محمد سليمان
في الحادي عشر من ديسمبر الماضي، قام تنظيم "داعش" بتفجير كاتدرائية "القديس مرقس" في العباسية بمدينة القاهرة، حيث قُتل خمسة وعشرون مسيحيا مصريا، وطبقا لتحقيقات السلطات المصرية؛ فإن الانتحاري الذي كان وراء هذا الحادث هو مواطن مصري، يدعى إما "أبو عبد الله المصري"، أو "محمود شفيق". عاشت أيضا مدينة برلين الألمانية على وقع عملية دهس بشاحنة مسروقة داخل أحد أسواق الكريسماس؛ حيث قُتل اثنا عشر شخصاً. كما أرسل التنظيم رسائل تهديدية مباشرة للمسيحيين في سيناء، وقتل منهم ثمانية مما أدى إلى نزوح 250 أسرة مسيحية لمنطقة قناة السويس.
يمكن القول أن استهداف تنظيم الدولة للمسيحيين ليس بالأمر الجديد، لكنه زادت حدته بعد الهزائم المتلاحقة التي تكبدها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا وشبه جزيرة سيناء المصرية، إذ أن هذا التنظيم عرف في عام 2016، تقدما ميدانيا في العديد من الجبهات، لكنه انتهى باندحار كبير، متكبدا خسائر عديدة على ساحة المواجهات، خاصة في مناطق نفوذه.
تعرض تنظيم "داعش" في معقله الرئيسي بمدينة الموصل العراقية، لهجمات متواصلة من قبل قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والقوات العراقية النظامية وقوات الحشد الشعبي. ونتيجة لذلك، خَسِرَ عدداً كبيراً من قياداته. ومع تواصل هذه العمليات العسكرية بالموصل، بدأت الحكومة العراقية تتجه حالياً، إلى طلب دعم غربي أكبر؛ لحسم المعركة هناك.
وأما في سوريا، فالتنظيم ليس في أفضل حال من الأجواء العراقية، حيث تستهدفه عمليات عسكرية متوازية من القوي الدولية والإقليمية، والتي تشمل قوات عملية "درع الفرات" المكونة من الجيش التركي وميلشيات الجيش الحر المدعومة من قبل تركيا، والذين لا يتوانون عن الاستمرار في حملتهم العسكرية على مدينة "الباب"، آخر معقل حضري للتنظيم في شمال سوريا على الحدود التركية.
وعلى صعيد مشابه، تستمر خسارة "داعش" للمزيد من القرى السورية لصالح تنظيم قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل الولايات المتحدة، والمكونة من قوات حماية الشعب الكردية وقوات عربية-سنية. ويُذكر أن التنظيم قد فَقَدَ مناطق نفوذه في منتصف عام 2015 على امتداد الحدود التركية السورية، والتي كانت مصدرا رئيساً للإمدادات والمجندين. كما خسر "تنظيم الدولة" مدينة "سِرْتْ" الساحلية بليبيا منذ عام سبق، لصالح قوات حكومة الوفاق الوطنية، بعدما كان يمني النفس باتخاذ تلك المدينة الليبية مركزاً جديداَ له في ظل حالة الحصار التي أشرنا إليها سابقا، بالموصل العراقية والرقة السورية.
كل هذه الخسائر كانت بالموازاة مع تعرض الفرع المصري للتنظيم لهجمات عديدة من قبل الجيش المصري، والتي أسفرت عن مقتل العديد من قياداته هناك. إضافة إلى ذلك، يجدر الإشارة إلى أن العمليات الإرهابية التي يقوم بها التنظيم في مصر لا يمكن ردها بشكل كامل إلى تراجع التنظيم على الأرض في سوريا والعراق، لكنها جاءت كرد على الحملة واسعة النطاق التي يشنها النظام المصري ضد الجماعات الإسلامية بعد الإطاحة بحكم الإخوان في عام 2013. كما كان لدعم الكنيسة الأرثوذكسية لنظام عبد الفتاح السيسي سبباً رئيساً في استهدافهم من قبل تنظيم "داعش" والتنظيمات الأخرى المتطرفة.
إن هذه الانتكاسات المتتالية على ميادين المعارك؛ دفعت تنظيم "داعش" إلى شن هجوم على أماكن ذات رمزيات مسيحية، مثل: الكنيسة البطرسية في القاهرة، وسوق الكريسماس الملحق بكنيسة القيصر "فيلهلم" في برلين. كما أنها عززت هاجس الانتقام من دول التحالف الدولي، والرغبة الشديدة في استقطاب المزيد من المجندين، وذلك من خلال اختلاق وضع جديد، يجعل الإسلام في مواجهة المسيحية، خاصة وأنه تنظيم يقتات ويتغذى بشكل رئيسي على خطاب مظلومية الإسلام والمسلمين الضعفاء في مواجهة الغرب الأوروبي العدواني.
وعلى الرغم من كون ألمانيا البلد الأوروبي الأكبر الذي لا ينغمس في عمليات عسكرية خارج أراضيه - لا تمتلك ألمانيا ماض استعماري في العالم الإسلامي خلافا لفرنسا وبريطانيا- إلا أن ما يثير “داعش"، هو أن تُقدم دولة أوروبية مسيحية عظمى، كألمانيا، على منح حق اللجوء الإنساني لمسلمي سوريا والعراق الهاربين من الحرب الأهلية. وقد جاء توقيت العملية الإرهابية في برلين؛ بعد إطلاق تنظيم "داعش" نداء "استهداف ضد دول التحالف "الصليبي".
وعلى الصعيد الآخر بالغرب، هناك انتشار للخطاب اليميني الذي يبدو معادياً للإسلام، والذي يتزعمه حزب "البديل من أجل ألمانيا"، والحزب الهولندي "من أجل الحرية"، وكذا الرئيس الأمريكي الجديد "دونالد ترامب"، وهو الانتشار الذي يدعم الأطروحة الدعائية لتنظيم" داعش"، والتي ترتكز على كراهية الغرب بصفة مطلقة، للإسلام، والرفض المطلق لفكرة التعايش مع المسلمين. وبالتأكيد، فتصريحات "دونالد ترامب" أثناء حملته الانتخابية بأن "الإسلام الراديكالي يهدد أسلوب حياة الأمريكيين "، كانت محفزا فكريا قويا، مكن التنظيم من استقطاب المزيد من المسلمين المعتدلين كما هو الشأن في حادثة عمر متين-الذي هاجم أحد النوادي الليلية في "أورلاندو"، إضافة إلى حادثه "محمد لحويج بوهلال" منفذ هجوم "نيس".
إن مصلحة الغرب اليوم، تقتضي منه ألا يقوم بإعلان أية حرب على الإسلام، حتى لا يمنح لتنظيم "داعش" أية حجة أو أدنى شرعية؛ ليمتطي أطروحة الإسلام ضد المسيحية الغربية، وحتى لا يمنحه المبررات التي تخول له إمكانية استقطاب مزيد من المجندين والمؤيدين. فكلما فقد التنظيم قوته على الأرض في العراق وسوريا، كلما اشتدت هجماته ضد المسيحيين في مصر أوروبا، وليس من المتوقع أن تتباطئ وتيرة تلك العمليات على المدى القريب.
معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى