حسن منيمنة:
مقتل أيمن الظواهري، عام ٢٠٢٢، أي بعد أكثر من عقدين على بدء حرب إقدامية شنّها الغرب عامة، والولايات المتحدة خاصة، على الحركة الجهادية العالمية، التي كانت قد أعلنت الحرب المفتوحة على «الصليبيين واليهود» قبل غزوات الحادي عشر من أيلول ٢٠٠١ بأعوام قليلة، يستدعي طرح أسئلة حول المنهج والجدوى والهدف.
رغم الأعوام الطويلة من العمل الاستخباراتي والميداني المناهض للحركة الجهادية العالمية، ورغم قتل معظم زعمائها في المركز والأطراف، فإنها اليوم، بناءاً على معطيات موضوعية عديدة، أشد قوة وأوسع انتشاراً وأكثر رسوخاً ممّا كانت عليه في مطلع الألفية.
الغرب قد تمكّن دون شك من درء العديد من أوجه الخطر الذي تشكله له التنظيمات الإرهابية، وإن عبر تطبيق خطوات احترازية مكلفة، كما تمكّن في مواضع مختلفة من إنزال الهزيمة بها، بمعاضدة شركاء محليين، ونجح في ضبط مظاهر إرهابية متعددة. ولكن حضور ظاهرة الإرهاب الجهادي وانتشاره، وتعزّز العوامل الداعمة له، تقدّم في الحصيلة على مرّ الأعوام، وإن اختلفت أوجهه وفصائله. ليس أن الحركة الجهادية العالمية قادرة على الانتصار أبداً. أفقها الأقصى هو أن تستنزف خصومها، أن تعترض الإطار القائم، أن تدير التوحّش وأن تمارسه. هي قادرة على الهدم، عاجزة عن البناء.
أن يكون للحركة الجهادية العالمية أثماناً باهظة تتحمله المجتمعات التي يفترض بأن هذه الحركة قائمة لنصرتها، والتي هي على أية حال نابعة منها، هو أمر لا يستحق أن يكون ثمة خلاف بشأنه. ولا حاجة لاستعراض كافة أوجه الكلفة. يكفي وجه وحسب.
هو أن يخرج شاب من تونس مثلاً، أو من ليبيا أو السعودية أو لبنان، لا فارق، تاركاً خلفه أسرة رعته وتكبّدت المشاق للارتقاء به ديناً ودنيا وإتاحة الفرصة له كي يستفيد بذاته ويفيد أهله وناسه، فيدفع بنفسه ثمن رحلته إلى تركيا، ومنها، بمساعدة وسيط قابض الأجر، إلى الشمال السوري، ليلتحق بدور «الضيافة» للدولة الإسلامية أو غيرها من الفصائل الجهادية، ثم ليذهب طوعاً، أو ما يشبهه، في عملية استشهادية أو انغماسية أمست في معظم الأحوال محصورة باستهداف مجاهدين في فصائل أخرى، ارتأى أميره، أو ولي أمر أميره، تكفيرها ومحاربتها. كرّ وفرّ، ومعارك تحقّق الشيء ثم نقيضه. وحصيلتها الوحيدة هي موته وتغييبه عن مستقبل كان له، ولأهله، ومن شاء فليقل لمجتمعه، لوطنه، لأمّته، للإنسانية جمعاء. ولكنه هو، وإخوانه في الاستشهاد والانغماس، وبعض أمرائهم، ربما على يقين أنهم نالوا الفوز العظيم، وأن الحور والجنان أعدّت لهم، وإنها طاعة دينية أوصلت إلى الرضا الإلهي.
التفسير المعتمد على الغالب عند هذا الحد هو اعتبار هذا الشاب ضال مضلّل. وذلك لدى من يعنيه إنقاذه ومن يحاكيه في الظروف والمعتقد. أما لدى من لا يثمّن تخليصه، ومن يتعامل مع هكذا شاب وصحبه على أنهم مجرمون متحققون أو كامنون، فمن المستحسن عنده التخلص منهم، سجنهم، قتلهم.
وعليه فإن أساليب المعالجة، الاستباقية منها والاستلحاقية، لدى من لم ييأس من إنقاذ الجهاديين، أو بعضهم، تقوم على المناصحة والتوجيه وتقديم البدائل الدينية والدنيوية. وكافة هذه الجهود، في أحسن أحوالها، هزيلة الحصيلة، هشّة النتائج.
إزاء هذا الواقع، سخط اللادينيين والعلمانيين والتنويريين من الدين جلي، بل يبدو مبرّراً ومباشراً. وجهودهم، الصريحة كما الملطّفة أو الكاذبة لتفكيك الدين أو تعديله بما يستأصل منه ما يجعله إطار تعبئة وجهاد، بل للانتهاء من هذا الدين بجملته في حال تعذّر ذلك، كلها مفهومة، وإن كانت مكشوفة، رغم توهّم تعميتها. مستورة كانت أو صريحة، ما يجمعها هو أنها فاشلة بالإجمال، وإن زعم بعضها النجاح بتفصيل هنا وآخر هنالك.
