د. عماد بوظو:
في عام 1990 صدر كتاب "الفشل الكبير: ولادة وموت الشيوعية في القرن العشرين" لمستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغنيو بريجينسكي، استعرض فيه ولادة وانتشار الحركة الشيوعية وسيطرتها على الكثير من الدول، ثم كيف ولماذا تراجع نفوذها، وتوقّع بريجنسكي في كتابه هذا أن ينتهي ذلك إلى انهيار أغلب الأنظمة الشيوعية في العالم، وقال فيه إن الماركسية اللينينية عقيدة غريبة تم فرضها بالقوة على شعوب ترفضها كما يرفض جسم الإنسان عضوا تمت زراعته فيه، وذلك بشكل رئيسي لأنها فشلت في مراعاة رغبة الإنسان الأساسية في الحريّة.
وهذا تماما ما يتبادر إلى الذهن عند متابعة انتشار أفكار الإسلام السياسي وسيطرة أحزاب إسلامية على دول عدة في الشرق الأوسط ثم تنامي الرفض الشعبي لحكم هذه التنظيمات، والذي أدّى إلى إسقاط بعضها وإضعاف بعضها الآخر، ففي مطلع ثمانينيات القرن الماضي بدأت "الصحوة الإسلامية" التي نشرت شكلا متشددا للإسلام، مستعينة بفائض أموال النفط في دول الخليج وإيران، وحققت خلال العقود الأولى نجاحات لا يمكن إنكارها، وساعدها على ذلك وجود أنظمة ديكتاتورية في الكثير من الدول العربية أعطت الإسلاميين الفرصة لتوظيف الغضب الشعبي من هذه الأنظمة لمصلحتها.
ووصلت قوة التيار الإسلامي إلى أوجها مع بداية الربيع العربي عام 2011 لأنه كان الطرف الوحيد المنظم والمموّل جيدا في دول محرومة من الحياة السياسية يعيش الكثير من أبنائها تحت خط الفقر، واعتقد الإسلاميون بأنهم سيتمكنون من السيطرة على الدول العربية، خاصة عندما فاز المرشح الإخواني محمد مرسي برئاسة مصر، وعندما حصل حزب النهضة الإسلامي على أكثر من 40 في المائة من أصوات الناخبين في تونس، بالإضافة إلى أنه في ذلك الوقت كانت السودان تحت حكم عمر البشير الذي يقول أنه يطبق الشريعة الإسلامية.
واستند الإسلاميون في تلك المرحلة على دعم نظام ولاية الفقيه في إيران الذي اكتسب شعبية عند بعض العرب نتيجة شعاراته التي تتعلق بمعاداة أميركا وإسرائيل، والذي سمحت له أسعار النفط المرتفعة بمد نفوذه على دول عدة في الإقليم وفرض نمط حياة إسلامي على بعضها، كما استند بدرجة أكبر على دعم تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي وفي ذلك الوقت كان أردوغان يعيش أفضل أيامه نتيجة نمو اقتصادي استثنائي تحقّق خلال سنوات حكمه الأولى التي ترافقت مع علاقات إقليمية ودولية جيدة.
ولكن سرعان ما بدأ الهبوط، فبعد سنة واحدة من حكم الإخوان في مصر خرج الملايين في مظاهرات ضدهم انتهت بإسقاط حكمهم، كما انخفضت تدريجيا شعبية حزب النهضة في تونس فبعد حصوله عام 2011 على 42 في المائة من أصوات الناخبين و89 مقعد في البرلمان، خسر 20 مقعدا في انتخابات 2014، وفي آخر انتخابات نال أقل من 25 في المائة من الأصوات، أما في السودان فقد قامت ثورة في نهاية عام 2018 انتهت بإسقاط الحكم الإسلامي لعمر البشير.
ونتيجة انهيار الدولة في العراق وسوريا سيطرت تنظيمات إسلامية متطرفة مثل القاعدة وداعش على مساحات واسعة في البلدين وظهرت دويلات خلافة طبّقت رؤيتها للشريعة الإسلامية، بحيث تكررت "احتفالات" قطع الرؤوس والأيدي والرجم في الساحات العامة، كما نفذت هذه التنظيمات عمليات إرهابية في مختلف القارات، لتؤكد أن علاقة المسلمين مع بقية شعوب العالم هي الحرب حتى يدخل أتباع الديانات الأخرى وهم جميعا "كفّار" في الدين الحق وهو الإسلام، ورغم كل محاولات الإسلاميين للتبرّؤ من هذه التنظيمات لكنها قدمت مثالا حيا عن التطبيق الحرفي للشريعة كما هي مذكورة في الكثير من كتب التراث الإسلامي.
ثم سرعان ما تراكمت الأزمات في إيران من انهيار العملة ووصول نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى أكثر من 50 في المائة من السكا وانقطاع الخدمات الرئيسية، فانتشرت الاحتجاجات في كافة أنحاء إيران وكذلك في العراق ولبنان لنفس الأسباب، والانطباع السائد اليوم أن استمرار سيطرة النظام الإيراني على بلده يعتمد على تماسك وقوة الحرس الثوري والخوف الذي يزرعه في الشعب من خلال إعدام المعارضين، أما سيطرته على العراق ولبنان فتعتمد على عمليات اغتيال منظمة تنفذها ميليشيات مرتبطة به تستهدف المعترضين على الهيمنة الإيرانية.
