسط بين رذيلتين، فالكرم فضيلة بين البخل والإسراف، والشجاعة فضيلة بين الجبن والتهور.
وعلى كل حال، فالاختلاف واقع أنطولوجي، وهذا ما حاول تكريسه الخطاب الملكي، فليس غريبا أن يحصل الاختلاف بين الناس، ما دامت سنة الحياة قائمة على التعددية لا على الأحادية، فالناس مطبوعون على الاختلاف إذ متأصل فيهم، فلم يقتصر الاختلاف على الحقول المعرفية فقط، فالاختلاف عبر التاريخ في السياسة والفكر والدين، فقديما على مستوى الدين، كان القدماء أقل منا حدة في اختلافهم في الأمور الدينية، ولعل بعض الكتب تشهد على ذلك كـ”تهافت الفلاسفة” للإمام الغزالي و”تهافت التهافت” لابن رشد”، و”تلبيس إبليس” لعبد الرحمان بن الجوزي، فهاته الكتب، وهي عديدة، تعكس مستوى الاختلاف الذي كان يمارسه القدماء.
وختاما أقول إننا نأمل أن تسود ثقافة الاختلاف بدل الخلاف، التي تفضي إلى الائتلاف بدل الخلاف، ونأمل من خلال هذا الخطاب الملكي أن يعي الصف التقليداني بالمجتمع المغربي أن اليوم الاكتساح هو للحريات الفردية وللحقوق ولرد المسلوب.
(*) مسيحي مغربي عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية مدى