فالمقومات المعنوية التي يعتمد عليها ذاك الشاب المهاجر إلى الجهاد ليست جديدة، بل هي كانت ولا تزال متوافرة، بالتجاور مع ما يناقضها ضمن الدين وضمن المجتمع، على مدى التاريخ الإسلامي. طبعاً أنماط التمكين والانتاج والتلقي لم تبقَ على حالها على مدى قرون هذا التاريخ، ولا الظروف الداخلية والخارجية التي رسمت معالم استدعائها. ولكن رغم فداحة التبدّل، فإنه، كما يتبين استقرائياً، لا يمكن إيعاز نتوء الجهاد الحالي إلى تغيّرات شكلية.
واقع الأمر أن المقاربة السائدة تتعاطى مع الحركة الجهادية العالمية، ومع حالة الشاب المهاجر إلى الجهاد مثلاً، على أساس توصيف يرى فيها الاعتلال الذاتي، أو الجهل الموضوعي، أو يستشف تحريك مغرض من جهات خارجية. أي أن الخصم، وهو هنا الجهادي، إما أنه يعاني من حالة مَرَضية نفسية (ربما نتيجة تراث استعلائي موبوء بدوره)، أو أنه لا يفقه ما هو خير له، أو أنه ثمة من يحرّكه كدمية ويدفع به إلى ما لا يتوافق مع مصلحته.
قد لا تخلو هذه التوصيفات الجزئية، فرادى ومجتمعة، من الصحة في حالات شخصية عديدة. ولكن، لو صحّ الانتقال بها من التفصيل إلى الإجمال، فإن السؤال التلقائي، بعد عقود من الإنفاق لتصحيح المعتل وتصويب المخطئ وتبيان أغراض المغرِض، لماذا الفشل في الانتهاء من هذه الظاهرة السقيمة الجاهلة الغبية؟
وإذا كانت العلّة هي الدين، كما يرى العديد من الإصلاحيين سرّاً أو جهاراً، فهل أن الإسلام استفاق فجأة بعد ١٤٠٠ عام من السبات ليصبح الإطار الصلب لإرهاب ناقض للإنسانية، أم هل أنه، كما يقترح بعض الاختزاليين، كان أداة الشر والدمار الدائمة، في تسطيح مزدوج يأثّم تاريخ الإسلام وينزّه تاريخ ما عداه؟
بل كيف يمكن إرجاع انتشار التطرّف في بيئة ما إلى جهود التعبئة العقائدية الغريبة عن تراث هذه البيئة، سلفية تيمية وهابية، وهي الجهود القائمة على إنفاق مالي ضخم ودعاية إعلامية واسعة، ثم العجز عند تفسير الفشل في اجتثاث هذا الانتشار مع توفّر موارد مالية أكبر وإمكانيات تقنية وفنية وإعلامية أوسع؟
لا إجابة قاطعة هنا على هذه الأسئلة ولا طرح بديل متكامل للسبيل الأنجع للتعامل مع ظاهرة الجهاد الإرهابي. بل تساؤل منهجي في أنه ربما أن الحركة الجهادية هي تعبير عن مصلحة موضوعية لبيئتها وإطارها، وفي السعي إلى محاولة تبيّن هذه المصلحة في طبيعتها المادية والمعنوية وفي أفقها الزمني. لا يعفي ذلك من مسؤولية مواجهة هذه الحركة بكل الوسائل، بما في ذلك القوة الحاسمة، سيما وأن الإرهاب الجهادي قد سار على مدى العقود الماضية باتجاه التوسع في استباحة الدماء بما يتجاوز الضوابط الفقهية السابقة وصولاً إلى استحلال قتل كل من يخالفه أو كل من في قتله مصلحة له.
في سيرة أيمن الظواهري بعض ما قد يفيد في هذا المسعى. لا يمكن فصل نشأة الظواهري العقائدية عن أجواء القمع الذي تعرّضت له التوجهات الإسلامية في مصر في زمن جمال عبد الناصر، والتي بلغت ذروتها مع إعدام سيد قطب. لا شك بأن سيد قطب، في وراثته التشددية لحسن البنا (وهذا بدوره لرشيد رضا، وهذا بدوره لمحمد عبده)، يشكّل حلقة هامة في تأصيل القطعية والتحضير للإرهاب. غير أن إعدامه جاء مفتقداً لشروط المحاكمة العادلة والعقوبة المتوافقة مع الجرم.
إعدام جمال عبد الناصر لسيد قطب عام ١٩٦٦ أشبه بالإرهاص لما سوف يشيع بعد عقود من فضائل مزعومة للسلطوية في دحر مفترض للإرهاب. ولكن كما أن قتل سيد قطب كان محطة تحفيزية هامة، فكرية وعملية، للشاب أيمن الظواهري، ولعبد الله عزّام، ومن بعدهما لأسامة بن لادن، فإن العلاقة بين السلطويات والحركات الإسلامية، على استشراس العداء بين الصفيّن، ليست علاقة نقض وأزالة، بل هي، على ما يشهد عليه السجل المعاصر، علاقة عداوة تآلفية يزداد الطرفين فيها تمكّناً وإن مع تداول الغلبة.
محاولة التوفيق بين الإسلام والحداثة، والتي أرادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في القرن التاسع عشر، أنتجت خطّين متباعدين. خط أول «تنويري» انكسر زخمه مع وفاة طه حسين، وخط آخر تأصيلي تفاقمت جهاديته عند بن لادن ولم تتوقف معه. كان على كل منهما إدارة المظلومية التي تعيشها مجتمعاته، تفسيرها، تحديد وجهة الخروج منها، السير نحو هذا الهدف.
الواقع الملموس هو أنه لا هذا الخط ولا ذاك قد تمكن من بلوغ الصدارة الفكرية والسياسية الراسخة في المجتمعات التي تحضنه. وتقييم حدود القدرات الاستقطابية لكل منهما غالباً ما يتم، لدى خصومه، من خلال الاستيعاب التعسفي للأكثرية الصامتة في المعارضة المفترضة له.
ولكن حتى مع مناصرة بعض «التنويريين» للسلطوية «المستنيرة»، أي العازمة على محاربة المنحدر الديني التشددي الإرهابي، فإن الواقع هو أن حضور المركّب الديني في هذه المجتمعات (أي مجموع الظواهر ذات المرجعية الدينية) لم يتراجع، وإن حصلت أقدار من الانكسار لأشكاله الجهادية بين الحين والآخر.
أساس المشكلة قد يكون بأن التعاطي مع هذا الواقع مرتبك لافتراض العلل فيه بدلاً من السعي إلى تبين منطقه. عناوين البحث هنا، بشقّه المعنوي، قد تكون بانعدام تأصل مفاهيم القيم العالمية وحقوق الإنسان في الموروث الاجتماعي الديني أي الإسلامي، أو في المحاولات التأصيلية الاختزالية الزاعمة غير المتجانسة في هذا الشأن، كما في عدم انسجام تطبيق هذه المفاهيم محلياً وفي الجوار. لا يمكن في هذا الصدد التقليل البتة من أهمية قضية فلسطين.
الواقع المرّ هو أنه بعد أكثر من ربع قرن على اندلاع الجهاد العالمي، أوجه فهمه واستيعابه وتقديره تقتصر على الشكليات، وهي ضعيفة جداً في تصويرها لعلاقته بمجتمعاته وفي استقرائها للمنطق الضمني للظاهرة. بل يجري التعامل مع هذه الإشكالية من موقع سجالي.
الأقرب إلى الصواب هو أن الحركة الجهادية العالمية، المتطابقة مع الإرهاب، لا تختصر واقع التوجهات الإسلامية المحافظة، كما يريدها خصومها، ولكنها ليست منقطعة عنها، كما يزعم الاعتذاريون.
قد يكون القليل في مضمون التحليلات التي تزعم كشف ما يحركّ الظاهرة الجهادية مقنع خارج السجاليات، أو قد لا يكون. ما هو أكيد على أي حال هو أن سبل معالجتها ليست في قتل قادتها، وإن كان الأمر مصلحة من جانب درء الخطر المباشر، وليست حتماً بمحاولة الاستعاضة عنها بالترفيه في البيئة التي تستقطب منها.
يوم قتل أسامة بن لادن، أصبحت جماعات جهادية عديدة كان تدين بالولاء الشخصي أو التنظيمي له بحلّ من بيعاتها أو تعهداتها. ولا بد من استقصاء بروز تنظيم الدولة الإسلامية وإن جزئياً في هذا التطور العرضي. أيمن الظواهري ليس بقامة أسامة بن لادن، غير أن تغييبه ينهي الجيل المؤسس لتنظيم القاعدة ويفتح المجال أمام قيادات جديدة، سواء بشكل تنافس على القيادة المركزية أو المزيد من التشظي بتنظيمات فرعية.
ثمة حاجة في واشنطن إلى الاستمرار بضرب هذه التنظيمات، منعاً لها من الإقدام على اعتداءات. على أن هذا الضرب لا يعني الانتصار بالحرب. واشنطن، والعالم أجمع، بحاجة إلى قراءة أكثر اعتباراً وأقل تسقيما وتعليلاً لمسار الحركة الجهادية. قتل أيمن الظواهري، من وجهة النظر السائدة في الولايات المتحدة، هو سداد دين اعتداءات ماضية. غير أن ترحيل الرجل، وإن أدى إلى تفتيت تنظيم القاعدة المنهك أساساً، ليس نهاية الحركة الجهادية الإرهابية. أمام هذه الحركة للأسف مستقبل ناشط، والحاجة إلى فهم موضوعي لأصولها في أوجّها.