الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط - مقالات
أحدث المقالات

الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط

الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط

الأخ رشيد ـ حاصل على ماجستير في العلوم السياسية

 

تعريف أولي لا بد منه: الاستراتيجية الكبرى  Grand Strategyهي خطة طويلة الأمد تعتمدها الدول الكبرى لترسم من خلالها علاقاتها الدولية بناء على الأهداف والآليات والموارد المتطلبة لتنفيذ تلك الاستراتيجية.

مقدمة

كان الشرق الأوسط المعترك الرئيسي للقوى العظمى منذ ظهور الحضارات القديمة. ومع ذلك، فإن معظم دول الشرق الأوسط الأخيرة حديثة العهد. فقد ظهر بعضها للوجود في القرن الماضي ولم يحصل بعضها الآخر على استقلاله إلا في النصف الثاني من القرن العشرين.

لم يكن للولايات المتحدة علاقة كبيرة بالشرق الأوسط إلا ابتداء من الحرب العالمية الثانية، حيث هُزمت الإمبراطورية العثمانية وبدأت الأمور تتغير.

كان الاعتماد على النفط أحد الأشياء الرئيسية التي جعلت الشرق الأوسط منطقة استراتيجية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. ومع تأسيس دولة إسرائيل في الشرق الأوسط سنة 1948 صارت الأمور أكثر تعقيدًا. فقد وجدت الولايات المتحدة في إسرائيل حليفًا طبيعيًا لها، وأصبحت العلاقة بينهما عنصرًا أساسيا في الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في المنطقة.

منذ بدء اهتمام الولايات المتحدة بشؤون الشرق الأوسط، مرت المنطقة بالكثير من الاضطرابات، إذ حصلت العديد من الحروب والانقلابات والثورات والحروب الأهلية ونزح الملايين من اللاجئين وظهر الإرهاب الديني والتطهير العرقي وتأججت الصراعات الإقليمية بشكل متسارع ومعقد. كان على كل إدارة أمريكية أن تجد طريقها للتعامل مع الشرق الأوسط بكل مشاكله لتعزيز المصالح الأمريكية وضمان تدفق إمدادات الطاقة والحفاظ على التوازنات الإقليمية هناك. في هذه الورقة سنحلل الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وغاياتها، وطرقها، ووسائل تنفيذها في أوقات مختلفة بحسب تعاقب الإدارات التي كانت على رأس هرمها.

كيف تطورت استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟

قبل نيكسون:

يعود اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث صرح الدكتور ستيف ييتيف أستاذ العلوم السياسية أن "الخليج الفارسي ازداد أهمية في المناورات بين القوى العظمى خلال الحربين العالميتين في القرن العشرين. ولكن بعد اكتشاف النفط وتطويره على نطاق واسع، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، اكتسب الخليج أهمية اقتصادية عالمية".

إن استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى في الشرق الأوسط تُرسم من خلال غاياتها، لقد تم تحديد الأهداف الرئيسية لهذه الاستراتيجية في حماية المصالح الأمريكية وتأمين الوصول إلى النفط في المنطقة مع منع السوفييت من التأثير في مجرى الأحداث هناك. وهنا يقول الدبلوماسي الأمريكي تشارلز فريدمان: "منذ الحرب العالمية الثانية، كانت أهدافنا التقليدية هي منع الخصوم من السيطرة على المنطقة، والحفاظ على الوصول إلى النفط والممرات المائية في المنطقة، والدفاع عن إسرائيل والدول الصديقة الأخرى ودعمها".

وهنا نلاحظ أن المساعدة العسكرية الأمريكية للمملكة العربية السعودية بدأت مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، فعلى سبيل المثال، وافق الرئيس ترومان على تأسيس القاعدة الجوية في الظهران، المملكة العربية السعودية، في 28 سبتمبر 1945، وبالتالي إطلاق العلاقة الاستراتيجية الأمريكية السعودية بشكل جدي وطويل الأمد.

في بداية هذه العلاقة المتشابكة مع دول الشرق الأوسط، لم تكن الولايات المتحدة تخطط للمشاركة بشكل مباشر باستخدام جيشها. كانت الخطة هي الاعتماد على أقوى الدول الموجودة في الشرق الأوسط واستخدامها بالوكالة للحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة بأسرها. في المقابل، تقوم الولايات المتحدة بحماية هؤلاء الوكلاء من أي تهديدات داخلية أو خارجية كانت.

لكن على الرغم من أن الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة كانت تدور حول تأمين النفط، إلا أن لها أيضًا هدفًا آخر، وهو منع الاتحاد السوفيتي آنذاك من أن يكون له أي موطئ قدم في الشرق الأوسط. وهذا ما يؤكده ستيف يتيف حين يقول بأن "الولايات المتحدة بدأت في جرد النفط السعودي ليس فقط كمورد اقتصادي، ولكن أيضًا لأنه يمكن أن يستخدم كسلاح قوة من قبل موسكو". وهذا يفسر تعقيد الأحداث التي تكشفت في العقود التالية.

في بداية التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، كانت هناك قوتان رئيسيتان في المنطقة، المملكة العربية السعودية وإيران. ولذلك اعتمدت الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في بدايتها على هاتين الركيزتين. إذ قبيل الانسحاب الكامل للقوات البريطانية من المنطقة، ساعدت وكالة المخابرات المركزية على إعادة شاه إيران إلى السلطة بعد انقلاب نفذه رئيس وزرائه محمد مصدق. وبعد انسحاب البريطانيين من الشرق الأوسط، بدأت الولايات المتحدة تلعب دورًا أكبر. وهكذا، و"بحلول عام 1971، تحملت واشنطن مسؤولية الدفاع عن المصالح الإستراتيجية الغربية في الخليج الفارسي، لتلعب بريطانيا دورًا ثانويًا فقط."

بعد نيكسون:

اعتمد الرئيس الأمريكي نيكسون على سياسة الركيزتين، وهما المملكة العربية السعودية وإيران. وذلك من عام 1972 إلى عام 1979. والملاحظ أن هذه السياسة تم تبنيها عندما اقتربت حرب فيتنام من نهايتها. لم يكن الأمريكيون حينها (بما في ذلك القيادة) مستعدين لدخول أي حروب جديدة. كانت سياسة الركيزتين هي الطريقة الملائمة التي يمكن للولايات المتحدة استخدامها لحماية مصالحها في مقابل حماية الملكيتين من السقوط (عائلة آل سعود وعائلة شاه إيران).

بالمقابل اختار السوفييت دعم العراق ليجعلوه قوة مكافئة في المنطقة ومحاولة خلق موطئ قدم لهم ضد الأمريكان، فردت الولايات المتحدة على ذلك من خلال منح إيران إمكانية الوصول إلى أسلحتها. وهنا يقول ستيف يتيف إن "مبيعات الأسلحة لإيران شكلت ثلث مبيعات الولايات المتحدة إلى العالم بين عامي 1973 و1978". كانت إيران حليفا لا يُستغنى عنه للحفاظ على مصالح الولايات المتحدة. وكذلك السعودية التي قامت هي الأخرى بدور محوري في قيادة باقي دول الخليج واستمالتها للجانب الأمريكي. ظلت الإستراتيجية الأمريكية الكبرى في الشرق الأوسط تعمل على جبهتين: الجبهة الأولى تتمثل في ترسيخ نفوذ الولايات المتحدة وتأمين النفط والجبهة الثانية هي منع العراق (والسوفييت) من الاستقواء أو السيطرة على المنطقة بأكملها.

خلال هذه الفترة كانت هناك اضطرابات أخرى خطيرة تتمحور أحداثها حول الصراع العربي الإسرائيلي الذي أدى إلى سلسلة من الحروب المدمرة بين الجانبين، هذه الحروب المستمرة دفعت الولايات المتحدة إلى مساعدة إسرائيل بالسلاح، ولم تكن الدول العربية بما في ذلك المملكة العربية السعودية سعيدة بهذا التدخل، ولذلك قامت السعودية عام 1973 بفرض حظر على الولايات المتحدة ودول أخرى أيدت إسرائيل.

