إيهاب نبيل:
دائماً ما ترتفع أصوات السلفيين والأصوليين من التيار الإسلامي، مناديةً بأسبقية الإسلام في تطبيق مبدأ الشورى في صيغته السياسية، بل وإرجاع أصل الديمقراطية الحديثة المتمدينة إلى انبثاقها عن مبدأ الشورى الإسلامي. كما أنهم يجدون التبرير والدليل على ذلك في نص الآية القرآنية: "وأمرهم شورى بينهم"، والآية الأخرى: "واعف عنهم واصفح لهم وشاورهم في الأمر"، فضلاً عن الإشارات الواردة في كتب السير والمغازي عن حوادث استشارة الرسول محمد لأصحابه، خصوصاً في الغزوات والقتال.
ومن شأن اتخاذ هذه الأدلة على أنها مثبتة وغير خاضعة للنقاش أو الجدل التاريخي حتى، أن يرسّخ في ذهنية العوام والمثقفين والمهتمين والمشتغلين بمجال التراث الإسلامي، فكرة أن الشورى هي أصل الديمقراطية، أو أنهما مصطلحان مترادفان، بل وإلباسها لباساً إسلامياً، لتصبح ديمقراطية بنكهة إسلامية!
الحقيقة أننا أمام عبث معرفي و تاريخي إزاء التنقيب في حقول التراث، بل أعتبره يدخل في إطار المسكوت عنه، يستهدف تضليل الوعي في عقليات وذهنيات الشعوب، كون هذا الموضوع يدخل في دائرة نظم الحكم والسياسة. فمن خلال كتب التراث، سواء التي كتبت بعد عصر الخلفاء الراشدين، في عصور الأمويين أو العباسيين، أو فترات لاحقة حديثة ومعاصرة، نجد أن معظمها تناول موضوع الشورى في إطار مثالي يوتوبي ملائكي، يعكس الطابع الثيوقراطي لأنظمة حكم طاغية مستبدة، تدعي بأن خلافتها هي خلافة الله في الأرض، وهي نظرية شبيهة بنظرية التفويض الإلهي عند الساسانيين الفرس.
وفي نفس الوقت تم تناول موضوع الشورى في إطار تجريدي جداً، بعيد عن قراءة الواقع التاريخي بمكوناته السوسيو- اقتصادية، والصراع الطبقي المؤطر لموضوع سياسي وأيديولوجي، ما انعكس على سطحية الآراء والرؤى والتنظيرات الناتجة عن فهم نظام حكم سياسي بمعزل عن تفصيلات الواقع التاريخي، الأمر الذي أفضى إلى سيادة النصية، والنقل على حساب العقل، المتمثلين في كتب الأصوليين المكتوبة في عصور الانحطاط التي هي عصور سيادة النمط الإقطاعي في شكله النهائي، منذ منتصف القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي .
فبالرجوع إلى التراث، وهو حقل متراكم جداً من المعرفة والمادة التاريخية الدسمة، والتي تمكننا من سبر أغوار كثير من الموضوعات، خاصة السياسية منها مثل الشورى في الإسلام، وبعيداً عن هوس الأصوليين بأفعال الصحابة وآرائهم التي كانت في إطار تاريخي وظرف موضوعي معين، فإننا نتطرق إلى الواقع التاريخي الذي يعد الإطار الوحيد والأكيد لتفسير الظواهر السياسية، وهو في ذات الوقت تراكم أبستمولوجي معبر عن الصراع الاجتماعي الاقتصادي، مما يؤدي إلى بناء فوقي، سياسي وإيديولوجي.
آثرت هنا أن أُخضع عصر الخلافة الراشدة كنموذج دائماً ما يستدعيه الأصوليون إلى محيط جدالاتهم، لإظهار كيف أن مجتمع المدينة كان ديمقراطياً حقاً عن طريق مبادئ الشورى الإسلامية التي تشكل مخرجاً لحل مشاكل نظم الحكم، عوضاً عن الديمقراطية الشعبية المدنية وحقوق الإنسان، "المستوردة من الغرب". لعل اجترار هذا الجزء من تاريخ شبه الجزيرة العربية القائم على الغلبة والقوة، هي محاولة من هؤلاء لإحياء الماضوية باجترار الحديث عن عظمة الخلفاء الراشدين في تطبيقهم لمبدأ الشورى لنسج الشعبوية حول أسطورة الشورى في إطار التأريخ الرسمي لمصادر تلك الحقبة التاريخية المفصلية في تاريخ الإسلام.
