محمد يسري:
يؤمن الشيعة الإمامية بأن الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري قد ولد في نصف شعبان من سنة 255هـ، وأنه لمّا تولى منصب الإمامة عقب وفاة والده في ربيع الأول سنة 260هـ، قد اختفى عن الأنظار هرباً من ملاحقة السلطات العباسية له، وأنه كان يتواصل مع شيعته من خلال أربعة من السفراء/النواب، وذلك حتى دخولِه -في ما عُرف- بعصر الغيبة الكبرى مع وفاة السفير الرابع علي بن محمد السمري في 329هـ. ويسود الاعتقاد بأنه –أي الإمام الثاني عشر- لن يظهر إلا في آخر الزمان، عندما يعلن عن نفسه بوصفه المهديَّ المنتظَر الذي بشرت به الأحاديثُ والبشارات النبوية.
بحسب ما ورد في المصادر الشيعية، فإن الإمام الثاني عشر كان يصدر مجموعة من الرسائل، وهي تلك التي عُرفت باسم "توقيعات المهدي" أو "توقيعات الناحية المقدسة"، وقد تضمنت تلك الرسائل الأجوبةَ على الكثير من المسائل الجدلية الشائكة، كما أنها قد مثلت حلقةَ الوصل بين المهدي الغائب من جهة والشيعة المتعطشين لظهوره من جهة أخرى.
نظمت البنيان الشيعي، وبيّنت الرموز الخفية: أهم توقيعات المهدي
أوردت المصادر الشيعية العشراتِ من التوقيعات التي صدرت عن المهدي الغائب، والتي تمّ تسليم بعضها بواسطة السفراء الأربعة، فيما وصل البعض الآخر منها بطرق متباينة، وشبه مجهولة.
السمة الرئيسة التي يمكن ملاحظتها في تلك التوقيعات، أنها قد اشتملت على أهمّ القضايا والمسائل التي شغلت الأوساطَ الشيعية في الفترة المبكرة من الغيبة، ولا سيما في القرنين الرابع والخامس الهجريين؛ على سبيل المثال، نجد أن كتاب "كمال الدين وتمام النعمة" الذي صنفه الشيخ الصدوق في القرن الرابع الهجري، وركز فيه على تناول القضية المهدوية، قد احتوى على العديد من التوقيعات المهمة التي قدمت ردوداً وأجوبةً لبعض الأسئلة المُلحة.
واحد من تلك التوقيعات، كان بخصوص حالة الجدل التي وقعت في الأوساط الشيعية عقب وفاة الإمام الحسن العسكري. ذلك أن الكثير من الشيعة قد صدقوا ما أشاعه جعفر بن علي الهادي (عم المهدي) من أن أخاه الحسن قد توفي دون أن يعقب، وأنه -أي جعفر- هو الإمام الجديد، ليصدُر عن المهدي توقيعاً مهماً، جاء فيه: "... قد ادّعى هذا المبطل المفتري -يقصد جعفر- على اللّه الكذبَ بما ادّعاه. فلا أدري بأيّة حالة هي له رجاء أن يتمّ دعواه. أبفقه في دين الله؟ فوالله ما يعرف حلالاً من حرام، ولا يفرق بين خطاء وصواب. أم بِعلمٍ؟ فما يعلم حقّاً من باطل، ولا محكماً من متشابه، ولا يعرف حدَّ الصّلاة ووقتها. أم بِورعٍ؟ فاللّه شهيد على تركِه الصّلاةَ الفرض أربعين يوماً...".
من جهة أخرى، قدمت توقيعات المهدي ما يتوافق مع الصورة الذهنية النمطية عن الإمامة في المُتخيل الشيعي الجمعي، وهي الصورة التي تؤكد على أعلمية الإمام، وبأنه صاحب العلمِ اللّدني الذي لا حدود له. من هنا فلم يكن من الغريب أن نجد أن بعض التوقيعات قد عملت على إزالة اللبس، وتوضيح بعض الرموز الخفية التي تخفى معانيها عن عموم الشيعية. ومن ذلك أن أحد الشيعة لما سأل السفيرَ الثالث الحسين بن روح النوبَختي عن معنى قول العبّاس بن عبد المطلب للنّبيّ "إنّ عمّك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمّل وعقد بيده ثلاثة وستّين"، فإن الجواب قد خرج عن المهدي، إذ كتب موضحاً: "عنى بذلك إلهٌ أحد جواد، وتفسير ذلك أنّ الألف واحد واللام ثلاثون والهاء خمسة والألف واحد والحاء ثمانية والدّال أربعة والجيم ثلاثة والواو ستّة والألف واحد و الدّال أربعة، فذلك ثلاثة وستّون".
