مريانا سامي:
على الجانب الآخر من كل دروس التاريخ المدرسي، ومنتديات الحوار الأحادية، والأصوات المتداخلة، وسرديات إسلامية تختزل تاريخ القبط العربي في زعم دخولهم الإسلام طواعية، تأتي الرواية القبطية والأصوات المغايرة التي تنقل ليس فقط وجهة نظر أخرى تحكي عن المعاناة، ولكن تمثل إرثاً شعورياً ولا شعورياً تتوارثه أجيال من القبط. إرث يحكي كيف تحول القبط من أكثرية إلى أقلية تطلب التعايش، والامتزاج، والرضا بالأمر الواقع.
"إنما أنتم خزنة لنا"
دخل الإسلام مصر عام 641 م، 20 هـ، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب وعلى يد عمرو بن العاص وأثناء حبرية البابا بنيامين، وكما يشير المقريزي: "أرض مصر لما دخلها المسلمون كانت بأجمعها مشحونة بالنصارى، وهم على قسمين متباينين في أجناسهم"، الروم، وعامة أهل مصر يقال لهم القبط.
ويحكي يوحنا النقيوسي، أحد أهم المؤرخين الأقباط لفترة الفتح العربي: "عمرو بن العاص ارتكب ما لا يحصى من أعمال العنف، فدب الذعر بين سكان مصر الذين هربوا إلى الإسكندرية، تاركين أموالهم وقطعانهم، وقام المسلمون بالاستيلاء على كل ممتلكات المسيحيين الهاربين، وأعلنوا أن خدم المسيح هم أعداء الله، حتى استسلم كل السكان ودفعوا الجزية، وبعد دخول عمرو إلى الإسكندرية لم يرتكب جنوده أعمال عنف، لكنه زاد الضرائب زيادة هائلة حتى باع المسيحيون أولادهم لدفع الضريبة". ويتفق الطبري والمقريزي وابن عبد الحكم على أن الضرائب والجزية المفروضة كانت تتبع احتياجات الفاتحين، بناءً على حديث عمرو بن العاص حين جاء إليه صاحب إخنا يسأله أن يخبره ما عليهم من الجزية، فقال عمرو، وهو يشير إلى ركن كنيسة: "لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا".
جزية على كل راهب
وفي إطار الحديث عن معاناة الأقباط في فترة الدولة الأموية، التي لم يُذكر واحد من ولاتها بكلمة طيبة في تأريخ القبط، تذكر موسوعة تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع إنه في عهد عبد العزيز بن مروان أمر بإحصاء الرهبان فأُحصوا، وأخذت منهم الجزية عن كل راهب دينار، وهي أول جزية أخذت من الرهبان.
في العام الأول لخلافة عبد العزيز بن مروان قُبض على البطريرك الأنبا يوحنا، وسجن بتهمة التعالي على الأمير لأنه لم يأت لاستقباله، وأمر بن مروان أن يبقى في السجن حتى يدفع 100 ألف دينار.
ولما ولي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان، تسترجع الذاكرة القبطية شدته، واقتدى به قرة بن شريك أيضاً في ولايته على مصر، وأنزل شدائد لم يبتلوا قبلها بمثلها، وكان عبد الله بن الحبحاب – متولي الخراج – قد زاد على القبط قيراطاً في كل دينار، فانتقض عليه عامة القبط، فحاربهم المسلمون وقتلوا منهم عدداً وافراً.
واشتد أيضاً أسامة بن زيد التنوخي، متعهّد خراج مصر في عهد الوليد بن عبد الملك، وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووسم أيدي الرهبان بحلقة حديد، فيها اسم الراهب، واسم ديره وتاريخه، فكل من وجده بغير وسم قطع يده، وكتب إلى الأعمال بأنّ مَن وُجد من النصارى وليس معه منشور، أن يؤخذ منه عشرة دنانير، ثم كبس الدنانير، وقبض على عدة بغير وسم فضرب أعناق بعضهم، وضرب باقيهم حتى ماتوا تحتَ الضّرب، ثم هدمت الكنائس، وكسرت الصُّلبان ومحيت التماثيل.
وأيام الملك الأشرف في عهد المملكة الأيوبية، خدم الكتاب المسيحيون عند الأمراء، وبسبب وشاية العامة بهم، وتجبُّرهم على كاتب مسيحي أراد أن يدفع له مسلم ما كان عليه من دين، أمر السلطان أن يأتي بالكتّاب النصارى، وأن يعرض كل أمير على كل كاتب الإسلام ومن امتنع ضربت عنقه، ولما حاول أن يشفع فيهم الأمير بدر الدين بيدرا غضب السلطان، وأمر أن يؤخذوا إلى حفرة كبيرة، ويضرموا بهم ناراً، وبعد محاولات عديدة أمر أن يعفى عمن يسلم منهم فقط، فأسلموا.
القمع النهائي للمأمون
وأصدر عمر بن عبد العزيز أوامره بألا يخدم نصراني في المناصب الرسمية للدولة، وكان هذا أول منع لعدم تولي النصارى أي منصب، على الرغم من أنه في أوقات عديدة سمح بالحرية الدينية، ولكن كما يذكر ابن المقفع "كان يفعل الخير أمام الناس والسوء في الخفاء".
وفي أيام الفتنة بين أبناء هارون الرشيد، انتُهبت أموال النصارى، وأحرقت مواضعهم، حتى نزل على الحكم عبد الله المأمون فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية، وكما يقول المقريزي: "حينئذ ذّلت قبط مصر في جميع الأرجاء ولم يقدر أحد منهم الخروج على السلطان".
وفرض المتوكل بن المعتصم فرض على غير المسلمين أزياء معينة تحط من قدرهم وتذلهم وجعل على أبوابهم صور الشيطان ومنع ظهور الصلبان في أعيادهم.
وفي العصر المملوكي كانت فترة التحول الاجتماعي، بسبب استمرار العنف ضد الأقباط، والقرارات التي تلزمهم بزي معين، وتمنعهم من العمل بالدواوين، وتنتصر للعامة من المسلمين على حسابهم، فقد كانت الاعتداءات متكررة من العامة على المسيحيين حتى إنهم كانوا يتتبعونهم ويبرحونهم ضرباً في كثير من الأحيان. وقد شكا بعض المماليك للسلطان أن العوام يقتلون الناس بأيديهم. كما تذكر أمينة البنداري في كتابها "عوام وسلاطين".
كيف قاوم قبط مصر؟
على غرار هذه الأحداث وغيرها، انقسمت مقاومة القبط شكلين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي:
1- الهروب
كانت المقاومة السلبية متمثلة في "الهروب"، إذ قرر القبط الذين عانوا من ثقل الجزية والضرائب، ولم يرغبوا في اعتناق الدين الإسلامي، الهرب من مكان لمكان، مخلفين أراضيهم الزراعية وراءهم، ومتخفين عن العيون.
ولكن هذا الخيار لم يستمر طويلاً، ففي عهد عبد الله بن عبد الملك أصدر والي مصر أمراً بوسم الفارين، الذين وجدوا في الأقاليم المختلفة، على أيديهم بالأختام المحماة بالنار مثل البهائم، كذلك فطن قرة بن شريك لهذا النوع من المقاومة، فتشدد عليهم، ففي عهده ارتفع عدد الأسر الفارة من مكان إلى آخر.
2- الثورات
أما المقاومة الإيجابية فتمثلت في الثورات المختلفة منذ مطلع العام 725، إذ بدأ الأقباط يضيقون بالضرائب والجزية، فقاموا بالثورات العلنية، أهمها ثورة البشمور، ورافق القبط وقتذاك مصريون مسلمون، عانوا هم أيضاً من الإجحاف المالي بخصوص الخراج، وظل الأقباط ثائرين طوال القرن الثامن، وكانت تخمد الثورات بين الحين والآخر بالقوة، وآخر هذه الثورات كانت في بداية القرن التاسع بمجيء الخليفة المأمون، الذي أباد الثائرين بشكل لا رجعة فيه.