وفي تركيا انخفضت شعبية أردوغان حتى أن فوزه في الانتخابات المقبلة أصبح موضع شك، فقد أشارت آخر استطلاعات الرأي إلى أن منافسيه سيتفوقون عليه رغم كل ما قام به من اعتقالات شملت عشرات آلاف المعارضين له ورغم القرارات الشعبوية التي كان يتخذها عندما يشعر بانخفاض شعبيته مثل تحويل كنائس إلى مساجد أو القيام باستفزازات في قبرص وشرق المتوسط، ويعود تراجع شعبية أردوغان إلى انخفاض قيمة الليرة وتراجع الاقتصاد التركي وعلاقاته المتوترة مع أغلب دول العالم.
وقبل أيام قامت احتجاجات شعبية في تونس أدت إلى اتخاذ الرئيس قيس سعيد مجموعة من الإجراءات منها تجميد عمل البرلمان ونزع الحصانة عن بعض النواب فيما أعتبر تجاوبا مع الرغبة الشعبية في التخلص من النفوذ الواسع لحزب النهضة.
ولم يقتصر تراجع دور الإسلامين على المستوى السياسي بل شمل كذلك مؤسسات الإسلام الاجتماعي، ففي دول الخليج والسعودية تحديدا تم وضع حد لسيطرة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجتمع وصدرت قوانين عديدة باتجاه عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عقد الثمانينيات من القرن الماضي.
وشكّل هذا ضغطا إضافيا على مؤسسة الأزهر التي ما زالت متمسكة بالخطاب التقليدي المتشدد رغم رغبة المصريين الواضحة في الاستمتاع بالحياة التي ظهرت في موكب المومياوات وفي تجمع أعداد غفيرة منهم على شواطئ الإسكندرية وفي حضورهم الكثيف للمهرجانات الفنية، وترافق ذلك مع حملة في أوروبا وخاصة فرنسا ضد خطاب الانعزال عن العالم الذي يروّج له هؤلاء الإسلاميون مثل التمسك بمظاهر وملابس وممارسات جعلت المسلمين يبدون مختلفين عن بقية شعوب الأرض، وستزداد هذه الضغوط خلال الفترة المقبلة حتى تحقيق هدفها في دمج المسلمين حضاريا وثقافيا مع المجتمعات التي لجأوا إليها، ومنع سيطرة المتشددين على المراكز الدينية في أوروبا.
واحتار الإسلاميون في تبرير سلسلة الهزائم المتتالية التي تكبّدوها أمام أتباعهم فلم يجدوا أمامهم سوى اللجوء إلى نظرية المؤامرة حتى أنهم أباحوا لنفسهم الكذب، مثل القول أن تشكيلة واسعة من المخابرات الخليجية والفرنسية والأميركية، وطبعا الإسرائيلية وضباط مصريين شاركوا في أحداث تونس الأخيرة، وكل ذلك لأن الإسلاميين لا يريدون مواجهة الحقيقة بأن عودة عقارب الساعة إلى الوراء والعيش في الماضي غير ممكن، وبأن القوانين الظالمة في حق المرأة لم يعد من الممكن القبول بها في عالم اليوم ولذلك تشاهد أعداد كبيرة من النساء في جميع الاحتجاجات ضد الإسلاميين.
وهناك ناحية أخرى لم يدركها الإسلاميون بعد هي أنه في الوقت الذي مازال لديهم الكثير من الأتباع، هناك أعداد أكبر بكثير من المسلمين الذين يرفضون برامجهم السياسية والاجتماعية جملة وتفصيلا، ومستعدون للقيام بكل ما هو ممكن لمنعهم من التحكم بالدول والمجتمعات العربية لأنهم يعرفون أنه لا علاقة للإسلام السياسي بالديمقراطية التي تعني حكم الشعب لأن معتقداتهم تقول أن الحاكمية لله، وكذلك لأنهم بعيدون كل البعد عن مفاهيم حقوق الإنسان مثل حقّ الإنسان في الحرية واعتناق ما يريد من أفكار، كما أن لدى الإسلاميين حساسية مرضيّة تجاه حرية المرأة، رغم محاولتهم الاستفادة من مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عندما تخدم أهدافهم فقط.
وفي النهاية لم يتبق اليوم من مناطق تحت حكم الإسلام السياسي سوى قطاع غزة، الذي تتحكم فيه حركة حماس، ونظيرتها طالبان التي في طريقها لحكم أفغانستان، كما لم يبق أمام حكم الخليفة أردوغان والمرشد خامنئي سوى فترة محدودة وعند سقوطهما المؤكد، عاجلا أو آجلا، سيتم الإعلان رسميا عن موت الإسلام السياسي لأنه "عقيدة تم فرضها بالقوة على شعوب ترفضها لأنها فشلت في مراعاة رغبة الإنسان الأساسية في الحرية".