أشخين ديمرجيان :
هناك نزعة عالميّة للتقليل من قيمة الجانب الروحاني في الإنسان. وهو من أهمّ الجوانب في شخصيّته كونه يحقّق له النجاح والأمان. وهذا يشمل الإيمان بالله: القيمة العليا التي ينبغي أن يعيش الإنسان من أجلها، كي يشعر بالتوازن بين الروح والعقل والجسد...
كلّما ازدهرت الحياة الاقتصاديّة وازداد التقدّم العلمي والصناعي وما يسمى بالحضارة المادية، كلّما ازداد الفراغ النفسي في الإنسان وتفشّى، ممّا لا يمكن تجاهله، وعلينا محاربة هذه الظاهرة بتفعيل النواحي الفكريّة والتنمويّة والروحانيّة في الأفراد لأنّها تعود بالنفع عليها وعلى المجتمعات.
"الحضارة المادّيّة" التي كثيرًا ما انتقدها قداسة البابا الللاهوتي العبقري بندكتوس السادس عشر، واستنكر بشدّة "طغيان النسبيّة" و"الوثنيّة الجديدة" والعولمة التي حوّلت عددًا كبيرًا من الحكّام إلى طغاة مثل هيرودس الكبير، همّهم الغنى الفاحش على حساب الشعوب المسكينة، وجعلت من الإنسان شبه آلة لا يشعر بقيمة وجوده في هذه الحياة، كما ملأت حياته بفراغ كبير رغم عمله بنشاط وجهد.
أشكر الله وأحمده أنّي تخصّصت في علم اللغات وعلم النفس والفنون الجميلة، وهي أقرب إلى ميولي في الروحانيّات والميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) التي تبحث في أسرار الكون والظواهر الغريبة، وجميع الامور الغيبيّة التي لم يجد لها العلماء تفسيراً بعد. تجذبني هذه العلوم لأنّها بعيدة كلّ البعد عن "الحضارة" الماديّة التي تُشغل العالم بالحروب وكلّ ما هو زيف وضلال. والحمد لله أنّي لا أنتمي أو أشارك في الميدان السياسي لا من قريب ولا من بعيد، ولو كنت كذلك لاستقلت من منصبي، للشبه الكبير في سلوكيات غالبية السياسيين بهيرودس، ولكثرة ما أرى في هذا المعترك من خيانات ومؤامرات محبوكة، مع احترامي للسياسيين النزهاء على ندرتهم. وينجرّ بعض السياسيين إلى منزلق الكذب والمراوغة والتمويه، وأحيانًا يتخلّى قوم منهم عن الشرف والأخلاق، إمّا للوصول إلى مناصب لا يستحقّونها، أو لخوفهم على حياتهم من مافيات الجريمة والمال والنفوذ. وتضيع الشعوب بين الأقدام!
كثر في الزمن الحاضر أمثال "هيرودس" ببطشهم بلا رحمة، بلا التزام بمبادىء حقوق الانسان، وبلا وازع من ضمير، ضاربين عرض الحائط غضب الله عزّ وجلّ، من غير أن يقيموا وزنًا أو اعتبارًا لوصيّته تعالى: "لا تقتل". وفي نفس الوقت ليسوا مستعدّين للتضحية بأبنائهم بل بأبناء الشعب.
ويعجز القلم عن وصف المآسي والفواجع التي تحدث في العالم، أو تعزية المنكوبين الذين أصيبوا بالنوائب السوداء. والمشكلة أنّ أشباه القدّيس يوحنا المعمدان قلائل، وهو الذي كان يوبّخ هيرودس أنتيباس ابن هيرودس الكبير ويقول: "لا يحلّ لك أن تخون زوجتك أو أخاك" (مر 6:18) باتّخاذ امرأة أخيك "هيروديا" زوجة لك وهو على قيد الحياة! ولكن "وافق شنّ طبقة"، فقد اتّفقت هيروديّا مع سِلفها هيرودس أنتيباس على الطموح بغير حدود، والانفلاتيّة من غير قيود، والإجرام والبطش بشراسة الأسود.
أسلفتُ أنّ السياسة ليست من تخصّصي. لذا، أعرض هنا من غير ادّعاء معطيات تؤكّدها مصادر وتنفيها أخرى، بحيث بات من العسير بل المحال معرفة الحقيقة، مع أنّ مؤشّرات كثيرة تطفو على السطح. ولكن نتيجة كلّ المعطيات أو الفرضيّات تقول: إنّ الشعوب المسكينة تُقتل وتُظلم، مئات البشر يُقتلون من غير أن يعرفوا مَن اغتالهم ولماذا ولحساب مَن ولمصلحة مَن، وها قد "رجعنا إلى "المربّع الأول"، كما يقول الإنكليز: هيرودس وسلالته وأشباههم يتلاعبون بحياة البشر وبمصيرهم. هيرودس لم يمت. ممكن للعامّة أن تقول في كثيرين من الحكّام أو العظماء الذين يحرّكون الخيوط "هذا هو هيرودس! الخالق الناطق!". وتحتاج هذه العبارة إلى إيضاح. الله وحده هو "الخالق". المقصود: "نسخة طبق الأصل من هيرودس كأنّها خرجت من يد الخالق" ولكنّها في الواقع خرجت عن شريعته ووصاياه وهداه ، ولم تنطق بمجد الله بل بالمعصية والإثم.
خاتمة
أجمل ما في الوجود أن تكون لحياتنا غاية سامية نعيش من أجلها كي نشعر بالسلام الداخلي... وأهمّ من ذلك كلّه ملء بعض أوقات الفراغ بالتواصل وجدانيًا معه تعالى كي نحقّق سموًّا لنفوسنا وارتقاءً لأذهاننا وراحةً لقلوبنا، كما كتب القدّيس بولس الإناء المختار: "...أمّا التقوى ففيها خير لكلّ شيء لأنّ لها الوعد بالحياة الحاضرة والمستقبلة" (تيموثاوس الأولى 4:8).
موقع ابونا