مارسيل نظمي:
انفض الجمع الذي احتشد قبل يومين في محيط منطقة مطار إمبابة شمال الجيزة، وعادت الحياة إلى طبيعتها. المحال التجارية وورش النجارة عادت للضجيج في محاولة من أصحابها لتخطي مشاهد أدخنة الحريق السوداء، والجثامين الصغيرة المتفحمة التي أدمت قلوب المصريين في أعقاب حريق كنيسة "الشهيد مرقوريوس أبو سيفين" التي باتت معروفة اختصاراً بـ"كنيسة أبو سيفين".
اندلع الحريق في الكنيسة الواقعة في حارة ضيقة في واحدة من أكثر المناطق الشعبية ازدحاكاً في منطقة القاهرة الكبرى، خلال الساعات الأولى من صباح الأحد 14 أغسطس/ آب الجاري أثناء إقامة القداس الأسبوعي، مخلفة وفاة 41 شخصاً و12 مصاباً معظمهم من الأطفال والنساء.
ما تبقى من آثار الحريق: حواجز أمنية عند مدخل شارع الكنيسة وبوابتها المتفحمة، وآثار نيران على الواجهة، وحريق تابع لن ينطفئ في قلوب من فقدوا أبناءهم وأحباءهم في الحريق الذي تقول التحقيقات الأولية إنه ناجم عن "ماس كهربائي"، وتساؤلات حول الظروف التي أدت إلى أن تكون الخسائر بهذه الجسامة.
البداية حلم
"الكنيسة المحترقة بدأت كحلم منذ ما يزيد عن 20 عاماً، حين حاول سكان المنطقة بناء مكان يصلون فيه، وفوجئوا بقوانين تحول دون ذلك"، يقول القمص داوود إبراهيم الذي تتبع كنيسته أبرشية الجيزة، وهي الأبرشية نفسها التي تتبعها الكنيسة المحترقة.
يقول القمص لرصيف22: "كنا في وقت من الأوقات بندور على أوضة نصلي فيها. وربنا بعت بيت 200 متر، وكنايس كتيرة اتبنت بهذا الشكل في منازل وسط مساحات سكنية دون تراخيص، بسبب عدم وجود بديل وإمكانية بناء بقواعد منضبطة، لكن في الوقت الحالي الأمر تغيَّر".
الحلم الذي انقلب كارثة هو تجسيد لأزمة بناء وترخيص الكنائس التي ظلت مصر تعاني منها منذ تطبيق القرار المسمى "الخط الهمايوني" منذ الغزو العثماني لمصر، ودعمته القوانين المتتالية التي تنظم بناء دور العبادة غير الإسلامية في مصر، وأبرزها منشور "شروط القربى" الصادر في العام 1934 عن وزارة الداخلية المصرية، والذي وضع قيوداً بالغة التشديد على عملية بناء الكنائس بشكل خاص، ووصفت من جانب الأقباط المصريين بكونها شروطاً تعجيزية.
بعد الجمهورية 1953 انتقلت سلطة السماح ببناء أو ترميم الكنائس من وزارة الداخلية إلى رئيس الجمهورية بشخصه، بعدما أصبح من حقه تنظيم ممارسة أتباع الأديان المعترف بها في مصر لشعائرهم الدينية.
هذا الوضع أنتج على الجانب المسيحي حرماناً من بناء دور العبادة وتجديدها وترميمها إلا بشق الأنفس، واضطراراً إلى التحايل على الوضع بإقامة الصلوات والقداديس سراً في المنازل، وعلى الجانب المسلم، أنتج الوضع ترصداً دائماً واعتداءات طائفية متكررة بالقتل والحرق كلما اكتشف مسلمون على جانب من التطرف أن مسيحيين يقيمون صلواتهم في بيت أحدهم.
هذا السيناريو المتكرر تحدث عنه الباحث في الشأن القبطي سليمان شفيق، الذي يقول لرصيف22: "الاعتداءات على منازل المواطنين المسيحيين بدعوى منعهم من إقامة كنيسة بدون ترخيص كان سيناريو متكرراً في مصر على مدى 30 عاماً، في المنيا وضعت منارة لأكبر كنيسة بعد 30 عاماً من بنائها بعد تحايل ومحاولات لا حصر لها".
