محمد يسري:
عرف التاريخ الإسلامي أدواراً سياسية متفاوتة لنساء متنفّذات، حكم بعضهن بصفتهن وصيات على العرش في بعض الأحيان، كما شارك البعض الآخر منهن في السلطة من وراء الحجب، من خلال تأثيرهن القوي على أزواجهن وأبنائهن من الخلفاء والسلاطين في أحياناً أخرى.
في حالات معدودة، نجد أن بعض النساء قد أنجبن خليفتين أو سلطانين، الأمر الذي تكرر في عصر الدولة الأموية، الدولة العباسية والدولة السلجوقية.
ولادة بنت العباس: أم الخليفتين الوليد وسليمان
لما كان الأمويون قد خاضوا حرباً شرساً ضد عبد الله بن الزبير، فإنهم قد عملوا على الحصول على دعم وتأييد أقوى قبائل العرب، وكانت قبيلة بني عبس على رأس تلك القبائل. بحسب ما يذكر ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق"، فإن عبد الملك بن مروان قد رغب في مصاهرة بني عبس المعروفين بالشجاعة والقوة، فتزوج من ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث العبسية، وضمن بذلك حليفاً قوياً في حروبه الطامحة للاستيلاء على الملك.
بنو عبس أيضاً استفادوا كثيراً من تلك الزيجة، فبحسب ما تذكر الكثير من المصادر التاريخية، ومنها على سبيل المثال "بغية الطلب في تاريخ حلب" لابن العديم الحلبي، فإن بني عبس قد حازوا مكانة مهمة في البلاط الأموي، وكسبوا ثروة كبيرة جراء ما أُقطعوا إياه من مساحات واسعة من الأراضي الواقعة في شمالي غرب سوريا، بالقرب من منبج الحالية، وهي الإقطاعات التي عُرفت باسم "حيار بني عبس"، أو "حيار بني قعقعة"، وكانت بيد كل من العباس والد ولادة، وابن أخيه القعقاع.
رغم أهميتها الكبرى لكونها قد صارت أما لاثنين من كبار خلفاء الدولة الأموية، إلا أن المصادر التاريخية لا تكاد تذكر شيئاً عن ولادة، اللهم إلا رواية واحدة يذكرها ابن عساكر في تاريخه، وهي تلك التي سأل فيها العباس، عبد الملك عن ولادة بعد أن تزوجها، ليأتيه جواب الخليفة "بأنها قد ملأته بالدم"، ويرد عليه العباس حينها "إنها من نسوة يحتسبن ذلك لأزواجهن".
وهي الرواية التي يُفهم منها تفاخر عبد الملك بفحولته وقدرته الجنسية من جهة، ورضا العباس بحسن تبعل ابنته لزوجها من جهة أخرى، ولعل من نافل القول التذكير بأن كلاً من الأمرين، الفحولة والتبعل، كانا إنما يتسقان مع قيم وأعراف المجتمع العربي البدوي الذكوري في تلك الفترة التاريخية.
بحسب ما هو معروف، فقد تعاقب ولدا ولادة بنت العباس -الوليد بن عبد الملك، ومن بعده أخوه سليمان- على كرسي الخلافة بعد وفاة أبيهما في سنة 86ه، إذ تولى الأول الحكم لمدة 10 أعوام تقريباً، فيما ارتقى الثاني من بعده كرسي السلطة وبقي عليه لما يقارب الثلاث سنوات.
ما يذكر هنا، أن انتساب الرجلين لولادة ولبني عبس قد أثر كثيراً في حياتهما، فسليمان الذي نشأ في كنف أخواله العبسيين، شب فصيح اللسان، وكان صاحب دراية في أمور الشعر والأدب، أما أخيه الأكبر الوليد، فقد تحاكى الشعراء مراراً بانتسابه لبني عبس، باعتبارهم أهل الشجاعة والنجدة، ومن ذلك ما ذكره أبو البقاء الحلي في كتابه "المناقب المزيدية في أخبار الملوك الأسدية"، من مدح الشاعر الأخطل للوليد بقوله:
بنو عبس فوارس كل يوم/ يكاد الهام خشيتهم يطير
شاه أفريد: أم الخليفتين يزيد وإبراهيم
تختلف الأقوال في اسم الأميرة الفارسية التي أسرها المسلمون في بعض حروبهم، وانتهى بها المطاف كجارية في قصر الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان، فبينما تسميها بعض المصادر بشاه أفريد، فإن مصادر أخرى تسميها شاهفرند.