كان تصرف السعودية خطأ استراتيجيا كبيرا وكان بمثابة مؤشر خطير للولايات المتحدة حيث نبهها إلى أنها لا يمكنها الاعتماد على وكلاء طوال الوقت نظرًا لما يحمله ذلك من مخاطر جسيمة مثل الحظر الذي فوجئت به من حليف ووكيل أساسي. وهذا ما يؤكده الدكتور ستيف ييتيف أستاذ العلوم السياسية حيث قال: إن "الحظر النفطي العربي عام 1973 كان الصدمة الأولى. ثم جاءت الثورة الإيرانية عام 1979، وتلتها حرب الخليج الفارسي عام 1991".

بعد الثورة الإيرانية:

ثم جاء عام 1979، العام الذي تشتت فيه جميع الأوراق. أو بحسب تعبير المؤرخ الدكتور ديفيد ليش"العام الذي شكل الشرق الأوسط الحديث". إنه العام الذي حدثت فيه الثورة الإسلامية في إيران ولا شك أنها أخذت الولايات المتحدة على حين غرة. لقد اعتبرت الثورة الخمينية هزيمة كبرى للسياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كان النظام الإسلامي الجديد معاديًا تماما للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط.

في تلك السنة فقدت الولايات المتحدة إحدى الركائز الأساسية لاستراتيجيتها الكبرى في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك بثت الثورة الإسلامية الإيرانية الرعب في دول أخرى مجاورة، حيث رأت الأنظمة الملكية بأم عينيها أن الولايات المتحدة لم تستطع حماية شاه إيران، فبدأت سمعة الولايات المتحدة في التدهور. وهنا صار العراق أكثر جرأة في حين كانت الولايات المتحدة تحاول إيجاد سياسات بديلة للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته الثورة الإيرانية.

بدأت الولايات المتحدة تبحث إمكانية التدخل العسكري في المنطقة خاصة بعد أزمة الرهائن في إيران. لم يكن المرشد الأعلى الإيراني يشكل تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة فحسب، بل كان أيضًا يشكل تهديدًا لحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. ثم نشبت الحرب العراقية الإيرانية في العام التالي. كانت تلك الحرب هدية للولايات المتحدة لأنها أبقت الدولتين مشغولتين في قتال بعضهما البعض بدلاً من زعزعة الاستقرار وتهديد المنطقة بأسرها.

استمرت الحرب ثماني سنوات، كانت مدمرة لكل من إيران والعراق. خلال تلك الحرب ساعدت الولايات المتحدة العراق (رغم أنه كان سابقا في الحضن السوفييتي) خوفًا من انتصار إيراني محتمل، صرح د. ستيف ييتيف أنه "في عام 1982، بدأت واشنطن تميل ببطء نحو العراق من أجل تحقيق التوازن ضد إيران".

بدأ نفوذ إيران يتسع في الشرق الأوسط، في لبنان (عبر حزب الله) وسوريا وشرق السعودية بسبب الوجود الشيعي. كان من مصلحة جميع دول الخليج دعم العراق ضد إيران في تلك الحرب.

خرج العراق منتصرا من الحرب رغم أنه دفع ثمنا باهظا من ناحية الخسائر الكبيرة في الموارد البشرية والموارد المالية كنتيجة مباشرة للحرب. لذلك غضب صدام حين لم يجد الدعم المتوقع التالي للحرب من دول الجوار واغتر بانتصاره على إيران فارتكب خطيئته القاتلة حين قام بغزو الكويت. كانت هذه نقطة التحول الكبرى في استراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، فقد اضطرت للتدخل عسكريًا ونقل قواتها إلى المنطقة وقيادة تحالف يضم دولًا عربية ضد دولة عربية إسلامية وهي العراق. غيرت أمريكا موقفها السابق. على الرغم من أن الإستراتيجية الكبرى بقيت كما هي في غاياتها، إلا أن الوسائل وطرق التنفيذ تغيرت بشكل كبير جدا.