يضيف الباحث: "معظم الكنائس في الصعيد بنيت بالمراوغة وفقد كثيرين حياتهم وسجن آخرين في أحداث عنف وقعت في كل مرة اجتمع أفراد في منزل ما للصلاة".
آخر الاعتداءات الطائفية المعلنة بسبب بناء الكنائس، وقعت في إبريل/ نيسان 2018، عندما اعتدت مجموعات من أهالي قرية بني منين مركز الفشن جنوب محافظة بني سويف على أقباط القرية ومبنى كنسي شُيِّد تحت اسم "كنيسة السيدة العذراء والبابا كيرلس"، وذلك لرفض أهالي القرية المسلمين وجود كنيسة في القرية. وشهدت القرية توتراً قبل أيام من الاعتداءات نتيجة قيام أجهزة الأمن باستدعاء عدد من الأقباط والتحري عن وجود كنيسة في القرية بدون الحصول على التراخيص اللازمة من الجهات الأمنية.
طوال تلك السنوات، قادت مجموعات حقوقية ضغوطاً لإصدار القانون الموحد لإنشاء دور العبادة والذي كان ينتظر منه تحقيق العدالة في إنشاء دور العبادة للمسلمين والمسيحيين وأصحاب الديانات الأخرى على اختلاف طوائفهم من دون تمييز، وتعاظم الأمل في إقرار هذا القانون عقب ثورة 25 يناير 2011، إلا أن كافة السلطات التي قادت البلاد عقب الثورة (المجلس العسكري، الإخوان المسلمين، ثم الإدارة الحالية) لم توافق على إقرار القانون، وتبنت السلطات بدلاً منه قانوناً لتنظيم بناء الكنائس أقره البرلمان وصدق عليه رئيس الجمهورية في العام 2016، ونجح القانون وما أتاحه من إجراءات لترخيص الكنائس القائمة وبعض التسهيلات في استصدار تراخيص بناء وترميم الكنائس في تقليل عدد الاعتداءات الطائفية الناجمة عن الصلاة في البيوت، إلا أن تقنين وضع الكنائس القائمة بالفعل قاد إلى الكارثة الإنسانية التي شهدتها مصر بحريق كنيسة أبو سيفين صباح أمس الأول.
كوارث تنتظر الوقوع
"الصعوبات القانونية التي تواجه عملية بناء الكنائس، من رفض قطاع من المواطنين المسلمين ورضوخ الدولة لهذه الاعتراضات المحلية، دفعت إلى ظهور الكنائس التي تتخذ شكل البيوت"، أكد ذلك الباحث إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، مشيراً إلى إنشاء نسبة كبيرة من الكنائس خلال العقود الأخيرة بهذه الصورة. يقول: "هذه الكنائس لم تحصل على تراخيص رسمية، لكنها بالأمر الواقع تحولت كنيسة، وقدمت هذه الكنائس أوراقها إلى لجنة توفيق الأوضاع وفقاً للقانون".
ويشرح إبراهيم لرصيف22: "الأمر يبدأ بشراء أقباط منزلاً، ثم تهدم حوائطه الداخلية ويفرغ ليكون ملائماً لممارسة الشعائر الدينية بانتظام، ويُعيّن رجل دين للقيام بالطقوس. وبعد ذلك، يسري إلى علم الأجهزة الأمنية تحويل المكان إلى كنيسة، ويتعارف عليه من جميع المسؤولين والجيران بأنه كنيسة".
وعن أشكال هذه البيوت وظروفها، يوضح سليمان شفيق وإسحق إبراهيم أن "90% من هذه الكنائس المبنية بالتحايل، بنيت بطرق عشوائية، في بيوت بمناطق يصعب أن تتحقق فيها قواعد الحماية المدنية الأزمة لاجتماع عدد كبير من الأفراد في دار عبادة".
يقول شفيق: "هناك كنائس بنيت في بيوت ضيقة لدرجة يدخلها المصلي موارباً، فكان من الأولى حين نتحدث عن تأمين وعربات مطافئ أو إسعاف للطوارئ أن نعترف بأن تلك الكنائس أبعد ما تكون عن قواعد الحماية والأمان للمصلين".