في سياق آخر، نجد أن هناك بعض التوقيعات التي عملت على تنظيم البنيان الشيعي في فترة الغيبة، ومن ذلك ما ورد في رسالة المهدي الشهيرة إلى إسحاق بن يعقوب، والتي ورد فيها: "... وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم..."، وهي العبارة التي ستصبح دليلاً مهماً على اعتبارية وشرعية نظام المرجعية في زمن الغيبة، كما أنها ستصبح بعد قرون إحدى أهمّ الحجج التي ساقها رجلُ الدين الإيراني آية الله روح الله الموسوي الخميني للتأكيد على مشروعية نظام ولاية الفقيه، وهو النظام الذي تمّ تأسيسه في إيران عقب نجاح الثورة الإسلامية في سنة 1979، ليصبح الخمينيُّ أولَ وليّ فقيهٍ في العصر الحديث.
من جهة أخرى، عملت بعض التوقيعات على الردّ على أعداء التشيع الإمامي الاثني عشري، ولا سيما أولئك الذين انتقدوا غيابّ الإمام، وقالوا إن العقل الشيعي الذي لطالما روّج لكون الإمامة منصباً إلهياً، وأنه لا يجوز أن يعيش الناس بدون أن يكون بينهم إمامٍ قد تمّ النص عليه من قِبل الله عزّ وجل، قد وقع –أي العقل الشيعي- في تناقض واضح بعدما صدق بغياب الإمام الثاني عشر؛ الإشكال الذي وردت الإجابة عليه في بعض توقيعات المهدي بشكل مختصر، إذ ورد: "... وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشّمس إذا غيبتْها عن الأبصار السحابُ، وإني لأمانٌ لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، فأغلقوا بابَ السؤال عمّا لا يعنيكم، ولا تتكلّفوا علمَ ما قد كفيتم، وأكثروا الدعاءَ بتعجيل الفرج...".
أيضاً، كانت توقيعات المهدي للسفراء من بين التوقيعات التي حظيت بقدر كبير من الشهرة والذيوع، ولا سيما توقيع وفاة السفير الرابع، علي بن محمد السمري، والذي جاء فيه: "يا عليّ بن محمّد السّمريّ، أعظم اللّه أجرَ إخوانك فيك، فإنّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام، فأجمع أمرك، ولا توصِ إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التّامّة فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة. ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السّفيانيّ والصّيحة فهو كذّاب مفترٍ".
الصدوق والمفيد: توقيعات المهدي لعلماء الشيعة
من أشهر توقيعات المهدي، كانت تلك التي اتصلت باثنين من كبار علماء الشيعة في القرن الرابع الهجري، وهما محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (ت 381هـ)، ومحمد بن النعمان العكبري المعروف بالشيخ المفيد (ت 413هـ)، على الترتيب.
بحسب الرواية المشهورة، فإن علي بن الحسين بن بابويه القُمِي، كان واحداً من كبار علماء الشيعة في فترة الغيبة الصغرى، وكان يدعو الله أن يولد له الابن الذي يخلفه في طلب العلم. فلما التقى بالسفير الثالث، طلب منه أن يسأل المهدي إن كان سيولد له ولدٌ أم لا، فأرسل له المهدي يخبره أنه سيولد له ولد مبارك ينفع الله به، وبالفعل، تحققت البشرى، ووُلد له بعدها ابنُه محمد، وهو نفسه الذي عُرف في ما بعد بالشيخ الصدوق.
أما في ما يخصّ الشيخ المفيد، فقد كان واحداً من أهم علماء الشيعة في عصره، وكان معتاداً على الدخول في الكثير من المناظرات ضدّ علماء بقية المذاهب، كما كانت له حظوة كبيرة في بلاط سلاطين دولة بني بويه. بحسب ما هو مشهور فإن المهدي قد أصدر ثلاثةَ توقيعات موجهة للشيخ المفيد، وقد صدرت جميعها في الفترة الواقعة ما بين 410هـ و413هـ. وعلى الرغم من أن الشيخ المفيد نفسه لم يتحدث أبداً عن تلك التوقيعات، ولم يذكرها في أيٍّ من كتبه، فإنها قد نُقلت على لسان بعض تلاميذه، كما وردت في بعض الكتب التي دُوّنت عقب وفاته، ومنها، على سبيل المثال، كتاب "الاحتجاج" لأحمد بن علي الطبرسي (ت 548هـ).
الملمح المهم الذي سيطر على التوقيعات الثلاثة، كان التأكيد على علم المفيد، وعلى كونه عالماً ربانياً معتبراً لا يُشقّ له غبار؛ الأمر الذي يتضح من المبالغة في مدحه والثناء عليه، إذ ورد في إحدى تلك الرسائل وصفُ المهدي للمفيد بأنه "الأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد... سلامٌ عليك أيها الوليّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين... أدام الله توفيقَك لنصرةِ الحق، وأجزل مثوبتك على نطقِك عنا بالصّدق... حرسك الله بعينه التي لا تنام...".