بعد وفاة الرسول
بعد وفاة الرسول في العام 11 للهجرة، طرح الواقع التاريخي آنذاك مسألة فارقة وخطيرة وهي: من يتولى مكان الرسول ويخلفه في منصب زعامة المسلمين؟ خصوصاً أن هذا السؤال لم يتخيله أو يفكر فيه أحد من صحابته، ولم يعدوا لهذا الأمر بديلاً، لكن وجود شخصيات كبيرة ولها ثقل اجتماعي واقتصادي كبير، مثل أبي بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان عفان وغيرهم من كبار الصحابة، أظهرهم بأنهم مثلوا صمام الأمان للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، وحلًا للخروج من هذا الموقف الصادم للمسلمين، سيما وأن الرسول نفسه لم يشر بشكل مباشر إلى آلية اختيار خليفته أثناء حياته، ولم يتطرق لخلافته، ولم تورد المصادر التاريخية سوى أمر الرسول لأبي بكر الصديق بإمامة المسلمين في الصلاة أثناء مرضه.
إذن هنا يفرز الواقع المادي معطياته المشكلة والمكونة للظرف الموضوعي آنذاك، و هو وجود ثلاث تيارات اجتماعية أساسية في الحجاز، وهم الأرستقراطية القديمة المتمثلة في مسلمي الفتح، خاصة البيت السفياني، والثاني تيار الأرستقراطية الثيوقراطية القرشية التي يمثلها أبو بكر، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، الزبير بن العوام، طلحة بن عبيد الله وغيرهم من كبار الصحابة المالكين للثروة النقدية أو العقارية.
وثالثهم تيار تزعمه علي بن أبي طالب، والذي كان يمثل التيار الثالث الذي انضم إليه الصحابة الذين كانوا مسترقين أو مستضعفين، عرباً وموالي، خصوصاً أن تيار علي هذا قد اكتسب شعبية وجماهيرية كبيرة من عامة المسلمين، ومن ثم تظهر وتتضح مسألة اختيار خليفة للرسول كصراع اجتماعي تحكمه مصالح اقتصادية، وصراع طبقي تكرس فيه حيازة الثروة كأساس له .
فكانت بيعة سقيفة بني ساعدة، عام 11ه، تجسيداً لهذا الصراع الطبقي، حيث وقفت الأرستقراطية الثيوقراطية القرشية في مواجهة أنصار المدينة والذين طرحوا سعد بن عبادة الأنصاري كممثل لهم في تولي منصب الخلافة، حيث دعمت الأرستقراطية القرشية الدينية، وعلى رأسها عمر بن الخطاب، أبي بكر الصديق لتولي الخلافة. ولعل موقف عمر في بيعة السقيفة يلقي الضوء بشدة على حقيقة الصراع، حين عبر عنه بقوله عن الأنصار: "يريدون أن يختزلونا من أهلنا ويغصبونا الأمر، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته".
وما قاله أبو بكر حينما واجهه سعد بن عبادة بمقولته: "منا أمير ومنكم أمير"، فرد عليه أبو بكر: "منا الأمراء ومنكم الوزراء"، في إشارة واضحة إلى أن الطبقة الأرستقراطية القرشية ستسيطر عليه قسراً بالغلبة والقوة استناداً إلى وضعها الاقتصادي والاجتماعي القوي، كونهم كبار تجار قريش.
لا وجود لأي مزاعم الشورى على الإطلاق في تلك البيعة، بل هي بيعة إذعان لطبقة مالكة للثروة النقدية و العقارية، خصوصاً وأن الإسلام احتفظ لقريش وعرب الحجاز بمكانة متفوقة، نظراً لاحتكار قريش تجارة العبور وتكوين الأحلاف التجارية. بُويع أبا بكر بالخلافة وهو انتصار للطبقة الأرستقراطية الثيوقراطية واستمرت خلافته في ظل سيادة نمط تجاري اقتصادياً وعبودي اجتماعياً، والذي من الممكن الموافقة على ما أسماه مكسيم رودنسون بالرأسمالوية، نظراً لعدم وجود رأسمالية صناعية منتجة أو حديثة قائمة على القيم التبادلية.
تحول الخلافة بعد اغتيال عمر
خلف عمر بن الخطاب أبا بكر وسار على نهجه تماماً، إلا فيما يتعلق ببعض القضايا الاقتصادية المتعلقة بتوزيع الفيء الذي جعله عمر بأسبقية الإسلام، ليضمن ولاء طبقته المسيطرة، على عكس ما كان يفعله أبو بكر بتوزيع الفيء على مسلمي الفتح لتحجيم الأرستقراطية القديمة (السفيانية)، و تلك سياسة عولت على المهادنة و التسوية من أجل استقرار دولته آنذاك، و مسألة الأراضي الزراعية التي ستصبح هي المتحكمة بسيرورة أحداث التاريخ الإسلامي، سواء خلال عصر الراشدين أو العصور التي تليه.
كانت حادثة اغتيال عمر بن الخطاب تحولاً هاماً في كيفية مبايعة الخليفة، كشفت بقوة عن حالة الصراع الطبقي الذي سيزداد تجذراً، حيث قبيل موته أمر بتشكيل مجلس من ستة من كبار الصحابة أُطلق عليه مجلس أهل الحل والعقد، وهم عثمان بن عفان، عبد الرحمن بن عوف، طلحة بن عبيد الله، الزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب، ومعهم ابنه عبد الله بن عمر، على ألا يكون من بين المرشحين مكتفياً بالمشورة.
