الكمالية والإسلام السياسي في تركيا - مقالات
أحدث المقالات

الكمالية والإسلام السياسي في تركيا

الكمالية والإسلام السياسي في تركيا

محمد السكري:

 

قبل قرنين من الزمن، بدأ الصراع الأيديولوجي في تركيا بشكل رسمي في نهايات الدولة العثمانية، لا سيما بعد الانتقال من الهوية الإسلامية الثيوقراطية، إلى إسلام المواطنة، وذلك بعد الإعلان عن "التنظيمات العثمانية"، في عهدة عبد المجيد الأوّل في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1839، وذلك بعد التفاوت الحداثي بين الدولة العثمانية وأوروبا على الصعد التقنية والاقتصادية والمعرفية.

عُدَّت آنذاك المواطنة العثمانية، بغض النظر عن الدين، هي المرجع الأساسي للمواطن وعلى هذا الأساس حملت المجموعات غير المسلمة من الطوائف الأخرى حقوق المواطنة وواجباتها، وربما أهمها خدمة الجيش. لكن، هذا الصراع في الغالب لم يكن قومياً دينياً وإنما كان حداثياً-كهنوتياً في طور التقدّم الذي شهده المجتمع الغربي وتراجع قوّة الدولة العثمانية على الصعيدين العسكري والسياسي.

بقي الصراع يتطور على مدار عقود القرن التاسع عشر وصولاً إلى حقبة السلطان عبد الحميد الثاني الذي أعلن عمّا يُسمّى "القانون الأساسي"، وهو أول نص دستوري حداثي في تاريخ الدولة العثمانية، وذلك في العام 1876، إذ نُقلت صلاحيات من السلطنة إلى البرلمان، المجلس العمومي، للمرة الأولى في مشهد مشابه إلى حدٍ بعيد بـ"الماغنا كارتا" البريطانية (1215)، مع اختلاف العوامل التي ساهمت في تكوين شكل النظام السياسي.

لكن، سرعان ما أُوقف العمل بالوثيقة بعد عامين وتم إجهاض مسار الديمقراطية في السلطنة وهذا ما دفع تيار "Jön Türk"، أي المحدّثين الأتراك أو الأنتليجنسيا العثمانية، المعارضة للدولة الدينية، إلى تشكيل تحالف سياسي تطوّر مع الوقت وتغلغل داخل قطاعات السلطنة وبالتحديد الجيش، وعلى هذا الأساس تطوّر مع الوقت، وأفرز ما يسمى "حزب الاتحاد والترقي"، المسؤول عن الانقلاب العسكري عام 1908-1909. ومع تأسيس الجمهورية التركية خلال توقيع "اتفاقية لوزان" عام 1923، أخذ الصراع الأيديولوجي في تركيا شكلاً جديداً تجسد في الإطار القومي-الإسلامي، وفي ظل إطار هوية الدولة الجديدة لا خارجها.

الكمالية والخلافة

عاش تيار المحدثين الأتراك أزمة هوية مع تسلّمه زمام الحكم خلال فترة 1909-1918، أي خلاف بين التنظير الأيديولوجي والحركي وهذا ما دفع بشخصيات عديدة غير تركية للخروج من الحزب وتبنّي مشروع مضاد قومي، فانتقل الحزب من مطالب الحداثة والمواطنة إلى اعتماد القومية كأساس الهوية الحداثية وهذا يعود، بحسب بعض المؤرخين، إلى صعوبة بلورة هوية عثمانية حداثية -كانت دينيةً- وتالياً كان خيار العودة إلى الهوية الطورانية هو الحل الوحيد للولوج في الحداثة الغربية.

وقد عززت هذه الهوية مجموعة عوامل أهمها؛ الصراع القومي التركي-العربي، ولا سيما بعد إعلان مؤتمر العرب في باريس 1913، عن مطالب العرب باللا مركزية، وصولاً إلى مطالب الاستقلال الكلي عام 1915، بالإضافة إلى التمرد الداخلي في الأناضول بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، واحتلال تركيا من قبل الحلفاء في ما سميّ "حرب التحرير التركية" عام 1919-1922، بقيادة "مصطفى كمال أتاتورك"، مؤسس الجمهورية التركية.

كذلك، ساهمت اتفاقية لوزان 1923، التي أعلن بموجبها عن تأسيس الجمهورية التركية، في تعزيز هذه الهوية، فضلاً عن المتغيرات الوطنية والتحالفات الدولية التي ساهمت في تشكل تصور جديد حول الدولة في تركيا، والذي يكمن في هوية جديدة متصالحة مع الحداثة ومتجاوزةً الدولة الثيوقراطية والماضي الديني.

على هذا الأساس، أصبحت الهوية التركية مزيجاً بين مدرستين فكريتين، وهما؛ العثمانية والطورانية، اللتان بدورهما شكّلتا الهوية الكمالية وقد قوننت بشكل رسمي في المادة الثانية من دستور العام (1924)، وهو أول دستور للجمهورية التركية في مواد صلبة لا يمكن تغييرها. إذ تجسدت في مفاهيم عدة؛ مفهوم الدولة، والانقلاب، والشعب، والقومية، والعلمانية، والجمهورية.

مع ذلك، بقيت الهوية محل خلاف مستمر لدى أيدولوجيات مختلفة في تركيا، ولا سيما أنصار الدولة الدينية العثمانية، إذ انطلقت ثورة الشيخ سعيد في شباط/ فبراير 1925، التي تُصدَّر في العادة على أنّها تمرد قومي، وهي كانت تمرداً ضد شكل الدول وإنهاء الخلافة في آذار/ مارس 1924، حسب ما أورد المؤرخ التركي عبد الباقي أردوغموش، في مقال له في مجلة التاريخ، العمق التاريخي، بعنوان "حقيقة الشيخ سعيد"، عام 2014.

في حين أنه مع القضاء على التمرد، فرض الحزب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك، حياة الحزب الواحد لمدة عقدين ونيف، ما ساعد على تقويض المشروع الإسلامي المضاد "للدولة" والقضاء عليه، فحُسم الخلاف الأيديولوجي على الدولة وانتقل الصراع الفكري في إطار تيارات سياسية مختلفة، إلى "صراع ما بعد الأيديولوجيا".

التعددية الحزبية

في حزيران/ يونيو، 1945، ظهرت إلى السطح خلافات مستعرة بين الحزب الجمهوري التقليدي الذي يسيطر على مقاليد الحكم، وأربعة أعضاء داخله لهم نفوذ جيد على الصعيد السياسي، وهم: عدنان مندرس، ورفيق كورلتان، وجلال باير، وفؤاد كوبرو، في حادثة سُميت Dörtlü Takrir، في تركيا، والتي بموجبها تم إخراج الأعضاء على إثر مطالبتهم، من خلال الكتابة الصحافية، بالانتقال إلى التعددية الحزبية في تركيا، وتعزيز الحريات السياسية، وإنهاء هيمنة الحزب الجمهوري.

بقيت هذه المطالب غير مقبولة، ورُفضت من قبل الحزب الذي في الأصل يتبنى "الدولانية" كمفهومٍ في فقه إدارة الحكم، إلى حين نهاية الحرب العالمية الثانية وانضمام تركيا إلى معسكر الدول التي تبنت الأنظمة الديمقراطية، ما فرض على الجمهوريين الاستجابة لتلك المطالب. وساعد هذا الأمر في تأسيس الحزب الديمقراطي في كانون الثاني/ يناير 1946، الذي حظي بشعبية كبيرة كونه تبنى حركةً فكريةً "تياريّةً" مركّبةً جمعت بين المفاهيم الليبرالية والمحافظة الإسلامية والكمالية، أي حُسب على اليمين.

في السياق ذاته، كانت لتركيا وضعية خاصة من حيث التصنيف الأيديولوجي، فكل تيار سياسي متمسك بالمبادئ الكمالية وبعيد عن الإسلام السياسي، يُحسب على اليسار، بينما القريب منها يُحسب على اليمين من دون أن يعني ذلك أنّ الأحزاب اليمينية لا تتبنى مفاهيم الكمالية.

مثّل وصول اليمين الإسلامي، إلى السلطة في أيار/ مايو 1950، بـ %52.7للمرّة الأولى منذ تأسيس الجمهورية ولمدة عقدٍ من الزمن وبدعم من الغرب الأوروبي والأمريكي عبر المساعدات التي قُدّمت في إطار مشاريع مارشال وترومان وانضمام تركيا إلى حلف الناتو (1951)، وتبنيها سياسات اقتصادية رأسمالية، بداية صفحة جديدة مع الإسلام التركي السياسي، ولم تعد أيديولوجيا الدولة التركية "الكمالية" تشكل هاجساً لدى التيار، من دون أن يعني ذلك قبولها أو مواجهتها، وإنما ترحيلها على حساب مساحة العمل السياسي في إطار شكل الدولة الراهن.

وعلى هذا الأساس كان هناك تغيير في الخطاب والسياسات والتوجهات وآليات الصراع، فعلى سبيل المثال، بالرغم من سنِّ عدنان مندرس عبر البرلمان التركي قانون رقم (5،665)، لإعادة الأذان باللغة العربية في حزيران/ يونيو 1950، لكنه دفع في تموز/ يوليو 1951 إلى سن قانون رقم (5،816)، تحت عنوان "حماية أتاتورك"، ويمنع التعدي على شخصية مؤسسة الدولة وأيديولوجيتها.

وكان من المتوقع عند عودة الحياة السياسية أن تشغل هوية الدولة أهم الأحزاب المعارضة، وبالفعل بهذا خرجت تركيا بمشهد سياسي جديد لعل أبرز مقوماته ولادة إسلام سياسي لا يقوم على معاداة مخرجات الهوية الكمالية، وإنما التعامل معها بمنطلقات منفعية مرحلية أي التصالح معها، من دون تقبلها على الأقل، وهذا ما أطلق عليه "الإسلام السياسي"، أو "البراغماتي".