في ذلك الوقت سقط جدار برلين، وصار هناك نظام عالمي جديد يلوح في الأفق، وأصبحت الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهيمنة عالميا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، كان الوقت مناسبا لقيادة تحالف ضد العراق وإنهاء توسعه الطموح.

من عام 1990 إلى عام 2001، حاولت الولايات المتحدة الحفاظ على استقرار الشرق الأوسط قدر الإمكان، كان الوضع يبدو أنه استقر لصالح المصالح الأمريكية. فباستثناء عاصفة الصحراء ضد العراق، لم تكن هناك حروب كبيرة في الشرق الأوسط في السنوات التي تلت غزو العراق للكويت. حاولت الولايات المتحدة وقتها اتباع استراتيجية الاحتواء تجاه كل من الدول المتمردة في المنطقة وأقصد "إيران والعراق". وهنا يرى الدبلوماسي الأمريكي تشارلز فريمان أن الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة كانت دائمًا استراتيجية احتواء، حيث قال: "لقد فعلنا ذلك من خلال استراتيجية احتواء كبرى: من خلال الاتفاقيات متعددة الأطراف، والشراكات الاستراتيجية، ومبيعات الأسلحة، والمساعدات الخارجية، والدبلوماسية العربية الإسرائيلية، وقوات الانتشار السريع، وفي نهاية المطاف التدخل لتحرير الكويت ". هذه الاستراتيجية وصفها ستيف ييتيف باستراتيجية "الاحتواء المزدوج"، حين قال عنها "كما يوحي اسمها الطموح، يهدف الاحتواء المزدوج إلى احتواء إيران والعراق في وقت واحد، كما لو أن احتواء كل واحد على حدة لم يكن مشكلة كافية في حد ذاتها". الاحتواء المزدوج بالنسبة لييتيف، كان محور استراتيجية إدارة كلينتون، هذا الاحتواء كان يشمل إمكانية تغيير النظام إن تطلب الأمر ذلك، وبالتالي فهو ليس مثل سياسة "توازن القوى" التي كانت السمة الأساسية لاستراتيجية الولايات المتحدة الكبرى قبل غزو العراق للكويت.

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر:

كان عام 2001 بمثابة المنعطف الآخر الذي غير مسار استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. أصبح موضوع "الحرب على الإرهاب" هو المحرك الرئيسي لسياسة إدارة بوش. تصرفت الولايات المتحدة كقوة مهيمنة عالميا، إذ اعتبرت أن من حقها أن تطيح بأي حكومة تشكل تهديدًا لأمن الولايات المتحدة القومي ومصالحها في العالم. كان غزو أفغانستان ثم العراق مشروعا طموحاً فوق الحدود. إذ كان الهدف في كلا البلدين (خاصة في العراق) هو تغيير نظام البلد بأكمله إلى ديمقراطية موالية للولايات المتحدة على المدى الطويل ومن خلاله يتم خلق تأثير الدومينو على المنطقة بأكملها لتسريع وثيرة دمقرطة الشرق الأوسط كله وإنهاء أنماط الحكم السائدة فيه. لكن كما يعلم الجميع لم تكن النتيجة في كلا البلدين نهاية سعيدة للولايات المتحدة.

حاولت إدارة أوباما أن تنهج استراتيجية مختلفة، جادل البعض بأن أوباما لم تكن لديه استراتيجية كبرى واضحة، ولكن "العنصر الأوضح في سياسة أوباما الخارجية كان الرغبة في إنهاء الحروب في العراق وأفغانستان وتجنب أي تدخل عسكري جديد وكبير في المنطقة". لكني أود أن أقول إن استراتيجية أوباما الكبرى بدت وكأنها تشبه إلى حد ما السياسة المعروفة عالميا بسياسة "التوازن الخارجي"، لأنه أراد أن يقود من الخلف، وأراد الحفاظ على مكانة أمريكا كقوة عالمية، ولكن بطريقة مختلفة. كان هدف أوباما هو "الحفاظ على القيادة الأمريكية والهيمنة الدولية، ولكن بأقل تكلفة ممكنة".