تصريحات حكومية مرتبكة
وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج، كانت لها تصريحات مثيرة للجدل إذ أطلقت على الكنائس الموجودة في المناطق المكتظة بالسكان "الكنائس الخطرة" وقالت عقب الحادث إن الدولة بصدد مراجعة أوضاع "الكنائس القديمة"، من دون أن تحدد وضع الكنائس الجديدة التي جرى تقنينها وتفتقر إلى بعض معايير الأمان نتيجة إقامتها في مبان سكنية في مناطق مكتظة بالسكان.
تصريحات القباج أعلنت عن نية في غلق بعض الكنائس "واستبدال أخرى جديدة بها"، مشيرة إلى أنه "يجري عمل رصد ميداني لأوضاع الكنائس بحساسية شديدة".
الأمر نفسه أشار إليه النائب البرلماني، محمد إسماعيل، في مداخلة تلفزيونية: "إن دور العبادة الموجودة في هيئة المجتمعات العمرانية أو العاصمة الإدارية الجديدة، تشمل كل عوامل الأمان، وأماكن الهروب"، وذلك على العكس من تلك المقامة في "أماكن عشوائية" والتي تحتاج إلى "مراجعة وتوفيق أوضاعها".
في السياق نفسه، طالب البابا تواضروس الثاني بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية بنقل الكنيسة المحترقة والكنائس الشبيهة التي بنيت في عمارات سكنية في مناطق سكنية ضيقة إلى مناطق أخرى "أوسع"، معترفاً بأن التضييقات التي واجهها المسيحيون ضد حقهم في ممارسة العقيدة عبر بناء الكنائس هو السبب الحقيقي الكامن وراء تلك المأساة.
ويتفق الباحث في الشأن القبطي كمال زاخر مع تصريحات البابا، إذ يتوقع تكرار الحادث، مرجعاً السبب إلى "زيادة أعداد الكنائس في الأحياء السكنية العشوائية، بسبب تعنت الدولة في فترات ماضية، ما زاد من أشكال عشوائية البناء وخطورتها على الأفراد، لا سيما أن الكنائس تحولت من مكان للصلاة إلى بديل لدور الدولة الغائب في الأنشطة والأندية، والخدمات العامة ما يعني وجود بشري على مدار اليوم ومعه تزداد مخاطر عدم التأمين". في إشارة إلى مدارس الأحد التي تستضيف الأطفال المسيحيين لا سيما من أبناء الأسر الفقيرة لممارسة الأنشطة المختلفة، بسبب التكلفة الكبيرة لممارسة الرياضة والترفيه في مصر.
ويشير زاخر إلى أنه منذ عام 2016 الذي شهد صدور القانون رقم 80 لسنة 2016 بشأن بناء وترميم الكنائس، تم توفيق أوضاع عدد من الكنائس والمباني الشبيهة بالكنيسة المحترقة، وبلغ عدد الكنائس التي جرى الموافقة على ترخيصها حتى شهر أبريل/ نيسان الماضي 1882 كنيسة ومبنى تابعاً، مقسمة ما بين 1077 كنيسة و805 مبان.
ويوضح زاخر أنه "كممثل عن مجموعة العلمانيين الأقباط"، اعترض على عدد من البنود في مشروع القانون، وسجل هذه الملاحظات مع شخصيات قبطية أخرى ورفعها لمساعد وزير الداخلية، منها عدم وضع جدول زمني لتنفيذ خطة توفيق الكنائس أوضاعها، وصعوبات في بناء الكنائس تفسد المواد التي أعطت مساحة من التوسع، إلا أن "مساعد وزير الداخلية لم يأخذ بها"، ومع ذلك كان يأمل في أداء منجز بصورة أكبر لضبط أوضاع الكنائس "وهو لم يحدث".
ولفت إلى أن دور العبادة التي "بنيت في أماكن عشوائية ووفق أسس غير علمية"، تتطلب مراجعة: "الحادث يدق ناقوس الخطر لمراجعة كل دور العبادة القائمة [مسلمة ومسيحية] لتلافي أي أزمات تحدث مرة أخرى، أو وقوع وفيات أو آلام تصيب كل المصريين".
وبحسب إسحق إبراهيم المسؤول عن حرية المعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فقد شهدت مصر منذ مطلع العام الحالي حرائق في خمس كنائس بدرجات متفاوتة، رجعت جميعها إلى خلل كهربائي بسبب التكييفات أو المولدات الكهربائية. ويأمل إبراهيم أن "تتم المعالجات بوتيرة سريعة حتى لا تتكرر المأساة".
رصيف 22