الأب منويل بدر :
بعد الإنتهاء من الحروب الصليبية تلاحقت الحروب الدّينيّة، في القرون اللاحقة أي من القرن الرابع عشر وإلى بداية السابع عشر، حيث كانت الكنيسة في أوروبا قد انقسمت على بعضها دينيًّا، وسياسيًّا أيضًا، فقامت الحروب الدينيّة المشهورة: حرب المئة سنة على السلطة بين فرنسا وانكلترا وحلفائهما. لحقتها حرب البرجوازية ضد الإقطاعيّة التي ظهر فيها لوثر المصلح، لكن للأسف بدل أن يتمّ إصلاح الكنيسة نجم عن حركته هذه الإنقسام المحزن بين فريقه البروتستانت (أي المحتجّين) والكاثوليك، والذي هو أكبر عار في التاريخ المسيحي.
تلاها حرب الثلاثين سنة، وكانت دينيّة محضة وذلك لمصالح مصطنعة من كلِّ جانب. ولتبرير هذه الحرب، كان كل جانب يسمّيها حربًا مقدّسة، زاد في اشتعالها انَّ أحزابًا اجتماعيّة، أهمّها السياسيّة بين الطبقات الحاكمة والأحزاب الأرستقراطيّة والبورجوازيّة، الغنيّة والفقيرة، راحت كلّها تتنافس مع بعضها البعض، مّما أطال من مدّتها، وممّا اضطرّ كلّ حزب لرفع الحصار عن أيِّ منعٍ لاستعمال القوة والحرب بل تحليل استعمالها بصفتها حربًا مقدّسة. فراحت أوروبا تغرق بدماء أبنائها على كلِّ شبر فيها، كأنّ النّاس ما كان لهم أيّ انشغال أو وظيفة اجتماعيّة تلهيهم إلاّ الحرب والقتال باسم الدّين، مثل أيامنا اليوم للأسف! هي تمّت بتشجيع وحماية من الكنيسة، لذا بقيت تحمل اسم الحروب المقدّسة.
الحروب في القرنين الثامن والتّاسع عشر
لم تتغيّر هذه الحروب من حيث المبدأ، وتمّ اعتبارها حربًا مقدّسة يُحلَّل للمسيحيّين الإشتراك الفعّال فيها بفرح لا بتوبيخ ضمير. كانت الخطابات سواء السّياسيّة أو الدّينيّة كلّها لصالح الحرب واعتبارها واجبًا مقدّسًا يجب الإشتراك فيها دفاعًا عن الحقوق والحرّية، فلاقت هذه الأقوال صدىً إيجابيًّا وقبولاً للثورات ومتابعة الحروب في القرنين الثامن والتّاسع عشر.
فها هي روسيا، عندما أعلنت التّصدي لنابليون وجيوشه في القرن التاسع عشر، أقنعت شعبها وكنيستها الأرثوذكسيّة أن ينضمّوا للقتال، فهي حرب مقدّسة، إذ أنّ الدّفاع عن الوطن والحرّية تُعتبر حربًا مقدّسة. وعلى البشر أن يرفعوا عقولهم وقلوبهم إلى الله ضارعين إليه لمساندتهم. هذا وكان مصدر فخر لهم أن يشتركوا بالصلاة والترانيم الحماسيّة والأناشيد الوطنيّة، ويتباركوا هم وأسلحتهم التي سيستعملونها في القتال لمجد الله وحب الوطن!
فمن الثورة الفرنسيّة، المعروفة بثورة روبس بيير عام 1848، إلى الثورة الشيوعيّة بقيادة لينين عام 1917، فثورة ماوتسيتونج في الصين، وثورة شي جيفارا وفيديل كاسترو في البرازيل. كلُّها كانت تُعتبر ثورات وحروبًا مقدّسة، لا يمكن لا للكنيسة ولا للمسيحيّين التملّص من الإشتراك فيها. فمن عارض كان يُقاصص، كالألمان في ثورة هتلر في الحرب العالميّة الثانيّة. حتى الأساقفة والكهنة كانوا مراقبين فمن اعترض منهم عليه زجّه في السجون، وبهذه الطريقة لاقى آلاف الكهنة والرهبان حتفهم. أمّا نحن فلا نتعب من التكرار ورفع العتب، أنّ هذه الحروب ما كانت تتم بأمرّ من الله، حتّى، ولو كانت تتم باسمه، وارتدت غطاء القداسة.
