رافي سايغ :
تُحي البشرية جمعاء في هذا اليوم من كل عام ذكرى الإبادة الأرمنية، ففي هذا اليوم الأليم يستذكر الأرمن ومن معهم من الشعوب الحرة ذكرى استشهاد مليون ونصف المليون أرمني عام 1915.
إنها الذكرى الـ108 على أبشع جرائم العصر، يوم ندى جبين الإنسانية حينها خجلاً وحزنًا على مصير آلاف مؤلفة من الضحايا الأبرياء الذين قضوا مصرعهم على يد برابرة التاريخ العثمانيون الأتراك، وذلك وفق مخطط مدروس ومنظم لطمس حضارة وهوية شعب مسالم تواق إلى الحرية والحياة.
تمر السنون، وتتوالى الأيام والقضية هي هي، كما تسلمناها من الأجداد. قضيتنا المقدسة العادلة المحقة، التي لم ولن يمحوها الزمان طالما هنالك أرمنيًا واحدًا على قيد الحياة. وعدالة قضيتنا نستمدها من توقنا إلى تحقيق مستقبل آمن وحر لكل الشعوب المظلومة والمقهورة، التي من حقها أن تعيش في أوطانها كما يليق بها، ولأجل ألا تلاقي ذات المصير المشؤوم الذي تعرض له شعبنا.
انطلاقًا من هذا الحرص، تصدح حناجر الشعب الأرمني في 24 نيسان من كل عام، ونصرخ بأعلى أصواتنا ونقول: أنكم يا شهدائنا الأبرار لم تموتوا، بل أنكم زيت سراجنا الكبير الذي نرفعه فوق قمم جبل آرارات الشامخ ليضيء العالم كله بالحق والحقيقة، وليتبدد ظلام التزوير والنكران.
قد يسأل البعض ألم نتعب من تكرار الكلمات ذاتها في كل مناسبة؟
هنا نقول هل أصبحت المصالح أثمن من الكرامات البشرية؟ هل لأصحاب الضمائر الحية ان يتعبوا من الشهادة للحقيقة؟ كلا! فالضمير الإنساني الحر لا ينام أو يستيقظ حسبما تتوافق مصالح الدول الكبرى او تتضارب على حساب القضايا المحقة. فالعدالة ستبقى مغيبة طالما سياسة نكران الإبادة وطمس حقائقها مستمرة لغاية يومنا هذا، ونحن بدورنا لن يرتاح بالنا أو نعرف الاستقرار طالما لا يزال هنالك من يعمل على تشويه التاريخ وتزوير وقائعه.
وحدها الحقيقة هي التي تبلسم جراحنا، وفي سبيل إظهارها للجميع نناضل ونقاوم ونعمل. فالاعتراف الرسميّ التركي اليوم مطلوب أكثر من أي وقت مضى وذلك لتندمل جراح شعبنا المتألم، وبعدها يبحث ملف التعويض المناسب لعائلات الضحايا ومن بقي بعد هذا القتل المنظم والتهجير المتعمد.
يأتي نيسان، ويذهب نيسان، وجرحنا الأرمني مفتوح وهنالك لليوم من يعمل على ذر الملح لنكأ جراح الماضي وتجديد المآسي. فبالأمس الإبادة، واليوم أرتساخ واعتداءات أذربيجان، ولا نعلم ماذا يخبئ لنا المستقبل وسط هذا الصمت الدولي المخيف والمقلق.
نُحي هذه الذكرى، ونحن على تراب أوطان فتحت لنا أبوابها دون قيد أو شرط لننعم بالأمان والسلام، ونحن بدورنا نبادل هذه الشعوب الطيبة كل الحب والوفاء على مواقفهم النبيلة تجاه معاناتنا، كيف لا وحبات التراب هذه هي ذاتها التي رويت بدماء أجدادنا الشهداء يوم انطلقت من ماردين، المدينة البطلة وبقرار عثماني جائر وبتخطيط جهنمي أرعن، انطلقت قوافل الشهداء نحو صحراء دير الزور السورية وجبال ديار بكر الأبية، حينها حمل أجدادنا مشاعل إيمانهم المسيحي، ومعهم طوباوينا الشهيد إغناطيوس مالويان رئيس أساقفة ماردين وتوابعها للأرمن الكاثوليك، وسائر الكهنة وعموم الشعب ساروا بكل إيمان نحو الشهادة المقدسة، ليبقوا لنا المثال الصالح بأمانتهم لرسالة المسيح مثلما حملناها منذ عام 301.
هذه هي قضيتنا، وهذه هي رسالتنا أن نبقى أبناء السيد المسيح الذي من أجله قدمنا دمائنا الزكية ونحن نودّع بيوتنا ومدننا وقرانا وكنائسنا وذكرياتنا لننعم بالحياة الأبدية. شهدائنا الأبرار ارقدوا بسلام فنحن سنبقى نرفع شعار المئوية نتذكر ونطالب. نتذكر آلام شعبنا الذي تعرض للتهجير والقتل فقط لأنه حمل رسالة بشرى الخلاص. نطالب بالعدالة والمحاسبة لكي أيضًا نتمكن من تحقيق سلام نتوق له مع الشعب التركي على أساس الاعتراف بالإبادة والتعويض عن كل ما لحقنا بنا من ويلات جراء هذا القتل، فنحن نطلب السلام على ألا يكون استسلام أو تنازل عن حقوق مشروعه لنا، حينها يكون السلام سلام عدالة ومسامحة ومحبة.
في 24 نيسان لا تبحثوا عن الأرمن في مغاور الظلام وقبور الأموات، لأنهم ليسوا ها هنا بل قاموا حقًا من تحت الركام والأحزان، ودحرجوا حجر الظلم والخوف عن قضيتهم ليعلنوا لكل العالم أننا أبناء القيامة والنور. فنحن مع سيدنا المسيح القائم من بين الأموات نهضنا ورفعنا راية القيامة دائمًا وأبدًا، لنشهد للعدالة والسلام، وليبقى الأرمن حيثما كانوا شهود قيامة مجيدة نورها يبدد ظلمات النكران والتزوير.
المجد والخلود لشهدائنا الأبرار.
ابونا