أما إدارة ترامب فقد اختارت استراتيجية مختلفة. قال عنها البيت الأبيض حينها: "إنها استراتيجية قائمة على الواقعية، استراتيجية تسترشد بالنتائج وليس بالأيديولوجية". بكل بساطة أراد ترامب أن تدفع دول الشرق الأوسط ثمن حمايتها لا أن تأخذ الحماية مجانا على حساب الاقتصاد الأمريكي، ولذلك كانت رحلته الأولى إلى المملكة العربية السعودية، حيث أرسل رسالة واضحة مفادها أن استراتيجيته في الشرق الأوسط ستعتمد كثيرًا على المملكة كمحور أساسي ومعها باقي دول الخليج. وبالفعل هذا ما جعله ينجح في التوصل إلى اتفاق السلام بين بعض تلك الدول من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.

موقع إسرائيل من الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة

التأسيس والحروب:

منذ تأسيسها في عام 1948، خاضت إسرائيل عدة حروب ضد الدول العربية المحيطة بها، ولهذا السبب كانت تسعى منذ البداية إلى أن تكون وكيلا للولايات المتحدة في المنطقة. قال يعقوب (بار سمعان توف) أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة العبرية في أورشليم: "من عام 1948 إلى عام 1960، فشلت العلاقة الأمريكية الإسرائيلية في أن تصبح علاقة خاصة". كانت بدايات هذه العلاقة الطويلة صعبة ومعقدة، ويقول نفس الكاتب في مكان آخر إن "الولايات المتحدة رفضت باستمرار تزويد إسرائيل بالأسلحة واعترضت في بعض الأحيان على توريد الأسلحة من قبل دول أخرى، حتى أثناء الحرب الإسرائيلية الأكثر صعوبة. وهي حرب الاستقلال ". وكلام يعقوب صحيح، إذ كانت هناك أوقات فرضت فيها الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات اقتصادية على إسرائيل وهددت بطردها من الأمم المتحدة. لكن رغم ذلك تدين إسرائيل للولايات المتحدة بالكثير، فقد ساعدتها الولايات المتحدة مالياً منذ الأيام الأولى لتأسيسها.

كانت خطة الولايات المتحدة تعتمد على الحفاظ على علاقاتها القوية مع بعض الدول العربية، لكن إسرائيل كانت تشكل تهديدًا كبيرا لتلك العلاقات. كانت الولايات المتحدة في موقف صعب للغاية، يمكن القول بين نارين، وخير مثال على ذلك حين اعترضت على هجمات إسرائيل على مصر، وهنا يقول يعقوب بار سمعان توف: إن "تباين المصالح الأمنية الأمريكية والإسرائيلية بلغ ذروته خلال حملة السويس في عام 1956 وأوائل عام 1957، عندما أجبرت الولايات المتحدة إسرائيل على الإنسحاب من سيناء".

كانت إسرائيل في بدايتها عبئًا على الولايات المتحدة في المنطقة، فلكي تنجح استراتيجية الاحتواء الأمريكية، كان على الولايات المتحدة إبقاء إسرائيل تحت السيطرة. ولذلك لم تسمح ببيع أي أسلحة لإسرائيل إلا في أواخر الخمسينيات وللاستخدام الدفاعي المحدود فقط. ولكن تغيرت الأمور كثيرا مع وصول الرئيس كينيدي للسلطة، فقد "خلق عوامل جعلت العلاقة بين البلدين علاقة الراعي والوكيل. لقد كان أول رئيس يعرّف العلاقات الأمريكية الإسرائيلية على أنها علاقة خاصة، ويأخذ مشاكل إسرائيل الأمنية على محمل الجد، ويزود إسرائيل بأسلحة دفاعية كبيرة".

أمريكا بين مصر وإسرائيل:

تحولت مصر في عهد جمال عبد الناصر القومي إلى دولة معادية للولايات المتحدة وحلفائها وبدأت في شراء الأسلحة من السوفييت، حينها اضطرت الولايات المتحدة إلى موازنة ذلك الاختلال في موازين القوى بمساعدة إسرائيل وكانت تلك بداية علاقة قوية ومتينة بين البلدين. وهنا يقول بار سمعان توف إن "علاقة الراعي والوكيل بين الولايات المتحدة وإسرائيل اكتملت في عهد الرئيس جونسون ما بين 1964-1967".