و كما نرى تشكيل هذا المجلس، وهم الغالبية من كبار تجار قريش الذين مثلوا الأرستقراطية الثيوقراطية عدا علي بن أبي طالب، و كانت النتيجة في صالح عثمان بن عفان عن طريق المبايعة، إلا أن مبايعة عثمان بن عفان بالخلافة كانت حدثاً تاريخياً بالغ الخطورة في الدولة الإسلامية، إذ يعني وصول الأرستقراطية القديمة الرجعية للحكم و تسلمها للسلطة، وتطور هام في الصراع الاجتماعي – الاقتصادي، حيث أن عثمان من البيت الأموي الذي يضم الأسرتين، السفيانية والمروانية.
ومن هنا يحدث تغيير كيفي خصوصاً في المسألة الزراعية التي تم إعادة تشكيلها بدخول أراضي الصوافي، وهي أراض تخلى عنها الملاك القدامى والاقطاعيون هرباً أو موتاً أثناء الفتوحات، وقد اصطفاها عمر بن الخطاب لبيت المال وسميت "صوافي"، وبما أن الزراعة أصبحت هي نمط الإنتاج الأساسي بفعل الفتوحات، فقد أصبحت التجارة نمطاً هامشياً، ومن ثم دخول الدولة مرحلة الإقطاع وإن كان في بداياته على شكل إقطاع منفعة وليس إقطاع رقبة (ملكية خاصة). وهذا التحول الكيفي أدى إلى جنوح حركة التاريخ الإسلامي نحو الوراثة في الحكم، خصوصاً عندما يكتسب الإقطاع صفة الإرث في عهد الأمويين .
إحياء نفوذ الأرستقراطية القديمة
أوردت بعض المصادر التاريخية الإسلامية إشارات عن أول من أُقطع العراق كان عثمان بن عفان، فضلاً عن اقتنائه ضياعاً تدر عليه ما يقرب من مائة ألف دينار سنوياً، بالإضافة إلى أن معظم الإقطاعيات في الحجاز أو الولايات اختص بها عثمان أهله وأقرباءه من الأرستقراطية السفيانية، بل حتى مراعي المدينة صارت حكراً على دواب بني أمية.
وقد أدت هذه الإجراءات إلى إحياء نفوذ الأرستقراطية القديمة، لتصبح الطبقة ذات الصدارة في السلم الاجتماعي، ما يعني تبدل الشكل الطبقي للسلطة على حساب الأرستقراطية الثيوقراطية التي أشبع عثمان نهمها بالهبات والأعطيات، وسمح لزعاماتها بالهجرة إلى الأمصار للتجارة، مستغلين مكانتهم الدينية العميقة في نفوس العامة، دفعاً باتجاه أنهم صحابة رسول الله .
تزداد تناقضات الواقع، الأمر الذي أفضى إلى تبلور الصراع حول تيارين أساسيين، هما العثمانية وشيعة علي بن أبي طالب، وكما قلنا، إن تيار علي قد اكتسب شعبية وجماهيرية ليست بالقليلة، بل وانضم الموالي (المسلمون من غير العرب) وغيرهم من العبيد وصغار الملاك والفلاحين لمناصرته، خصوصاً بعد تحويل أراضيهم إلى إقطاعات حازها عثمان بن عفان والأرستقراطية السفيانية، ولعل هذا يفسر أسباب الثورة على عثمان في سواد العراق ووادي النيل بمصر، إبان ولاية عبد الله بن سعد بن أبي السرح، شقيق عثمان بالرضاعة، حيث كانت ثورة المصريين ضد عسف و ظلم ابن أبي السرح جراء فرض الضرائب والشطط في جبايتها .
جملة القول من خلال إلقاء بعض الضوء على بنية المجتمع و نمط الإنتاج في الدولة الإسلامية إبان خلافة الراشدين، وبالنظر إلى الأوضاع السابقة نستطيع القول بسقوط دعاوي التنظير الأيديولوجية المذهبية، وتسقط دعاوي الأصوليين الزائفة عن مبدأ الشورى الوهمي، الذي لم يكن مطروحاً إلا في كتب الأصوليين التراثية التي كتبت ودبجت في عصور الانحطاط، وأن الأفكار خلال سيطرة الإقطاع كانت متماهية تماماً مع نمط الإنتاج السائد.
هذا النمط، هو ما أفرز النصية والغيبية التبريرية للظلم والاضطهاد الطبقي والعنصري من قِبَل سلطة الخلافة، خاصة وإن هذا الاضطهاد سيزداد قسوة إبان عهد الدولة الأموية، استتباعاً ونتيجة لتطور نظام الإقطاع للأسوأ، ومن ثم ظهور أبنية فوقية تتناسب تماماً مع التطور الكيفي الجديد، لذلك لايزال السؤال موجهاً للأصوليين: أين الشورى و قد أُخذت السلطة بالغلبة والثروة وتكتلات المصالح؟