بحسب ما يذكر ابن كثير الدمشقي في كتابه "البداية والنهاية"، فإن شاه أفريد هي بنت فيروز بن يزدجرد الثالث، آخر أكاسرة الفرس قبل الاجتياح العربي لبلاد فارس، ويذكر ابن كثير قصة انتقالها إلى الوليد، فيقول "كَانَتْ قَدْ سَبَاهَا قتيبة بن مسلم، هي وأخت لَهَا فَبَعَثَهُمَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَأَرْسَلَ بِهَذِهِ إِلَى الوليد واستبقى عنده الأخرى...".
بحسب ما هو معروف، فإن شاه أفريد ولدت ابنين للوليد، وهما يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان وشقيقه إبراهيم، وقد قُدر لكل منهما أن يتولى الخلافة في وسط مجموعة من الظروف العصيبة.
يزيد، الذي عرف بيزيد الناقص لكونه قد أنقص الناس عطاءهم، عُرف بعدله وورعه وميله للمذهب المعتزلي، وكان مسؤولاً عن قتل الخليفة السابق عليه، الوليد بن يزيد بن عبد الملك، لما بدر من الأخير من سوء تصرف ومجون. في سنة 126هـ، تولى يزيد الخلافة، وكان أول أموي يتولى الخلافة من أم غير عربية، وقد نُقل عنه أنه كان يتفاخر بانتسابه لأمه الفارسية، إذ اعتاد أن ينشد قائلاً: "أنا ابن كسرى وأبي مروان... وقيصر جدي وجدي خاقان".
وهو البيت الذي فسره ابن الأثير الجزري في كتابه "الكامل في التاريخ" بقوله: "إنما جعل قيصر وخاقان جديه لأن أم فيروز بن يزدجرد ابنة كسرى شيرويه بن كسرى، وأمها ابنة قيصر، وأم شيرويه ابنة خاقان ملك الترك".
بعد ستة أشهر فحسب من خلافته، توفي يزيد، وكان قبلها قد عين أخيه إبراهيم ولياً لعهده، ولكن الأخير لم يحظ باجتماع الناس عليه وذلك لكثرة الفتن والاضطرابات في بلاد الشام في هذا الوقت، وقد أشار محمد بن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك" إلى تلك الحالة من الفوضى السياسية، فقال: "كان الناس في جمعة يسلمون على إبراهيم بن الوليد بالخلافة، وفى الأخرى بالإمارة، وفى الثالثة لا يسلمون عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة".
بعد شهرين فحسب من مبايعته كخليفة، دخل مروان بن محمد دمشق بجيشه، واضطر إبراهيم للتنازل له عن منصب الخلافة، وبقي مسجوناً في دمشق حتى اندلعت نيران الثورة العباسية بعدها بسنوات قلائل، ويقال إنه قد قُتل وقتها على يد العباسيين في مذبحة نهر أبي فطرس في فلسطين.
الخيزران: أم الخليفتين الهادي والرشيد
لم تشتهر أيٌّ من نساء خلفاء دولة بني العباس كما اشتهرت الخيزران بنت عطاء، زوجة الخليفة المهدي وأم ابنيه موسى الهادي وهارون الرشيد. كانت الخيزران جارية يمنية الأصل، تم استقدامها إلى بغداد حيث اشتراها الخليفة المهدي، وأحبّها بشغفٍ، حتى أنه أعتقها وتزوجها في خطوة نادرة الحدوث في البيت العباسي.
عُرفت الخيزران بدورها الجريء في مختلف أمور الدولة، وبأنها كانت دائماً، بفضل مكانتها عند زوجها الخليفة، تشارك في ممارسة السياسة وقرارات الحكم والسلطة. وبعد وفاة المهدي في 169هـ، ووصول ابنها موسى الهادي إلى كرسي الخلافة، كما يخبرنا الطبري، يبدو أن الخيزران استمرت في دورها في تسيير شؤون الحكم، وفرض الوصاية على ابنها الخليفة. يصفها الطبري في كتابه تاريخ الرسل والملوك، بأنها كانت تسيطر عليه، و"تسلك به مسلك أبيه من قبله في الاستبداد بالأمر والنهي".