خلال حرب الأيام الستة، بقيت الولايات المتحدة محايدة عسكريًا، لكن هجوم إسرائيل حدث بناءً على الضوء الأخضر من راعيها. كان من الواضح أن "حرب عام 1967 كانت المرة الأولى في العلاقة التي تقاربت فيها المصالح السياسية والأمنية للولايات المتحدة وإسرائيل بشكل كبير". أصبحت العلاقة أقوى خلال إدارة نيكسون، أراد نيكسون أن تكون إسرائيل قوية لسببين؛ أولاً كقوة موازنة ضد الدول العربية الأخرى التي ساعدها السوفييت، وثانيًا لمنع السوفييت من السيطرة على المنطقة. وهنا يقول بار سمعان توف إن "نيكسون كان يؤمن بأن التفوق العسكري الإسرائيلي سيعزز المصالح الإقليمية للولايات المتحدة". ولذلك ساعدت الولايات المتحدة إسرائيل من خلال توفير الأسلحة، وبالمقابل قامت إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة في تحقيق مصالحها في المنطقة.

أحد الأمثلة الواضحة على ذلك هو تدخل إسرائيل في ما يسمى بـ "أيلول الأسود"، حيث ساعد هذا التدخل في حماية الملكية الأردنية من الفلسطينيين الذين حاولوا الإطاحة بالنظام آنذاك. وخلال حرب يوم الغفران، ساعدت الولايات المتحدة إسرائيل بالأسلحة لمواجهة مساعدة السوفييت لمصر. لكن الولايات المتحدة منعت إسرائيل من تدمير الجيش المصري بأكمله وتسجيل انتصار ساحق كما تذكر الكثير من الوثائق. والسبب أنه كانت لدى الولايات المتحدة نية لاستعادة مصر لمعسكرها وجعلها تترك معسكر السوفييت مع الحفاظ على قوتها ومكانتها وجيشها. بعد تلك الحرب، اعتمد العرب أكثر على الولايات المتحدة كوسيط للسلام مع إسرائيل.

في عهد كارتر وكلينتون:

أثناء إدارة كارتر، تم توقيع معاهدة سلام بين إسرائيل ومصر في عام 1979، وزادت الولايات المتحدة من مساعداتها المالية والعسكرية لإسرائيل، كما أنها بدأت في مساعدة المصريين أيضًا. عندما وصل ريغن إلى السلطة، فإن إدارته "مثل سابقاتها، أسست سياستها تجاه إسرائيل على المصالح الأمريكية العالمية والإقليمية". كانت هناك بعض التوترات خلال رئاسة ريغن، لكن تم حلها (خاصة هجوم إسرائيل على المنشأة النووية العراقية عام 1981، والحرب على لبنان عام 1982).

عندما قادت الولايات المتحدة حرب الخليج الأولى ضد العراق، طلبت من إسرائيل ضبط نفسها مهما حصل. وفعلا امتثل الإسرائيليون لتلك الأوامر رغم استفزازات النظام العراقي بصواريخه التي كان يهدف منها جر إسرائيل للصراع لتهييج الشارع العربي والإسلامي.

كانت هناك بعض الخلافات الأساسية بين إسرائيل والولايات المتحدة، لكنهم تمكنوا من الحفاظ على العلاقة خلال تلك الأوقات الصعبة. وعندما وصل كلينتون إلى السلطة، تغيرت الأمور تماما، خلال إدارة كلينتون أصبحت العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة في أقوى مراحلها. صاغت إدارة كلينتون "سياستها تجاه الشرق الأوسط في ضوء انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة، وهزيمة العراق، ومحادثات السلام العربية الإسرائيلية في مدريد وواشنطن".