لاحقاً، قوّضت الانقلابات العسكرية التي لجأ إليها تيار اليسار -استهدفت في محطات عديدة اليسار نفسه- من التجربة الديمقراطية التركية، ورفعت منسوب الصراع مع اليمين بالرغم من فترات الفتور التي حدثت في خلالها توافقات ولا سيما بعد سنّ الدستور الثاني للجمهورية عام (1961)، الذي وسّع نطاق الحريات الدستورية والسياسية الحزبية و"الجماعاتية" النقابية.

لكن، سرعان ما حظر العسكر بعد أعوام عودة تيار اليمين الإسلامي المتمثّل في حزب النظام الوطني في آذار/ مارس 1971، وهو أوّل تجربة سياسية في سلسلة من الأحزاب الدينية التي أسست بقيادة نجم الدين أربكان، صاحب لقب "أبو الإسلام السياسي" في تركيا.

يرى بعض المؤرخين الأتراك أن الاستحقاقات الخارجية وتعثّر تشكيل حكومات، أي التخبطات الداخلية السياسية وعدم الاستقرار، ساهمت في نسج واقعٍ سياسي تمثل في تحالفٍ بين الجمهوريين والإسلام السياسي المتجسّد بحزب "السلامة الوطني"، ثاني أحزاب أربكان الدينية، عندما شكلت حكومة ائتلافية رقم 37 في كانون الثاني/ يناير 1974، وربما هذا يعود لاستحقاق قبرص الخارجي في إطار عملية قبرص حين غزت القوات التركية الجزيرة في 20 تموز/ يوليو 1974، أي بعد أيام من الانقلاب القبرصي الذي كان يهدف إلى توحيد قبرص واليونان.

مع ذلك، لم تصمد هذه التحالفات سوى بضعة أشهر، لكن بقي الإسلام السياسي يتغلغل ويتعاظم دوره في السلطة قبل الانقلاب الثاني في تركيا عام (1980)، والذي أطاح مرةً جديدةً بهذا التيار بالإضافة إلى اليسار الديمقراطي المتشدد الصاعد.

واستمرت تركيا تعاني من تداعيات الصراع الأيديولوجي بين التيارين على السلطة، وبعد مرور ما يزيد عن عقدٍ، عاد أربكان بحزب "الرفاه" إلى السلطة متحالفاً مع حزب الطريق القويم بزعامة تانسو تشيلر، "اليمين الديمقراطي"، لكن العسكر كما في كل مرّة عاد من جديد في شباط/ فبراير 1997، من خلال انقلاب سُمّي "انقلاب ما بعد الحداثة"، ليبعد تيار الإسلام السياسي عن السلطة.

التمرد على الكمالية

اتسمت سياسات حزب العدالة والتنمية، الذي وصل إلى السلطة عام 2002، في فترته الأولى، بأنَّها مشابهة إلى حدٍ كبير لخط مندريس وأكثر براغماتيةً من أربكان. لكن، مع بروز تيار الوحدة الإسلامية ""Pan- Islamizm، وانتقاله من الحالة التنظيرية إلى الحركية في إطار إدارة السياسات العامة في الدول لا سيما مع اندلاع الربيع العربي، شهدت السياسات الخارجية التركية تحولاً ملحوظاً منسجمةً بشكل أكبر مع توجهات الأيدولوجيا التي نظّر لها داود أوغلو، وزير الخارجية التركي السابق.

وتقوم محددات العالم الإسلامي غير المتعارض مع المنظومة الدولية، أي عالم تركي-ديني يتجاوز هوية الدولة الذاتية والكمالية بطبيعة الحال، على تعزيز حضور تركيا الإقليمي عن طريق دولة المركز الإسلامي "تركيا"، واللا مركز المحيط الإقليمي "الإسلامي"، ما يعني تغيير شكل النظام السياسي من الكمالية لتصبح أكثر جاذبيةً من حيث القابلية الاجتماعية، وتعززت آمال هذا التيار إقليمياً في تحقيق رؤيته من خلال دعم تيارات إسلامية وسطية مثل حزب النهضة في تونس، والإخوان في مصر، وحماس في فلسطين "غزة"، وبعض تيارات المعارضة السورية وحكومة الوفاق في ليبيا، ودول مثل قطر.

لكن، مع إسقاط تركيا للطائرة الروسية في سوريا (2015)، وقبله سقوط الرئيس المصري آنذاك محمد مرسي، عبر انقلابٍ عسكري (2013)، ونجاح جزئي للثورات المضادة، واجه التيار انحساراً سياسياً وسخطاً شعبياً داخلياً دفعه إلى العودة غير المباشرة للبراغماتية السياسية مطلع (2021) عبر محابهة أنصار الكمالية مع تصعيد الاتهامات بالمساس بهوية ثابتة في المبادئ والقيم الاجتماعية والدستورية.

مثّل هذا التوجه الفكري إحدى أكثر محاولات الإسلام السياسي التركي لمواجهة أيديولوجيا الدولة، وليس فقط التيارات الحزبية اليسارية، وما زالت إلى اليوم تخوض صراعاً مستمراً ربما أحد أبرز توجهاتها الداخلية، ما عدا الاستقطاب الديني، المساعي إلى إجراء تعديلات دستورية على دستور سنّه العسكر التركي.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*