كما صوّر المؤرخون علاقتها بابنها بالشائكة، حيث قيل بأنّ الهادي طلب منها أن تكفّ عن تدخلاتها، وأمرها بأن تقضي البقية الباقية من حياتها في الصلاة والطاعة. كما نُسِجت حول خبرتها في السياسة قصصٌ عن تعلقها بالسلطة، فقيل بأنها عملت على قتل ابنها والتخلص منه في فترة مرضه.
فيذكر الطبري، على سبيل المثال، أنّ سبب موت الهادي هو أنّ أمه قد "دست إليه من جواريها لما مرض من قتله بالغم والجلوس على وجهه". بعد إتمام البيعة لابنها الأصغر هارون الرشيد، تعززت مكانة الخيزران، واستمرّ دورها في السلطة والحكم، حتى توفيت بعد ابنها الهادي بعامين فقط في 172هـ.
خاتون السفرية: أم السلطانين محمد وسنجر
إذا كانت النماذج الثلاثة السابقة -ولادة بنت العباس، وشاه أفريد، والخيزران- قد حظيت بشهرتها التاريخية الواسعة بسبب أن كلاً منهن قد كانت أماً لخليفتين متعاقبين، فإن النموذج الرابع، السيدة خاتون السفرية، قد حازت شهرتها بسبب كونها أماً لاثنين من السلاطين السلاجقة.
السيدة خاتون السفرية، كانت واحدة من محظيات السلطان السلجوقي الشهير جلال الدولة ملكشاه المتوفى 485هـ، وهي أم ابنيه اللذين قُدر لهما أن يعتليا عرش السلطنة السلجوقية، وهما السلطان محمد والسلطان أحمد سنجر، على الترتيب.
رغم وصول ابنيها لكرسي السلطنة، إلا أن المصادر التاريخية لم تتحدث كثيراً عن أي دور سياسي لعبته خاتون السفرية في حياة زوجها، ومن المُرجح أنها لم تقلد تركان خاتون، الزوجة الرئيسية لملكشاه، تلك التي لطالما عُرفت بتدخلها المستمر في سياسة الدولة، وبمعاداتها الشديدة للوزير نظام الملك الطوسي.
على العكس من ذلك، تسهب المصادر في وصف تديّن السفرية وميلها لممارسة أعمال الصلاح والتقوى، وهو الأمر الذي أكد عليه ابن كثير بقوله واصفاً إياها: "كانت كثيرة الصدقة والإحسان إلى الناس، لها في كل سنة سبيل يخرج مع الحجاج، وفيها دين وخير...".
من بين القصص المشهورة عن السيدة خاتون السفرية، أنها وبعد أن وصلت لمكانتها المعظمة في البلاط السلجوقي، فإنها قد رغبت في لقاء أهلها الذين فارقتهم وهي صغيرة بعد أن خُطفت منهم، فبحثت عنهم بشتى الوسائل حتى عثرت عليهم، وحينها أرسلت في طلبهم، فلما قدموا إليها عرفت أمها فيهم.
فأجلستها بين الجواري، وجلست هي معهم دون أن تكشف عن حقيقة شخصيتها لها، فعرفتها أمها "فقامت إليها فاعتنقا وبكيا، ثم أسلمت أمها على يديها"، وذلك بحسب ما يذكر ابن كثير في كتابه.
من المُرجح أن السفرية قد تمتعت بالكثير من آيات التعظيم والإجلال في عهد ابنها الأكبر، السلطان محمد بن ملكشاه، الذي تولى السلطنة في الفترة ما بين 498هـ إلى 511هـ، وكذلك في عهد ابنها الأصغر، السلطان سنجر، الذي تولى الحكم بعد أخيه، وما يشهد على ذلك ما أورده ابن الأثير في كتابه في ذكر أحداث عام 515هـ، إذ يقول:
"في هذه السنة توفيت جدة السلطان محمود لأبيه، والدة السلطان سنجر، وكانت تركية تعرف بخاتون السفرية، وكان موتها بمرو، فجلس محمود ببغداد للعزاء بها، وكان عزاء لم يشاهد مثله الناس.