حروب القرن العشرين: الحربان العالميتان الأولى والثّانية
القرن العشرين – القرن الذي سيشهد حربين عالميتين، مع إبادات جماعيّة وعلى نطاق واسع، واختراع القنبلة الذريّة والأسلحة الفتاكة التي أخذت مكان الجنود المحاربين. ثمّ انتشار الوسائل التكنولوجيّة التي غيّرت العالم والجنس البشري.
حتى نهاية الحرب العالمية الأولى (1917) كانت فكرة القرن التّاسع عشر عن الحروب لا تزال سائدة، أي أنّها حرب مقدّسة يحللها الله ودينه، ويجب الإشتراك فيها دون أي وخز ضمير. لقد تعاون سياسيّون ووعّاظ بخطابات حماسيّة برّرت الدّفاع عن الدّم والوطن الأم.
فهذا مثلاً باتريك بيرس، أحد القادة الإيرلنديين القوميين الكاثوليك، فهو يمثّل الفكر الكاثوليكي في ذلك الوقت عن الحرب. كان باتريك مهووسًا بفكرة الفداء بالدّم. دعا عام 1913 لكفاح مسلّح وكتب: "قد تُرتكب الأخطاء في البداية، ونقتل الأشخاص الخطأ، لكن سفك الدّماء هو تطهير وتقديس". ثم أشاد بالحرب، معلنًا "أنّ قلب الأرض يحتاج إلى النبيذ الأحمر في ساحات القتال ليستعيد حرارته لأنّ الحياة تنبع من الموت". كان يؤمن بأنّ "رجلاً واحدًا بإمكانه تحرير شعب، كما استطاع رجل واحد أن يخلّص العالم".
في كل تلك الحقب غلبت على لغة المسيحيين كلمات التضحية ومحبة القريب والموت من أجل الأصدقاء. أعني أنّ العقليّة والتفكير ما كانت تنظر إلى حكم عليها بمنظار التطوّر والتنوير في حقوق الله والبشر الذي وصلنا إليه اليوم. فلنحكم على مثل تلك الأفكار بحكم وقانون زمانها.
كذلك، فهم الفرنسيّون الحرب ضد الألمان كحرب مقدّسة. فمن واجبهم، هم الكاثوليك، الوقوف ضد البروتستانت الألمان، والدّفاع عن الدّين الكاثوليكي وعن مزار العذراء في لورد، الّذي كان على أولويّات مخطّط الألمان، أي الاستيلاء على فرنسا وتدمير هذا المزار لأنه كاثوليكي محض. تعدّدت الوجوه والأسباب لنشوب الحرب، لكنها تحت كل الوجوه والأسباب حتى السّياسية المحضة، بقيت تُسمّى حربًا مقدّسة.
وفي أنجلترا أيضًا دافع كثير من الوعّاظ والقيادات سواء الدّينية أو السّياسية، عن شرعيّة الحرب ضدّ المُعتدي الألماني بل واعتبرتها أيضًا حربًا مُقدّسة لا خلاف على تبرير الإشتراك فيها ومباركة السّلاح لها بما أنّها حرب دفاعية عن الوطن والحرّية. بالتّالي، وبعد نداء رئيس الوزراء البريطاني اللورد هاليفاكس عام 1939 للوقوف إلى جانب إنجلترا لمحاربة ومكافحة الشّر الألماني لصالح الخير البريطاني والأوروبي، انضمّت جيوش الحلفاء إلى بريطانيا وتكاتفت باسم الدّفاع عن الحرّية والوطن حتى غلبت ألمانيا وانتهت الحرب العالمية الثانية. فبدون هذا النّداء والإشتراك الفعليّ في الحرب لكانت الحرب ما انتهت بتلك السرعة.