بعد ثورات البشمور، حاول الأقباط تدبير أمورهم بأشكال مختلفة، أكثرها كانت في العصر المملوكي، إذ اختبروا آنذاك ضغوطاً كثيرة، وشهدت تلك الفترة تسارع وتيرة التحول للإسلام، مع إعادة فرض القيود من ملبس ومظهر، ومنع من الوظائف، ما أدّى إلى تظاهر بعض الأقباط بالإسلام حتى لا يعرضوا أنفسهم للذل والمهانة، وحتى يتمتعوا بما يتمتع به المسلمون، بينما رفضت فئة ثانية ذلك السلوك، وقاوموا القيود بالتزام منازلهم وعدم الذهاب للحمامات العامة أو الأسواق وفضلوا المكوث بين جدران البيت على الخروج في زي يعدونه مهيناً لهم وتحديداً أبناء النخبة.
3- التحايل
مع المنع المتكرر من بناء الكنائس أو هدم بعضها ظل المسيحيون يصلون سراً أو يقيمون الطقوس في أي منزل يحولونه إلى دار عبادة.
وتحايل عدد من الأقباط أيضاً على الشرائع والقوانين نفسها، وهو نوع آخر من المقاومة، وكان يتمثل في لجوء عدد منهم إلى تحول جيل واحد فقط إلى الإسلام مع بقاء أبناء هذا الجيل على مسيحيتهم. ولجأ آخرون إلى الحيل القانونية التي استغلوا فيها اختلاف المذاهب لصالحهم، فمثلاً كانت المتحولات من النساء إلى الإسلام يلجأن للمذهب المالكي، الذي يصر على عدم اتخاذ الأبناء لديانة أمهم حتى تضمن نصرانية الأبناء – أي الجيل الثاني، كذلك تمسك أقباط بعدم الكتابة أو القراءة باللغة العربية أو الاتجاه للتراث العربي في محاولة لرفض الغزو. وبهذا يكونون قد قاوموا ولو بشكل رمزي الهيمنة العربية.
أصبح القبط أقلية
على عكس ما يثار حول تحول المسيحيين للإسلام بشكل جماعي في عصر معيّن، فإن عملية أسلمة القبط كانت عملية تدريجية بداية من العصر الأموي حتى الفترة المتأخرة من العصر المملوكي، الذي شهد تحولاً ديموغرافياً مفاده أن أصبح الأقباط أقلية عددية واضحة.
شددت موسوعة تاريخ البطاركة على أن العامل المالي كان من أهم العوامل التي حولت أغلبية الأقباط إلى الإسلام، فيشير ابن المقفع إلى أن مصريين كثراً أسلموا ليتخلصوا من الجزية والضرائب المفروضة.
أما العوامل الأخرى لـ"الأسلمة" فكانت عوامل اجتماعية، منها منع الأقباط من تولي المناصب، وبالتالي حاول القبط التحايل على هذا القرارات، ولما لم يفلحوا أعلنوا إسلامهم للحفاظ على مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية، ومع مر السنوات وزيادة صعوبة التحايل على القيود المفروضة من ملبس وعمل وتحقير متعمد من الولاة والعوام، الذين حاولوا الاحتفاظ بامتيازاتهم على القبط، وفرض الهيمنة الإسلامية، أسلم من أسلم ونال الاستشهاد من أبى الاستسلام، ليتحول الأقباط في القرن الخامس عشر إلى أقلية في مصر.
ومع التحول التدريجي للإسلام بدأت اللغتان القبطية واليونانية تفقدان مكانتهما، بداية من تعريب الدواوين ثم منع استخدام اللغة القبطية في الطرق والمنازل في عهد "الحاكم بأمر الله".
وقد قام البابا جبريال الثاني بن تريك، البطريرك الـ70 للكنيسة المصرية بإصدار أوامره بقراءة الأناجيل والعظات الكنسية وغيرها من القراءات باللغة العربية بعد قراءتها بالقبطية.
ومع حلول القرنين الـ13 والـ14، تراجعت اللغة القبطية أمام اللغة العربية، خصوصاً في الوجه البحري، بينما حافظ القبط في الصعيد على "اللغة" حتى القرن الـ 15.
وبعد ذلك الزمان، بدأ القبط في محاولات التعايش والامتزاج حتى يومنا هذا.
رصيف 22