أيضاً، حرصت تلك الرسائل –كعادتها- على استشراف المستقبل، وتوقع بعض الأحداث الغيبية، وذلك بلهجة يشوبها الغموضُ والرمزية؛ ومن ذلك ما جاء في أحد التوقيعات: "إذا حلّ جمادى الأولى من سنتِكم هذه، فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتِكم لما يكون في من الذي يليه. ستظهر لكم من السماء آيةٌ جلية، ومن الأرض مثلها بالسوية، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مراق، تضيق بسوء فِعالهم على أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمةُ من بعد ببوارِ طاغوتٍ من الأشرار يسرّ بهلاكه المتقون والأخيار..."، وهي العبارات التي فسرها الشيعة على أكثر من وجه، وذلك بما يتفق مع المستجدات التي تعرّض لها المسلمون في تلك الفترة الزمنية.
من جهة أخرى، وبعيداً عن التوقيعات الثلاثة، ذكرت المصادر الشيعية الكثيرَ من القصص التي تربط بين المهدي والمفيد، ومن أشهرها أن المفيد قد سُئل ذات يوم عن امرأة حامل ماتت، وجنينها لا يزال حياً، هل يتمّ بقرُ بطنها لأخذ الولد، أم تُدفن ويموت ابنها معها؟ فأجاب المفيد بأن يتم دفن الأم والابن معاً. ولما انصرف السائل لحق به شابٌّ حسنُ الهيئة وقال له: إن الشيخ المفيد قد أعاد التفكر في المسألة، وقد غير رأيه فيها، وأنه يأمر بأن يتمّ بقر بطن الأم لإنقاذ الجنين. فلما سمع المفيد بذلك، عرف أن المهدي هو الذي تداركه بعنايته، وعزم -أي المفيد- على الامتناع عن الفتوى، فأرسل له المهدي بتوقيع جاء فيه: "أيها الشّيخ المفيد! منك الفتوى ومنّا التّسديد". فرجع مرة أخرى للفتوى.
يرميها في البئر أو يتركها عند قبر أحد الأئمة: كيف يمكن للشيعي أن يبعث برسالته للمهدي؟
لمّا كان وجود المهدي أحد المسلمات التي يؤمن بها العقل الشيعي على مرّ ما يزيد عن الألف عام، فقد كان من الطبيعي –والحال كذلك- أن نجد أن المصادر الشيعية لم تؤمن بتوقيعات المهدي التي يرسل بها لشيعته فحسب، بل إنها قد أكدت أيضاً على أن هناك طرقاً ليتواصل بها أتباعه ومناصريه معه في مكانه المجهول؛ الأمر الذي يمكن تفهمه في ضوء مركزية فكرةِ المهدوية في المنظومة العقائدية الشيعية.
في كتابه الموسوعي "بحار الأنوار"، تحدث محمد باقر المجلسي (ت 1111هـ) عن بعض تلك الطرق، فقال إنه بإمكان الشيعي الذي يريد أن يرسل برسالة إلى الإمام الثاني عشر، أن يكتب رسالته في ورقة، ثم يلقي بها في النهر، أو البحر، أو البئر، كما أنه من الممكن أن يقوم بدفنها في طينة مصنوعة من التربة الحسينية، أو أن يطرحها على قبر من قبور الأئمة المعصومين. وأيّ من تلك الطرق سوف يؤدي إلى وصول رسالة الشيعي للمهدي حيثما كان.
المجلسي ذكر مجموعة من الصيغ المخصوصة للرسالة المكتوبة إلى المهدي، منها أن يكتب الشيعي: "بسم الله الرحمن الرحيم. كتبتُ يا مولاي صلوات الله عليك، مستغيثاً، وشكوتُ ما نزل بي مستجيراً بالله عزّ وجل ثمّ بك من أمرٍ قد دهمني، وأشغل قلبي، وأطال فكري، وسلبني بعضَ لبّي، وغير خطير نعمة الله عندي... فلجأت فيه إليك وتوكلتُ في المسألة لله جلّ ثناؤه عليه وعليك في دفاعه عني، علماً بمكانك من الله رب العالمين ولي التدبير ومالك الأمور، واثقاً بك في المسارعة في الشفاعة إليه جل ثناؤه في أمري، متيقناً لإجابته تبارك وتعالى إياك بإعطاء سُؤلي، وأنت يا مولاي جدير بتحقيق ظني وتصديق أملي فيك...".
وبعدها يكتب السائلُ شكواه أو حاجته، ويطلب المدد والمساعدة والغوث من المهدي، ثم ينادي على أحد السفراء الأربعة باسمه، ويقول: "أشهد أن وفاتك في سبيل الله وأنك حيّ عند الله مرزوق، وقد خاطبتك في حياتك التي لك عند الله عزّ وجل، وهذه رقعتي وحاجتي إلى مولانا عليه السلام، فسلّمْها إليه، فأنت الثقة الأمين".