أثمرت تلك العلاقة القوية بين الدولتين اتفاقيات أوسلو في عام 1993، ومعاهدة السلام بين إسرائيل والأردن في عام 1994، وقمة كامب ديفيد في عام 2000. ويمكن القول إنه أثناء رئاسة كلينتون وما بعدها، أصبحت الشراكة السياسية والاستراتيجية حجر الزاوية في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية. وبعبارة أخرى، فإن قيام إسرائيل بالخضوع لتعليمات الإدارة الأمريكية والدخول في مفاوضات السلام تمت مكافأتها بشراكة إستراتيجية مع الولايات المتحدة. كانت إسرائيل أكثر إدراكا من الدول العربية للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة وأهدافها، ولذلك استطاعت الاستفادة منها واستمالة أمريكا بعد عقود من المد والجزر.

في عهد بوش وأوباما وترامب:

خلال إدارة بوش كانت هناك محاولات عديدة من قبل فريقه لدفع محادثات السلام الإسرائيلية العربية ولكن دون نجاح، وعلى سبيل المثال، بعد 11 سبتمبر، عندما كانت الولايات المتحدة تحاول تشكيل تحالف عالمي، يضم دولا عربية وإسلامية لمواجهة القاعدة والإرهاب العالمي، تم الضغط على إسرائيل لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين على الرغم من أن الهجمات الفلسطينية على الإسرائيليين لم تتوقف قط". لكن رغم ذلك لم تؤد جهود بوش إلى أي اتفاق رئيسي.

عندما تولى أوباما منصبه، اتخذت العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة منحى آخر، كانت علاقة باردة إلى أقصى الحدود. أوباما ونتنياهو كانا على خلاف دائم، لم يستمع أوباما لإسرائيل وعقد صفقة مع إيران بخصوص نشاطها النووي، وبالمقابل لم يستطع أن ينجز أي شيء ذي مغزى فيما يتعلق بالسلام بين العرب وإسرائيل.

كان ترامب أحد أفضل أصدقاء إسرائيل، وكان صهره جاريد كوشنر شخصًا رئيسيًا في هذه العلاقة. نقل ترامب السفارة الأمريكية إلى القدس وتمكن في وقت قصير من الضغط لكي يحصل التطبيع بين مجموعة من الدول العربية (الإمارات والبحرين والسودان والمغرب) من جانب وإسرائيل من الجانب الآخر. كانت الصفقة مذهلة رغم أن الطريق ما زال طويلاً لجعل هذا التطبيع حقيقة على الأرض وواقعا معاشا نلمس نتائجه بين تلك الشعوب.

خلال كل هذه الإدارات المتغيرة، تطورت العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة من علاقة ضعيفة إلى علاقة استراتيجية. تعد إسرائيل الآن واحدة من أقوى حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. لا أحد يستطيع الاستغناء عن الولايات المتحدة للتوسط في مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل. والحل الأمثل لهذا الصراع الطويل الأمد هو حل الدولتين الذي لم يحدث بعد.

خلال هذه الفترات استثمرت الولايات المتحدة الكثير من الموارد في المساعدات لمنح إسرائيل حوافز للسلام ولحمايتها من جيرانها المعادين لها. يُعتقد أنه "من عام 1979 إلى 31 ديسمبر 2012، زود دافعو الضرائب الأمريكيون إسرائيل بـ 100 دولار كل ثانية، و 6000 دولار كل دقيقة، وأكثر من 300000 دولار كل ساعة و 8.2 مليون دولار يوميًا".

لا يزال يتعين على الإدارات المقبلة إدارة هذا الصراع، لكن كل الأمور توحي بأن الوضع الأمني يتحسن بالنسبة لإسرائيل وهي على المسار الصحيح ما لم تحدث تغييرات كبيرة في المستقبل.

خاتمة

تغيرت استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى في الشرق الأوسط على مر السنين، وبدأت كإستراتيجية احتواء تستند إلى توازن القوى بين دول الشرق الأوسط والحفاظ على موقع متقدم للولايات المتحدة على السوفييت. عندما انهار الاتحاد السوفيتي، بدأت الولايات المتحدة في العمل كقوة مهيمنة في المنطقة. يُظهر الوجود العسكري الأمريكي والتدخلات في العراق وأفغانستان أن هذه الاستراتيجية كانت تستند إلى المشاركة المباشرة بدلاً من استخدام الوكلاء. حاول بعض الرؤساء سحب القوات الأمريكية والحفاظ على الحد الأدنى من الوجود الضروري مع الحفاظ على التفوق طوال الوقت (مثل أوباما). ومع ذلك، من الصعب رؤية شرق أوسط مستقر دون وجود مكثف للقوات الأمريكية في المنطقة لحماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

كان الصراع بين العرب وإسرائيل عنصرًا رئيسيًا في الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة، والآن أصبحت إسرائيل حليفًا قويًا، وهي جزء من استراتيجية الولايات المتحدة الكبرى لضمان تفوق إسرائيل في السلطة على جيرانها، وحمايتها من أي تهديدات محتملة. لذلك لن تتم معاهدات السلام بين العرب وإسرائيل إلا من خلال وساطة أمريكية.

سيظل الإرهاب الإسلامي يشكل تهديدًا لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وربما حتى في الداخل كما كان الحال مع هجمات 11 سبتمبر. ومع ذلك تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها لهزيمة الإرهابيين وأجنداتهم، وفي نفس الوقت استعادة النظام والأمن في الأماكن التي يستخدمها الإرهابيون كملاذات آمنة.

يتم التحقق من طموحات إيران النووية من قبل إسرائيل ودول الشرق الأوسط الأخرى والولايات المتحدة، كما ان العقوبات التي يفرضها المجتمع الدولي على إيران، والضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة سيؤتي ثماره، لا يمكن أن تسمح الدولتان ولا باقي الدول في المنطقة لإيران بامتلاك أي رؤوس نووية، وإن حصل ذلك سيتغير الشرق الأوسط كله إلى الأبد بطريقة لا تصب في مصلحة الولايات المتحدة على الإطلاق.

ستستمر الولايات المتحدة في كونها قوة مهيمنة على مدار العقد القادم على الأقل، ولكن مع تغير التكنولوجيا، وبما أن المنطقة تمر بالعديد من الحروب والاضطرابات، يجب أن تقرر الولايات المتحدة أي نوع من الاستراتيجيات الكبرى عليها أن تنتهج: هل استراتيجية الموازنة الخارجية، أم استراتيجية المشاركة الانتقائية، أم استراتيجية الأمن التعاوني، أم استراتيجية الهيمنة المطلقة. لكل استراتيجية جوانب إيجابية وسلبية لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة الآن في عهد بايدن تقوم بإعادة تقييم استراتيجيتها للعقد القادم، والأيام ستظهر أي هذه الاستراتيجيات ستنتهج.

المراجع:


Bar-Siman-Tov, Y. (1998). The United States and Israel since 1948: A "Special Relationship"? Diplomatic History, 22(2), 231-262. doi:10.1111/1467-7709.00115

Brands, H. (2014, June 23). Breaking Down Obama's Grand Strategy. Retrieved December 18, 2020, from https://nationalinterest.org/feature/breaking-down-obamas-grand-strategy-10719

Freedman, R. (2004, April). THE BUSH ADMINISTRATION AND THE ARAB-ISRAELI CONFLICT: THE RECORD OF THE FIRST THREE YEARS. Retrieved December 18, 2020, from https://www.jcpa.org/jl/vp516.htm

Freeman, C. W., Quandt, W. B., Anthony, J. D., & Muasher, M. (2013). Symposium: U.S. Grand Strategy in the Middle East: Is There One? Middle East Policy, 20(1), 1-29. doi:10.1111/mepo.12000

Lasher, K. J., & Rinehart, C. S. (2016). The Shadowboxer: The Obama Administration and Foreign Policy Grand Strategy. Politics & Policy, 44(5), 850-888. doi:10.1111/polp.12175

2017 National Security Strategy of the United States of ... (2017). Retrieved December 18, 2020, from https://ge.usembassy.gov/2017-national-security-strategy-united-states-america-president/

Yetiv, S. A. (2008). The absence of grand strategy the United States in the Persian Gulf, 1972-2005. Baltimore, MD: Johns Hopkins University Press

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*